إذا وطئت قدماك مدينة القيروان الواقعة على بعد 150 كلم جنوب العاصمة التونسية، فان أهم ما يشد انتباهك هو قطعا كثرة القباب والمآذن بما يوحي بأنك في مدينة مناخها الأساسي روحي وديني فهي بلا منازع مدينة الثلاثمائة مسجد... ويعتبر مسجد عقبة ابن نافع أحد أعرق المساجد في العالم وأقدمها ومن أهم المعالم الدينية في المغرب العربي وهو ذو معمار جميل وفريد بمئذنته ذات الشكل المتميز وكبر الفناء الذي تحيط به من كل جانب الأقواس المزركشة إلى جانب الباب الخشبي المنقوش الذي يفتح مباشرة على قاعة الصلاة حيث تتوالى الأقواس على أعمدة رومانية ويوحي الشكل الخارجي للجامع بأنه حصن ضخم إذ أن جدرانه سميكة ومرتفعة وشدت بدعامات واضحة... وقد أسس عقبة بن نافع هذا الجامع سنة 50 للهجرة (670 ميلادية) ويستمد تخطيطه من الجوامع الأموية مع الاهتداء بمثال مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، وهو أول مسجد ببلاد المغرب العربي وصار على صورته الحالية سنة 836 ميلادية وقد نقلت عديد المساجد الأخرى تقنية البناء التي اعتمدها هذا المسجد. وكان أول من جدد الجامع هو حسان بن النعمان الغساني الذي هدمه بأكمله ولم يبق سوى على المحراب وأعاد بناءه بعد أن وسعه وقوى بنيانه وذلك سنة 80 للهجرة.
وعرف جامع عقبة ترميمات وتوسعات عديدة باعتباره احد أهم المساجد في الغرب الإسلامي وعلى سبيل المثال قام المعز بن باديس سنة 441 للهجرة بترميم المسجد وتجديد بنائه وأقام مقصورة خشبية لا تزال موجودة إلى يومنا هذا بجانب محراب المسجد. كما قام الحفصيون بتجديد المسجد مرة أخرى بعد غزوة بني هلال للبلاد. وتتميز مئذنة جامع عقبة بشكلها المربع وهي أقدم مئذنة في العالم الإسلامي لا تزال تحتفظ بشكلها الأول بالرغم من التعديلات العديدة التي أجريت على الجامع.
وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن فكرة مئذنة جامع عقبة مستوحاة من منارة الإسكندرية القديمة، حيث التقطها الفاتح عقبة وطبقها في هذا الجامع الذي استغرق بناؤه زهاء خمس سنوات. ويصل عدد درجات جامع عقبة إلى 130 درجة وعندما تصل إلى حوض المئذنة ستجد نفسك حول قبة مخروطية الشكل تحيط بها ممرات ضيقة تطل على مدينة القيروان من جهة الغرب والجنوب. وتعد مئذنة جامع عقبة بالقيروان أقدم مئذنة لا تزال تحتفظ بطابعها القديم وتمثل إلهاما للمعماريين المعاصرين، إذ اقتنصت فكرة بنائها وطبقت من جديد في مئذنة مسجد الحسن الثاني في المغرب التي ترتفع حوالي 200 مترا عن الأرض. وتعد جميع المآذن التي بنيت بعدها في بلاد المغرب العربي على شاكلتها ولا تختلف عنها إلا قليلا ومن المآذن التي تشبهها مئذنة جامع صفاقس ومآذن تلمسان في الجزائر وأغادير والرباط وجامع القرويين في المغرب الأقصى، هذا إلى جانب بعض مآذن الشرق كمئذنة مسجد الجيوشي في مصر.
وجامع عقبة من المعالم الخالدة في العالم الإسلامي وهو أيضا أول بيت للصلاة والتعليم أقيم في المغرب العربي وهو أبو المساجد في الجناح الغربي لدار الإسلام. وصار الجامع مركزا دينيا وسياسيا وعلميا وارتبط علماؤه بالعلماء في المشرق وأصبحت أسماؤهم متداولة أمثال الإمام سحنون وأسد بن الفرات وعبد الله بن أبي يزيد وهم أصحاب نشاط علمي مكثف تأليفا وتدريسا ومناقشة للمسائل العلمية في شتى مجالات الفقه واللغة والأدب. ويعد الإمام سحنون بن سعيد التنوخي المؤسس الأول لمدرسة الفقه المالكي في إفريقيا. ويبلغ طول الجامع 126 مترا وعرضه 77 مترا، أما طول بيت الصلاة فهو في حدود 70 مترا وعرضها حوالي 38 مترا في حين أن الصحن المكشوف له من الطول 67 مترا وعرضه 56 مترا ولهذا الصحن مجنبات عرض كل منها نحو ستة أمتار ونصف المتر، وتغطي بيت الصلاة نصف مساحة المسجد تقريبا، وفي مسجد عقبة ست قباب وهي على التوالي قبة المحراب وهي أقدم قبة بنيت في المغرب العربي، وقبة باب البهو الواقعة على مدخل البلاط الأوسط من جهة الصحن وهي مزخرفة بعناية وبعدها أصبح بناء قبتين في بيوت الصلاة قاعدة ثابتة في مساجد المغرب العربي، وهناك كذلك قبتان تعلوان مدخل بيت الصلاة في الشرق والغرب، وقبة تعلو المجنبة الغربية للمسجد وهناك، قبة في أعلى المئذنة، وتتكون المئذنة من ثلاث طبقات كلها مربعة الشكل والطبقة الثانية أصغر من الأولى والثالثة اصغر من الثانية، وفوق الطبقات الثلاث قبة مفصصة يصل ارتفاع المئذنة في أقصى ارتفاع لها قرابة 31.5 متر.
وتقع المئذنة في الحائط المواجه لجدار القبلة في أقصى الصحن المكشوف وضلع طبقتها الأولى المربعة من أسفل يزيد على 5.1 متر مع ارتفاع يضاهي 19 مترا وتم بناء الأمتار الثلاثة والنصف الأولى منه بقطع حجرية مصقولة بينما شيد باقي جسم المئذنة من بقطع حجرية مستطيلة الشكل تشبه قوالب الآجر.
أما الطابق الثاني من المئذنة فهو مزين بطاقات ثلاث مغلقة ومعقودة في كل وجه من وجوه المنارة في حين زين كل وجه من وجوه الطابق الثالث بنافذة حولها طاقتان مغلقتان ويوجد في أعلى الجدار من كل طابق شرفات على هيئة عقود متصلة ومفرغة من الوسط، ويدور بداخل المئذنة مدرج ضيق يرتفع مع ارتفاع المبنى ويضيق كلما توجهنا إلى أعلى. ومن أفضل زخارف جامع عقبة زخارف المحراب والقبة التي تعلوها، وتكسو المحراب زخارف منقوشة على ألواح رخامية يوجد فيها فراغات تسمح بدخول الضوء وتغطي القبة زخارف نباتية على شكل ساق متوسطة أو فروع متموجة تتدلى منها عناقيد من العنب.
أما المنبر فهو محفور على الخشب وفيه زخارف هندسية ونباتية ويعود إلى سنة 248 هجرية وهو أقدم المنابر الإسلامية التي سلمت من تقلبات الأزمان وهو مصنوع من خشب الصاج ويشتمل على ما يقرب من 106 لوحات تحمل زخارف نباتية وهندسية بديعة تعبر عن تمازج التأثيرات البيزنطية والفارسية وتوحدها في روح إسلامية متميزة.