أطباء مستشفى الأمراض العقلية ببغداد يستخدمون أساليب قديمة في العلاج.. ويتعرضون

يلجأون للصعقات الكهربائية لعلاج المرضى.. ويعانون نقصاً في الأدوية

رجل يقف بالقرب من شقيقه في مستشفى ابن رشد ببغداد اول من امس (رويترز)
TT

كل مرة يستقبل فيها طبيب الامراض النفسية العراقي شعلان جودة رسالة تهديد على هاتفه الجوال تضيف اليه لمحة عن الرعب الذي يسيطر على عقول مرضاه. «سنقطع رأسك»، او «خمس طلقات ستقتلك»، او «سيكون مصيرك نفس مصير زملائك». فيما يقرأ التهديدات يهز جودة، وهو أحد أبرز الاطباء النفسيين في العراق رأسه عاجزا عن التصديق. انه لا يستطيع أن يفهم لماذا يريد اي أحد أن يقتله، وهو الطبيب المتفاني في مساعدة الناس على التعامل مع آلام الامراض العقلية. لكن هذا هو العراق حيث الكثير من أعمال العنف وإراقة الدم على مدار الاعوام الخمسة الماضية بحيث لا يستطيع الضحايا او من يحاولون معالجتهم أن يفهموا مغزاه. هذا هو ما يحاول جودة أن يشرحه برفق للمرضى الذين أصيبوا بصدمات عصبية اثر اصابتهم بأعيرة نارية او تعرضهم لتفجيرات أو ضرب أدى بهم الى انهيار جسماني وعقلي.

ويقول تقرير لوكالة رويترز ان معالجة أعداد متزايدة من حالات اضطراب ما بعد الصدمة ناهيك عن الحالات المعقدة مثل الانفصام او الاضطراب ثنائي القطب صعب بما فيه الكفاية بدون التلفت عن يمينه وعن يساره في كل مرة يغادر فيها منزله او عمله. لكن راحة البال حلم بعيد المنال في العراق للأطباء النفسيين القلائل الذين لم يفروا بعد قتل زملائهم ولمرضاهم على حد سواء. كانت لدى جودة خطط كبيرة حين أصبح مديرا لمستشفى ابن رشد للطب النفسي في بغداد الذي كان ذات يوم مصدراً للامل للمرضى النفسيين في البلاد التي عانت من ويلات الحرب ضد ايران في الثمانينات ونحو 30 عاما من حكم الرئيس السابق صدام حسين بقبضة من حديد.

كان يأمل تطبيق نظام حديث في الادارة واعادة تنظيم أنظمة حفظ الملفات أو احراز تقدم جديد في مجال أبحاث الصدمات. لكن حالة الفوضى والاضطراب التي تسود العراق حطمت أحلامه. فعنابر مستشفاه كئيبة وخالية من الاثاث. وهناك نقص في الادوية اللازمة لعلاج الاكتئاب. ويضطر الاطباء الى الاعتماد على آلة للصدمات الكهربائية صنعت في السبعينات لعلاج الحالات الاكثر خطورة.

وبدلا من أن يعثروا على الهدوء تجري تذكرة المرضى النفسيين بالمخاطر القابعة وراء بوابات مستشفاهم كلما رأوا رجال الامن وهم يقومون بدوريات في المنطقة. وقال جودة وهو يجلس في مكتبه البسيط المظلم يقلب في الملفات «لا نملك المال فحسب»، ويأسف لتراجع مهنته منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003.

العراق الذي كان يفخر بامتلاكه بعض أفضل المنشآت الطبية في العالم العربي، يقدر جودة الآن أن عدد الاطباء النفسيين الذين بقوا لشعبه البالغ عدده 27 مليون نسمة هو حوالي 80 طبيباً. ويجب أن يعتبر العراقيون الذين يدخلون المستشفى أنفسهم محظوظين. فكثير من الناس الذين تفاقمت حالاتهم المرضية بسبب تفجيرات القنابل على الطرق او خطف أقاربهم وأصدقائهم لا يستطيعون الوصول الى مستشفى ابن رشد وسط بغداد قط. فلا يشغل المرضى سوى 20 سريرا من جملة 74.

وقال جودة الذي بدا وجهه منهكا بسبب الضغط الذي يعانيه مما يجعله يبدو في سن اكبر من سنه الحقيقية، وهي 43 عاما، «نستطيع أن نساعد الناس في بغداد.. لكن أعدادا متناقصة من المرضى تستطيع الحضور لانهم يخشون السفر الى بغداد. انهم يخشون من أن يقتلوا على الطرق». وترغب كريمة جاسم في خوض المجازفة بعد أن أعيتها الحيل لتخفيف حدة الاكتئاب الذي تعاني منه ابنتها. لكن في الاونة الاخرة قللت المشاكل المالية من معدل هذه الزيارات. وكانت سيارة للجيش الاميركي قد صدمت حصاناً، كانت أسرتها تستخدمه لنقل السلع الى متجرها. وأجبرهم فقد الحصان على اغلاق تجارتهم التي كانت تعتمد على بيع السلع الغذائية الأساسية والآن تستجدي المال من المارة في الشوارع حتى تستطيع إحضار ابنتها الى المستشفى.

وتقول كريمة وقد وضعت يديها على صدغيها لتوضح كيف تجري العملية «ابنتي تعالج بالصدمات الكهربائية. انها مؤلمة لها للغاية. أسنانها تصطك». ويصعب تصديق أن جودة الذي يواجه هذا الكم الهائل من معاناة البشر لا يحتاج هو شخصيا الى طبيب نفسي. ويقول انه اعتاد الامر. ويعلم جودة أنه يمكن أن يقتل في أي لحظة مثلما توضح الرسائل النصية المرعبة لكنه يعتزم البقاء. ومضى يقول «لن أرحل. انني غير مؤمن بهذا. وظيفتي هي مساعدة الناس».