«حرب الأفكار» داخل معتقل بوكا.. ومدرسة إسلامية لتعليم «الإسلام الصحيح»

مستشفى بوكا «الأحدث» في العراق يرقد فيه الأميركيون ومتهمون بالإرهاب (3)

TT

«حرب الأفكار» هذا فعلا ما يحدث داخل معتقل بوكا، لكنها حرب تجري بالخفاء، فكل جهة تريد نشر أفكارها أو على الأقل الاحتفاظ بها، فيما تسعى أخرى إلى دحض أفكار الآخرين أو التقليل منها، وهو أمر أخذه الاميركيون بعين الاعتبار ويولونه أهمية كبرى، «فلا فائدة من سجن شخص لفترة معينة من دون أن نغيره للأفضل والأحسن وتخليصه من الأفكار التي يمكن أن تستغل ضد الناس وحتى الأميركيين أنفسهم»، بحسب ضابط أميركي.

ووجدت «الشرق الاوسط» من خلال زيارتها للمعتقل ان الاميركيين حققوا بعض النجاح بمهمتهم من خلال إخضاع المتطرفين لبرامج أسموها التثقيفية، وفسحوا لنا المجال لرؤية شخص وصفه الاميركيون بـ«المفاجأة»، لأنه تحول بأفكاره من التطرف الشديد إلى المعتدل، لا بل نذر نفسه وجهوده وما يملكه من علوم الدين لتغيير أفكار المتشددين داخل المعتقل، ويقوم أيضا بتدريس الشيعة والسنة مادة الإسلام الصحيح، بحس المسؤولين عن السجن. وكانت القوات الاميركية قد ألقت القبض على الشيخ عبد الستار مرتين بتهمه الإرهاب، وفي المرة الأخيرة قرر أن يتحول إلى أستاذ في مدرسة بوكا الإسلامية ومهمته تصحيح أفكار المعتقلين. وبين احد المقربين من الشيخ عبد الستار انه كان من بين المتشددين، لكنه في المرة الثانية للاعتقال قرر الانضمام للمدرسة بصفة مدرس بكامل حريته، وانه يقوم الآن بتدريس العلوم الإسلامية للطلبة الشيعة والسنة. وأكد لنا الشيخ عبد الستار أن «غايتنا هنا هي بث روح المحبة بين الطوائف وجمعهم تحت راية لا إله إلا الله ، كما أن مناهج الدراسة واحدة».

وعن كيفية تعامله مع المتشددين وقدرته على تغيير أفكارهم، بين أن «الرسول الأعظم (ص) لم يتعامل مع أشخاص جيدين في بادئ الأمر، فكان العرب قبل الإسلام يأتون كافة أنواع المنكرات، يأكل القوي منهم الضعيف يشربون الخمر ويوئدون البنات، وهنا عمل الرسول مع هؤلاء الناس، وهنا تكون مهمتنا الرئيسية التعامل مع السيئين وهدايتهم وليس التعامل مع الناس الطيبين، كما أننا لا نعلم الدين لأناس يأتون المساجد لأنهم أصلا يسيرون على طريق الهداية، بل علينا هداية الذين وقعوا ضحية للضلالة، كما أن اغلب الطلبة هنا من غير المتشددين، وهناك خطط لدمج الجميع مع بعض والتقليل من تشدد البعض، وعملنا سابقا على جلب أعداد من المتشددين لرؤية المدارس، فيبدأون بتذوق متعة الاختلاط مع الآخرين ويبدأون بفتح أعينهم وعقليتهم، وهنا قد يقررون العودة لحالتهم الاعتيادية والابتعاد عن التشدد وكسر طوق الانعزال بداخلهم، ونحن هنا لسنا مدرسة فقهية بل ندرس الدين الصحيح».

وعند سؤاله عن انه يرى نفسه محميا من تأثير المتشددين، الذين لديهم القدرة على تغيير الأفكار، ولكن ماذا عن الاخرين، عندها فضل العقيد جونز الإجابة بدلا من الشيخ عبد الستار، وقال «إن الذين تقصدهم أي الذين يتمتعون بقدرة على السيطرة على أفكار الآخرين ليسوا بالعدد الكبير، بل أعدادهم قليلة جدا في معتقل بوكا، ولهذا بدأنا بجلبهم على شكل دفعات صغيرة لهذه المدرسة ونتركهم مع الآخرين وهنا يبدأون بتذوق متعة الاختلاط مع الآخرين، وقسم منهم فضل البقاء في المدرسة والتعامل مع الآخرين، لأنه شعر داخليا بعدم جدوى انعزاله، وقسم منهم تحولوا إلى معتدلين، والفكرة الرئيسية عدم بقائه أعمى وعلينا فتح بصيرته فيقوم بقراءة القرآن بالشكل الصحيح والتعرف على التعاليم الصحيحة للدين الإسلامي، بعدها يعود لجماعته ويحدثهم، وهكذا يبدأ التأثير تدريجيا للتقليل من تشددهم». وعن ظاهرة الانتحاريات، بين الشيخ عبد الستار أن «أهم نقطة يستغلها المتشددون في النساء هو الجهل، لحملهن على القيام بهذه الأعمال. وثانيا الأموال التي لها تأثير قوي على الأنفس»، وأضاف ان «من أهم الدروس التي نسلط عليها الضوء في مدرستنا الدينية في بوكا هو هذه الدرجة من التشدد التي تحمل على الانتحار، حيث نقوم بطرحها على الطلبة من مختلف المذاهب ويبدأ النقاش بشأنها وكل واحد يبدي رأيه، ونحن نقوم بتوجيه آرائهم من الناحية الفقهية الصحيحة التي نصت عليها التعاليم الإسلامية وتصحيح الأفكار الخاطئة التي حرفها البعض لتلائم مصلحة ذاتية أو جهات معينة».

وتطرق عبد الستار إلى قصة حدثت معه حيث التقى في إحدى المرات بشخص كان مساعدا للقيام بعملية انتحارية، وعند سؤاله عن سبب إقدامه على القيام بهذا الفعل وقتل نفسه، أجابه الانتحاري «أنا فكرت كثيرا قبل اتخاذ هذا القرار، فلو عملت عمري كله فلا استطيع جمع مبلغ 100 ألف دولار، وأنا حالتي فقيرة وعائلتي تعيش دون الكفاف ولهذا فكرت بالتضحية بروحي في سبيل تأمين هذا المبلغ لعائلتي»، وهنا فسر عبد الستار قول الأخير بأنه «يحمل دوافع مادية بحته وبعيدا عن الأفكار والدين وكل شيء، ولو تمكنا من حث الجميع على العمل وتأمين فرص العيش الكريم لهم لاستطعنا تقويتهم أمام التأثير المادي، وألا يقعوا ضحية لجهات هدفها التخريب والموت والقتل». ومن جهته، قال مدير المدرسة العقيد جوينز، المسؤول عن المدرسة والقسم الزراعي والديني، «بدأنا بخيمتين وبعشرين طالبا والان لدينا مدرسة كبيرة بناها الطلاب أنفسهم بعدة صفوف وبأكثر من 4000 طالب الآن، تبدأ من الصف الأول الابتدائي وتنتهي بالخامس، والامتحان يجري عبر وزارة التربية العراقية وشهاداتهم معترف بها»، وأضاف «هدفنا تعليم البعض منهم القراءة والكتابة، وهو أمر نراه جيدا لهم، خلال رمضان سنقلل ساعات الدراسة كي لا نرهق الطلاب، ونعمل حاليا على فتح صفوف للدراسة المتوسطة، لكن بالتنسيق مع وزارة التربية العراقية».

وبين جوينز لـ«الشرق الأوسط»، ان «أدارة السجن استحدثت قبل أيام برنامج تعليم المعتقلين الزراعة، وقمنا بتهيئة ارض زراعية كبيرة لبدء التعليم فيها، ونحن نستعلم من المعتقلين ماذا يريدون أن يعملوا بعد خروجهم من السجن، وتبين لنا أن 60% منهم يرغبون بتعلم الزراعة كونهم من مناطق ريفية»، مضيفا «أننا نعامل المعتقلين في هذه المدرسة كطلبة وحتى وجوههم تختلف داخل الصفوف فيبدون وكأنهم طلبة وليسوا معتقلين، وحتى ملابسنا نغيرها كي نشعرهم بالرغبة في التعلم، وجميع مرافق المدرسة بنيت بأيدي الطلاب أنفسهم بمساعدتنا، وهناك ملاعب لكرة القدم والكرة الطائرة، ويشعرون بحرية اكبر مما لو كانوا في المعتقل القريب من المدرسة، ويتعلمون اللغة العربية والانجليزية والوطنية والجغرافية والعلوم الحياتية، وأعمار الطلبة مختلفة بعضهم تجاوز الأربعين وآخرون 18 عاما، ولا نعلم من الذي سيفتخر بهذا؟ هل هم المعتقلون أم نحن؟ مشيرا إلى أن الطلبة من كلا المذهبين الشيعي والسني وانهم يلعبون كرة القدم معا. وبشأن قلة عدد طلاب المدرسة مقارنة بعدد المعتقلين، بين أن هناك نوعين من المدارس هذه تسمى النظامية، وهناك مدارس فرعية داخل المعتقلات ويبلغ عددها أكثر من 60 مدرسة، لكن الفرق أن مدرسي المدارس الفرعية يدرسون طلبة القاعات من خارج السياج أي يكون هناك عازل بينهم. الدكتور إحسان احد الأساتذة العراقيين مسؤول اللغة الانجليزية بين أن «هناك مستويين من التعليم، ونختبر الطلبة المعتقلين قبل إدخالهم المستويات، ونهيئ لهم مناهج دراسية عراقية زودتنا بها وزارة التربية، ولدينا برامج لعمل الطلبة بشكل مختلط من كلا المذهبين لرسم لوحات مشتركة، وفعلا عملوا جدارية عن حادثة جسر الأئمة في الكاظمية، حيث ضحى بطل العراق بالسباحة عثمان الاعظمي بحياته لإنقاذ أخوته الشيعه من الغرق في دجلة». وفي محطة أخرى بعيدة عن المدارس، توجهنا الى مستشفى بوكا، ورغم أنه شيد داخل المعتقل، لكن يمكن وصفه بأنه الأحدث في العراق من حيث التنظيم والأجهزة والنظافة والعلاجات والكادر الطبي، لكن الغريب أنه بدا خاليا تماما من المراجعين، عدا مريض واحد تبين انه معتقل وادخل العناية القصوى وتحت أشراف مراقبين وأجهزة القلب تحيط به من كل جانب.

ومن جهته، أكد معاون مدير المستشفى العقيد الطبيب بلسنكي صرف أكثر من 50 ألف وصفة طبية خلال هذا الشهر وكلامه هذا يعني ورود ما يقرب من 1700 حالة يوميا. والمستشفى الحديث، بحسب هلسنكي، يحوي جميع الأقسام بـ38 سريرا، من قسم علاج الأسنان والجراحة بكافة أنواعها إلى الإنعاش والعلاج الطبيعي والأمراض الانتقالية، مفاصل وأمراض باطنية وصدرية، إلى أجهزة وأدوية، ويفتح أبوابه أمام المراجعين على مدار الساعة لعلاج أفراد الجيش الأميركي وقوات التحالف من جنسيات أخرى، وأيضا المعتقلين. وأضاف ان «الإدارة تطالب دوما بجلب احدث الأجهزة وآخر ما توصلت اليه التقنيات الطبية والعلاجية وتردها إمدادات بشكل مستمر ولا تعاني من أي مشكلة تتعلق بجهاز أو دواء، فكل شيء متوفر وهذا ما رغب سكان القرى القريبة من بوكا بتفضيل مستشفى السجن على المستشفيات العراقية التي تبعد عنهم مسافات طويلة، وقد لا تحوي ما يحويه مشفى بوكا المتطور. وبين مدير المستشفى انه بدأ مؤخرا باستقبال حالات من المدنيين فهناك قرى قريبة من المعتقل تواجه صعوبة في التنقل ليلا للذهاب لمستشفى البصرة «وهنا نقوم بعلاجهم وبخاصة حالات الحروق، وحتى ان تعذر علاجهم هنا فلا مشكلة من نقلهم لمستشفيات أخرى تابعة لقوات التحالف داخل العراق، مثل مستشفى معسكر بلد في محافظة صلاح الدين، وأيضا نحن مستعدون لمساعدة الأهالي لأكثر من ذلك، فنقوم بجلب ما يحتاجونه من خارج العراق إن استوجب الأمر».

وأشار مدير المستشفى لاى انه «لا تمييز في عملية تلقي العلاج، ولا تستغرب عند دخولك ردهة معينة فتجد جنرالا أميركيا رفيع المستوى نائما وبجنبه معتقل متهم بالإرهاب، وكلاهما سيتلقى ذات الأهمية».