بيت الطين في نجران.. تاريخ يحفظ للإنسان والبيئة حياتهما

ارتبط بتاريخها العائد إلى ما قبل الميلاد.. و الحجر والطين والأخشاب أهم مقوماته

البيوت الطينية في نجران تبرز سمات وعادات وحياة أهالي وسكان المدينة (بعدسة الفنان الفوتوغرافي: سليمان العضيب)
TT

تمثل رائحة البرتقال الممزوجة ببيوت الطين المجاورة لمزارع مدينة نجران (جنوب غربي البلاد) إحدى مكونات «الأوكسجين» المغذي لرئة أهالي وسكان المدينة المحاطة بمزارعها الحمضية، وبيوتها الطينية التي تعد إرثا ووسيلة لربط ماضيها المختزل بتقاليد الأجيال المتعاقبة في تكوين شخصية البيت النجراني، وحاضرها الواقع تحت الهيمنة التقنية العالمية.

والعمر الزمني للبيت النجراني الطيني مرتبط بتاريخها العائد إلى ما قبل الميلاد، فمع مرور القرون والعصور عليها، ورغماً عما شهدته من تقلبات دينية وسياسية واجتماعية واقتصادية، ظل بيت الطين هو شخصية الرجل النجراني.

واستفادت منطقة نجران من حضارتها التي استمرت فترة طويلة، مما أدى إلى وجود طراز معماري متعدد، كان الحجر والطين والأخشاب أهم مقوماتها، حيث تتم عملية البناء بان تحدد قطعة الأرض المراد إقامة البيت فوقها ثم توضع خيوط لتحديد أساس البيت وبعد ذلك يحفر في الأرض بعمق مترين أو اقل أو أكثر بعدها يبدأ بوضع الأساس المسمى «وثر». ويسمى بيت الطين في نجران بـ«درب»، ومن أبرز المواقع التاريخية الموجودة في نجران وتم بناؤها وفق الشكل التقليدي للبناء النجراني قصر الإمارة التاريخي الذي يعد نموذجاً للعمارة التقليدية في المنطقة، وكذلك يمثل فترة مميزة من تاريخ الدولة السعودية في عهدها الثالث حيث استخدم مقراً للإمارة وبعض الإدارات الحكومية الأخرى والمبنى على شكل قلعة ذات أسوار عالية أقيمت في أركانه الأربعة أبراجا دائرية للمراقبة ويضم حوالي 60 غرفة، وبئراً قديمة مطوية بالحجارة، ومسجدا داخل أسوار القصر.

وتعتبر البيوت الشعبية في نجران من أجمل وأدق المعمار الشعبي في العالم لاحتوائها على مجموعة من الأسس المعمارية المرتبطة أساساً بالعمارة الشعبية، وخاصة الأسس الأصيلة التي ابتكرها الخيال الشعبي التلقائي لخدمة البيئة والحياة. ويأتي من أهمها ارتباط العمارة الشعبية بخامات البيئة والاستفادة الكاملة من موفورها، وتحمل العمارة الشعبية تبعات السنين لمرونتها مع البيئة المحيطة بها وتأكيد الخدمات الإنسانية وتوزيعها بشكل دقيق لمواجهة مصاعب البيئات المختلفة من مناخ إلى تقلصات.

وكذلك الاكتساء بمظاهر الفتنة والجمال ذات المذاق التلقائي النابع من صدق وبساطة العمارة الشعبية وإظهارها الشخصية المتميزة لكل بيئة، بالإضافة إلى إبراز السمة التاريخية التي تربط البيوت الشعبية بتجارب وعادات وحياة الإنسان في كل العصور.

والبيوت الشعبية أو الطينية النجرانية تعرف ضمن تصميمين معروفين، من حيث الشكل الخارجي، وهما عبارة عن شكل مستطيل ذي ارتفاع شاهق كالمسلة التي تضيق جوانبها بازدياد ارتفاعها الذي يدفعها بأن تصبح مائلة، بميل بسيط عن الأرض، كبرج «بيزا» المائل في العاصمة الإيطالية في روما، بهدف أن تكون قاعدته أعرض من قمته.

بينما يتمثل الشكل الثاني في خط رأسي مستقيم لا تتخلله انكسارات ويتكون هذا النوع من مجموعة من الطوابق تصل أحياناً إلى ثمانية وتسعة طوابق، وهذا التصميم كان شائعاً في القرون السابقة بمنطقة نجران.

و«وثر»، هو عبارة من الحجارة والطين، يوضع في ما يعرف باسم «المدماك»، الذي ينفذ على مدى مرحلتين، وهي وسيلة بناء قديمة تمزج فيها الحجارة مع الطين مبللة في المياه في إطار حجري على شكل مستطيل، وبعد الانتهاء منه يترك لمدة يوم حتى تجف وذلك في موسم الصيف فقط، بينما في فصل الشتاء، يترك على مدى يومين أو ثلاثة أيام.

وبعد الانتهاء من البناء تتم عملية «الصماخ» وهي ما تعرف في الوقت الحاضر باسم «التليس» للبناء من الأسفل، بينما يمثل سقف المنزل الطيني النجراني عبارة عن خشب من جذوع وسعف النخيل وأشجار الأثل أو السدر.

وبعد مرور 15 يوماً على إعداد الأحجار الطينية عبر «المدماك» و«الصماخ»، يبدأ العمل على إعداد «القضاض» وهو الجير الأبيض الذي يثبت أركان البيت ويزينها مع اللون الطيني، ليتم الانتهاء من بناء المنزل بـ «التليس» مجددا، ولكن هذه المرة بالطين، وعملية «التعسيف» وهي عملية الدرج. ورغم اعتبار عملية البناء للبيت النجراني منتهية، إلا إن هناك إضافات يتم وضعها إما لجمال المبنى أو لحمايته أو لحفظه، حيث تقام في بعض الغرف ما يسمى بـ«الدكة»، وهي خاصة لكبار السن ويوضع في جدار الغرف ما يسمى بـ«الكوة» وهي لوضع الكتب أو المصباح.

ويعمل في طرف الغرفة ما يسمى «الصفيف» لوضع الأكل فوقه، ولحماية البيت من الملوحة الأرضية والمياه يوضع ما يسمى بـ «الحذوة» وهي من الحجارة والطين تنشأ للبناء من خارجه.

ومن أبرز التراث المعماري النجراني أيضا قصر «العان» الذي شيد على قمة احد الجبال ويعد من العمارة التقليدية المشيدة من الطوب اللين والطين، وله دور في التاريخ الحديث لجنوب الجزيرة العربية.