وفاة إيبي ناتان رائد حركة السلام الإسرائيلية.. بعد صراع مع المرض دام 11 عاما

من قائد طائرة شارك في قصف الفلسطينيين في الجليل عام 1948.. إلى داعية للسلام حاول لقاء عبد الناصر في 1966

رائد السلام الاسرائيلي ايبي ناتان في لقاء مع القيادي في حركة حماس في غزة محمود الزهار عام 1996(ا فب)
TT

بعد صراع دام 11 عاما مع المرض، توفي في تل أبيب، ايبي ناتان القائد الطليعي لمعسكر السلام الاسرائيلي، الذي كان قد اعتقل عدة مرات بسبب نشاطاته السلمية، وأبرزها محاولته لقاء الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، سنة 1966 ولقاءاته المتكررة مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.

ونعى ايبي ناتان أمس، العشرات من القادة الاسرائيليين، وليس فقط من معسكر السلام. فقال الرئيس شيمعون بيريس، انه كان «أكبر محتل للقلوب، وأهم المقاتلين ضد الحرب والفقر والظلم». ووصفه رئيس الوزراء ايهود أولمرت، بأنه «محب للحياة وللانسان وللسلام». وقال صديقه الموسيقار زوبين ميتا انه «الانسان الطليعي الذي رسخ في المجتمع الاسرائيلي المفاهيم الأولى للسلام». واعتبره قادة معسكر السلام الاسرائيلي رئيسا روحيا لهم وقائدا طليعيا.

ولد ناتان في ايران في سنة 1927، لعائلة يهودية تعمل في التجارة. نما وترعرع في الهند، بعد أن هاجرت عائلته الى هناك، وخدم في الجيش الهندي وأصبح طيارا عسكريا. في سنة 1948 هاجر وعائلته الى اسرائيل، وتطوع فورا في الجيش الاسرائيلي الناشئ، وعرض نفسه كطيار حربي. وشارك في قصف القرى الفلسطينية في الجليل والساحل، بغية تهجيرها.

في مطلع الستينات، بدأ ناتان ما سماه «إعادة نظر وإعادة حسابات»، وتوصل الى استنتاج بأن الحروب غير مجدية وانه لا بد من صنع السلام، ومنذ تلك اللحظة وهو ينشط في هذا الاتجاه. وسافر الى قرية ترشيحا الفلسطينية في الجليل ليلتقي امرأة عربية كان قد قتل زوجها في الحرب. فاعتذر لها. ووعدها بأن يصرف كل عمره في خدمة قضية السلام. وتوقف فعلا عن الخدمة العسكرية وأقام مطعما له في تل أبيب يدعى «كاليفورنيا»، تحول الى نقطة لقاء لأبرز السياسيين والشخصيات الأدبية والفنية. في سنة 1965، حاول خوض انتخابات الكنيست (البرلمان الاسرائيلي) بهدف التأثير من الداخل على الحياة السياسية. وفي برنامجه الانتخابي، أعلن انه ينوي السفر الى مصر لمقابلة الرئيس جمال عبد الناصر وفتح حوار معه حول موضوع السلام. لكنه فشل. وقرر بعد عدة شهور أن ينفذ وعده، حتى لو لم يصل الى الكنيست. وبالفعل سافر في 28 فبراير (شباط) 1966 الى مصر على متن طائرة لرش المبيدات، استأجرها من شركة تجارية ودهنها باللون الأبيض وكتب عليها بالعربية والعبرية والانجليزية «سلام – 1». واتجه نحو القاهرة.

وانطلقت وراءه طائرات مقاتلة للجيش الاسرائيلي تحاول اعادته الى اسرائيل وراح قائدها يهدده بالمحاكمة، لأنه يشكل ازعاجا للجيش ويكلف أموالا طائلة. لكنه لم يرضخ وواصل الطيران باتجاه القاهرة، لكن المصريين رفضوا استقباله في العاصمة، ووجهوه الى بور سعيد. فنشرت وكالة الأنباء الأميركية ان طائرته تحطمت في الجو، مما اثار ردود فعل عالمية صاخبة وتكهنات حول الجهة التي أسقطته، مصر أو اسرائيل. وهكذا اشتهرت قصته.

في بور سعيد أبلغوه انه ليس بالامكان أن يرى الرئيس، ولكن المحافظ استقبله كمندوب للرئيس عبد الناصر، وتعاملوا معه بمنتهى الاحترام. وفي اليوم التالي طلبوا منه العودة الى تل أبيب. ففعل، وعاد من خلال حملة اعلامية كبيرة. بيد ان المخابرات الاسرائيلية اعتقلته حالما حطت طائرته في تل أبيب. وأجرت تحقيقا معه بهدف محاكمته.

ومنذ خرجه للسجن، قرر ايبي ناتان أن يكرس كل حياته وأمواله لقضية السلام ومحاربة الفقر والظلم. فأقام في سنة 1966 مخيم لاجئين لنصرة الفقراء والجائعين في بيافرا، وفعل الأمر نفسه لاحقا في كل من أثيوبيا والصومال وغواتيمالا. وبعد حرب 1967، راح يطور أدواته النضالية بالمظاهرات والمهرجانات ثم أسس محطة اذاعة خاصة بالسلام في سنة 1973، وعندما منعوه في اسرائيل من البث اشترى سفينة وراح يبث من عرض البحر المتوسط. ويحاول ناتان لقاء رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات، ليؤكد ان في اسرائيل من لا يوافق على الحرب والاحتلال. ولكن لقاءه الأول مع عرفات عقد في أواخر الثمانينات، مع اندلاع الانتفاضة، ثم عقد لقاء ثانيا وثالثا. وبسبب هذه اللقاءات وغيرها سن الكنيست قانونا يمنع اللقاءات مع أية شخصية في منظمة التحرير في سنة 1991. ورد على القانون بالاضراب عن الطعام طيلة 41 يوما، ولم يتوقف إلا بتدخل رئيس الدولة آنذاك، حايم هرتسوغ. وبعد شفائه من هذا الاضراب، تحدى ناتان القانون الجديد، والتقى عرفات من جديد، فاعتقل وحكم عليه بالسجن 15 شهرا، أمضى ثلثيها. ومن سخريات القدر انه في الفترة التي عقد فيها مؤتمر مدريد، بحضور وفد فلسطيني أعلن أنه يمثل منظمة التحرير، كان ايبي ناتان في السجن. وأصدر بيانا يومها قال فيه انه حسب القانون الذي حوكم به، يجب أن يدخل كل أعضاء الوفد الاسرائيلي الى السجن، بمن في ذلك رئيس الوزراء اسحق شامير.

وتدهورت حالة ايبي ناتان الاقتصادية في سنة 1993 فاضطر الى وقف عمل الاذاعة واغراق السفينة. وانتقل الى الولايات المتحدة لكي يكتب مذكراته، إلا انه أصيب بشلل دماغي في سنة 1993 أقعده، ثم أصيب بشلل آخر ولم يعد يقوى على الكلام. وكان يبكي لأن معظم أصدقائه انفضوا عنه والحكومة أهملته ـ «انا أول من حاول صنع السلام مع مصر، ولكن عندما صنعوا هذا السلام لم يدعوني حتى لكي أتفرج. وعندما ذهبوا الى مدريد كنت في السجن. وعندما صافحوا عرفات لم يوجهوا الي الدعوة». ومع أن بيريس شارك في الاحتفال بعيد ميلاده الثمانين، في السنة الماضية، فقد ظل ناتان يشكو من اهماله.