الرخام الباكستاني يبقي طالبان على قيد الحياة

فرضت ضرائب على شاحنات المحاجر وحولت المناطق القبلية إلى أكثر من مجرد موقع لمعسكرات التدريب

كل شاحنة تخرج من محجر زيارات تعني مزيدا من الدولارات في جيوب طالبان («نيويورك تايمز»)
TT

وقف جبل الرخام الأبيض لامعاً في ضوء الشمس في بهاء، ما جعله كما لو كانت الثلوج تغطيه. وعلى امتداد أربع سنوات، ظلت ثروات هذا الجبل أسيرة للمشاحنات القبلية وانعدام الكفاءة الحكومية في التعامل مع هذه المنطقة القبلية من باكستان.

بيد أنه في أبريل (نيسان)، ظهرت طالبان وفرضت يداً صارمة على المنطقة، حيث نجحت في إنهاء التشاحنات بين القبائل، وفرضت ضريبة على جميع الشاحنات المارة بالمنطقة والتي تنقل ثروات من المحجر القائم بالجبل. ومنذ ذلك الحين، حرص مير زمان، وهو مقاول ينتمي إلى قبيلة مسعود التي وقع اختيار طالبان عليها لإدارة المحجر، بمتابعة ومراقبة الشاحنات التي تخرج من المحجر محملة بأحجار ضخمة متجهة إلى مصانع صقل الرخام بالمدن القريبة.

من جهته، أوضح زمان أنه: عندما يتعلق الأمر بطالبان، فإن المسألة لا تصبح أنها تطلب منا شيئاً، وإنما تأمرنا بالقوة، مضيفاً أن المحجر بات يعمل الآن على الأقل.

وتعتبر السيطرة على محجر زيارات للرخام، أحد الأصول الوطنية الثرية، يمثل واحداً من أجرأ الأمثلة على كيف تمكن طالبان من تحويل المناطق القبلية الباكستانية إلى أكثر من مجرد موقع لمعسكرات التدريب الخاصة بها أو منصة لإرسال القوات إلى داخل أفغانستان.

وخلال واحدة من الزيارات النادرة للمنطقة في الشهر الحالي، احتجزت طالبان على مدار يومين مراسلا حرا يعمل لحساب صحيفة «نيويورك تايمز»، الأمر الذي كشف عن مدى السيطرة التي فرضتها الجماعة على المنطقة، معتمدة في ذلك على الأموال التي تجنيها من وراء سيطرتها على المنطقة وعملها على التحول إلى جماعة عسكرية تدعم نفسها بنفسها مادياً، وقد نجح هذا المحجر وحده في توفير عشرات الآلاف من الدولارات للجماعة.

ويكشف استيلاء الجماعة على المحجر كيف أنه خلال الشهور الأخيرة ومع انسحاب القوات العسكرية الباكستانية، تمكنت طالبان من تمديد نطاق نفوذها بشمال باكستان، تحديداً الإقليم المعروف باسم المناطق القبلية الخاضعة للإدارة الفيدرالية.

واليوم، لم تعد طالبان تكتفي بتسوية النزاعات التي تنشأ بالمنطقة فحسب، وإنما أيضاً تفرض ضرائب وتتورط في تهريب المخدرات والمواد الممنوعة والمهربة الأخرى، علاوة على فرضها نمط العدالة القاسي الخاص بها ومعه المحاكم والسجون التابعة لها.

وتعمد طالبان من داخل المنطقة القبلية إلى إرسال مقاتليها والانتحاريين إلى اتجاهين: ضد قوات حلف الناتو والقوات الأميركية بجنوب أفغانستان، وضد القوات الباكستانية ـ من قوات شرطة وجيش واستخبارات ـ داخل المدن الباكستانية الكبرى.

ويقع المحجر القائم هنا بضاحية موهماند القبلية في موقع استراتيجي بين مدينة بيشاور والحدود الأفغانية. ويأتي الاستيلاء على المحجر في إطار جهود جديدة تبذلها «القاعدة» للسيطرة على الموارد الطبيعية الثرية في المنطقة المتميزة بالعديد من مناجم الفحم والذهب والنحاس والكرومات.

إلا أنه من بين جميع المعادن المتوافرة بالمناطق القبلية، يعد الرخام المتوافر بـزيارات أقيمها لاستخدامه في صناعة الأرضيات والجدران الفاخرة داخل باكستان، كما يجري تصديره إلى الخارج بكميات محدودة.

وعلى امتداد السنوات الكثيرة الماضية، أخفقت هيئة التنمية بالمناطق القبلية الخاضعة للإدارة الفيدرالية في الاضطلاع بدور الوسيط في النزاع الدائر بين قبائل مسعود وجورباز على حقوق استخراج الرخام، وذلك حسبما اعترف مسؤولون من الحكومة الباكستانية على معرفة بتطورات قضية المحجر. ورفض المسؤولون الإفصاح عن هويتهم.

يذكر أنه في العام السابق عرضت شركة تنمية الأحجار الباكستانية، وهي إحدى شركات التعدين بالبلاد، الاستثمار في المحجر من خلال شراء معدات حديثة، لكن الهيئة التنموية أخفقت في تسوية النزاعات المحيطة بالمحجر.

وقد اتسمت النزاعات بحدة بالغة لإدراك القبائل جيداً لجودة ونقاء الرخام المتوافر بالمنطقة، مقارنة على سبيل المثال بالرخام الإيطالي، وذلك طبقاً للتقديرات الصادرة عن الهيئة التنموية.

من ناحيتها، أبدت طالبان حرصها على المشاركة في هذا النشاط التجاري المربح. وكان من شأن الوحشية التي اشتهرت بها الجماعة وضعف السلطات الحكومية المحلية السماح لـطالبان بتسوية النزاعات في غضون فترة قصيرة.

وأصدرت طالبان حكمها بان منطقة الجبل القائم في زيارات ينتمي لفرع مسعود من قبيلة صافي الرئيسية، مشيرة إلى قبيلة جورباز سيتم منحها جبلا آخر، حسبما ورد على لسان زمان، المقاول.

وأوضح زمان أن المنطقة الجبلية التي حصلت عليها قبيلة مسعود تم تقسيمها إلى 30 جزءا، بحيث حصلت كل ست قرى بالمنطقة على ستة من الأجزاء الثلاثين. وطالبت طالبان بالحصول على عمولة قدرها حوالي 1.500 دولار عن كل جزء، ما يمنح المتمردين 45.000 دولار.

وأضاف زمان أن طالبان طالبت بضريبة قدرها حوالي 7 دولارات على كل حمولة شاحنة من الرخام، ومع استمرار تدفق الشاحنات من المحجر، تجمع طالبان اليوم ما يصل إلى 500 دولار يومياً.

وأكد صحة هذه المعلومات مسؤول باكستاني بارز ورجل أعمال باكستاني معني بمجال صناعة الرخام، لكن رفضا الكشف عن هويتهما خوفاً من انتقام طالبان.

في الوقت الحاضر، يعمل المحجر بصورة بدائية نسبياً حيث يجري تفجيره باستخدام الديناميت، ما يضر بالرخام ويقلل بصورة بالغة من كفاءة عملية الإنتاج، ومع ذلك، فإن إعادة فتح المحجر عاد بالربح على الكثير من الأطراف.

من جهتها، تستفيد القبائل المحلية إلى جانب طالبان من عمل المحجر. وقال زمان إنه بمجرد وصول الشاحنات إلى مصانع التصنيع والصقل، تجني الحكومة هي الأخرى ضرائب ضخمة، تعادل ضعف ما تحصل عليه الجماعة تقريباً، لكن لم نتمكن من التحقق من صحة هذا القول.

وأكد زمان أنه حتى الآن تفرض طالبان رقابة شديدة على عمل المحجر، حيث يتولى أحد مسلحيها الحراسة في نقطة قريبة من كوخ زمان لضمان دفع الضرائب.

يذكر أن طالبان اليوم باتت تشكل منظمة مهلهلة تنتمي غالبية عناصرها إلى البشتون وتنقسم إلى جناحين أحدهما على الجانب الباكستاني والآخر بالجانب الأفغاني من الحدود. ويعرف زعيم الجماعة، محمد باسم أبوولي، وهو أحد المقاتلين المتمرسين في حرب العصابات ويبلغ الثلاثينات من العمر وتسلطت عليه الأضواء العام السابق عندما تمكنت جماعته من احتلال ضريح مشهور بقرية غازي أباد في موهماند.

ويرتبط أبوولي بالقائد الأكبر لـطالبان الباكستانية، بيت الله محسود، وهو حليف قوي لـ«القاعدة» ويحتفظ بقاعدة له داخل وزيرستان، وهي جزء آخر من المناطق القبلية.

وتتعاون طالبان مع «القاعدة» ونجحت في إحكام قبضتها على الكثير من أجزاء المناطق القبلية خلال السنوات الأخيرة عن طريق ترويع أو قتل مئات الزعماء القبليين المحليين الذين شكلوا السلطات التقليدية بالمنطقة.

في موهماند، تمكنت طالبان من تعزيز سيطرتها بسرعة على المنطقة. ومن خلال ذلك، ملأت الجماعة الفراغ الذي فرغته الحكومة المتذبذبة في مواقفها والعاجزة أو المترددة حيال فرض سلطتها على المنطقة، حسبما يرى منير أوركزي، عضو البرلمان عن منطقة كرام، بجنوب غرب موهماند، إحدى الضواحي، أو الوكالات، السبع التي تتألف منها المناطق القبلية.

وقال أوركزي: داخل كل وكالة، تمثل طالبان العنصر الأقوى، لأن أي شخص يعلن تأييده للحكومة سيتعرض للقتل.

واستطرد موضحاً أنه في الوقت ذاته يسود اعتقاد لدى أبناء المناطق القبلية أن هناك قطاعات داخل الحكومة الباكستانية تشجع طالبان على المضي قدماً نحو السيطرة على السلطة.

ونوه أوركزي بأنه حضر مؤخراً اجتماعاً مع رحمن مالك، وزير الداخلية الباكستانية، وزعماء قبائل بيشاور، عاصمة الإقليم الحدودي الشمالي الغربي.

وقال أوركزي: تساءل رحمن مالك عن السبب وراء امتناع سكان المناطق القبلية عن محاربة طالبان. وأخبرته أن الناس تعتقد بوقوف الحكومة في صف طالبان. وقلت له أخبر العامة بما تفعله، وإذا صدقوا أن الحكومة لا تقف خلف طالبان، سيحاربونها.

وأكد أوركزي أن قوة ونفوذ طالبان تتنامى بشكل بالغ خلال الشهرين الماضيين، بحيث أصبح من الخطير للغاية بالنسبة لأعضاء البرلمان من أبناء المناطق القبلية العودة إلى دوائرهم الانتخابية التي يمثلونها.

وتعتبر مدينة غالاناي، عاصمة موهماند، الجزء الوحيد المتبقي تحت سيطرة الحكومة بلا منازع. ويوجد لدى الوكيل السياسي، وهو ممثل الحكومة داخل الإقليم الحدودي الشمالي الغربي، منزل ومكتب بالمدينة، إلا أن سلطته لا تكاد تمتد إلى خارج حدود المدينة، ويفتقر إلى القدرة على توفير الخدمات الحكومية اللازمة للتخفيف من حدة مشكلات الفقر بالمنطقة.

وبجانب المجمع الذي يقطن ويعمل به، يوجد مستشفى لم يتم استغلاله حتى الآن، بسبب رفض الأطباء العمل هناك لتدني مستوى الرواتب وانعدام الأمن، الأمر الذي ترتب عليه انهيار الأوضاع الصحية بالمنطقة.

وأكد أوركزي ومسؤولون محليون آخرون أن عجز الحكومة وضعفها أسفر عن وقوف الأفراد العاديين بلا حول ولا قوة في مواجهة التهديد الصادر عن طالبان، مشيرين إلى أن معظم العائلات أسهمت بفرد واحد على الأقل في قوات طالبان، ما يشكل في الغالب إجراء احترازيا للحماية ضد المسلحين.

واجتذبت المنطقة عناصر مسلحة أخرى من مناطق قاصية أيضاً. ويتزايد إقبال المقاتلين الأجانب على الدخول إلى المنطقة، حسبما أكد المسؤولون الأميركيون، إلا أن مقاتلي طالبان الذين التقينا بهم داخل موهماند أشاروا إلى أنهم قدموا من مختلف أنحاء باكستان، ما يكشف أن نفوذ طالبان يمتد إلى قلب البلاد.

وقال بعض مقاتلي الجماعة إنهم أتوا للعمل مع طالبان خلال فترة الصيف من مدن مثل كراتشي وروالبيندي، حيث يديرون متاجر لبيع الطعام أو يعملون في الفنادق، وأوضحوا أنهم سيعودون إلى مدنهم الأصلية مع بداية الشتاء عندما تغلف الثلوج الجبال بالمناطق القبلية.

من ناحيتها، لا تبذل قوة الأمن الحكومية المرابطة بالمنطقة والمعروفة باسم فيالق الحدود، وهي جماعة شبه عسكرية تعمل في ظل قيادة الجيش الباكستاني، الكثير من الجهود للتصدي لـطالبان داخل المناطق القبلية، رغم اندلاع مناوشات بينهما من وقت لآخر. وعلى الطريق الممتدة إلى الشمال من غالاناي، لا تقوم فيالق الحدود بدوريات، ونجحت طالبان في بسط سيطرة محكمة لها على بعد 25 ميلاً من المدينة.

بالنظر إلى هذا الضعف البالغ الذي تتسم به الحكومة الباكستانية، تم القبول بـطالبان باعتبارها القوة الحاكمة داخل الكثير من قطاعات المناطق القبلية، حسبما أشار المسؤولون. ووصلت الجماعة إلى درجة من النفوذ والسلطة جعلها تنفذ عمليات الإعدام علانية في مواجهة غياب حكم القانون عن الإقليم.

وأوضح عدد من الأعضاء البرلمانيين الذين يمثلون المناطق القبلية أنه داخل موهماند، فرضت الجماعة المزيد من القيود على النساء داخل مجتمع محافظ بالفعل، حيث منعتهن من الخروج إلى الحقول وأمرت بحلق شعر رأس أية امرأة تقدم على الاستهزاء بأوامر الجماعة.

داخل منطقة تعرف باسم تشيناراي، على بعد ساعتين بالسيارة عن الحدود الأفغانية، تقيم طالبان سجناً، تم احتجاز مراسل ومصور الصحيفة به. وفي أحد الأيام القريبة، كان بالسجن قرابة اثني عشر شخصاً مكبلين بالأغلال ومحتجزين في غرف مظلمة ضيقة.

وفي مؤشر على وجود بعض التوتر داخل صفوف الجماعة، انتمى العديد من المحتجزين إلى طالبان ذاتها، وكان أحدهم من أقارب أحد القيادات الكبرى بها. أما حياة المسجونين، فمتقشفة على أفضل تقدير، حيث تم حرمانهم من الهواتف الجوالة، التي تمثل أهم المقتنيات على الإطلاق بالنسبة لأعضاء طالبان. وتألف الطعام الذي يتم تقديمه للمسجونين من أرز وخضروات رديئة الصنع. وعلى ما يبدو، يتم الاحتفاظ بالصابون فقط للاستحمام، وليس لتنظيف أواني الطهي.

من ناحيتهم، قضى مسؤولو طالبان وقتاً مطولاً في مناقشة كيف ينبغي معاقبة المسجونين طبقاً لما تقتضيه الشريعة التي تفرضها الجماعة. يذكر أن أحد المحتجزين مشتبه في تعاونه مع الجيش الأفغاني، بينما يواجه آخر اتهاماً بتمزيق إخطار صادر عن طالبان.

وتم إخراج أحد المتهمين بالاختطاف من السجن وضربه حتى اضطر للاعتراف بالجريمة المنسوبة إليه. جدير بالذكر أن موهماند تحولت مؤخراً إلى معقل لعمليات الاختطاف بغية الحصول على فدية، ويبدو أن هذا النشاط الجديد تحول إلى مصدر دخل آخر مهم بالنسبة لـطالبان، إلا أن محجر زيارات للرخام سيشكل بالتأكيد مصدراً أهم بكثير للمال، حسبما يؤكد الكثير من أبناء المنطقة، وذلك رغم الحالة المتردية التي يعاني منها. ودفع ذلك أحد أبناء القبائل، وهو بهادر، ويعمل بالمحجر إلى التوقع بأنه: إذا ما استمر هذا الحال لعامين آخرين، سيتمكنون من السيطرة على أميركا ذاتها، في إشارة إلى أعضاء طالبان.

* خدمة «نيويورك تايمز»