يوم رمضاني لبناني: نهار مرهق وليل صاخب

بين العمل والتسوّق وزحمة السير ومتابعة المسلسلات

وسط بيروت قبلة الصائمين في سهرات رمضان (تصوير: جوزيف أبي رعد)
TT

تكتسب يوميات اللبنانيين الرمضانية سنة بعد سنة «طقوسا خاصة» تتوزّع على ساعات النهار الطويلة وتمتد الى موعد السحور وأذان الفجر. الأمر المؤكد الذي بات واضحا هو أن «الصائم في لبنان يعرف من ملامح وجهه»، علامات التعب والإرهاق التي لا تفارقه منذ أن يفتح عينيه ويقرّر التوجّه الى عمله ولا سيما في الأيام الأولى لرمضان. يبذل جهدا لتجاوز «أعراض الصوم» وما يرافقها من كسل قبل أن يستعيد نشاطه وإنْ بنسبة معينة، وينطلق في برنامجه اليومي. تمرّ الساعات ببطء، ولا سيما في فترة بعد الظهر حين تشتدّ الاعراض ولا سيما العطش ويصبح من الصعب مقاومتها. لكن من قال إن اليوم أشرف على نهايته، بل على العكس، هنا تبدأ المغامرة ولا سيما بالنسبة الى أولئك الذين تقع عليهم مهمة قصد الأسواق وتبضّع ما يلزم. زحمة السير التي يجتاحها الصائم المتسوّق لا تقتصر على الطرق، بل ان الزحمة الأكبر تتركّز في هذا الشهر الفضيل في أماكن محدّدة، حتى أنه قد يتهيّأ للبعض أن اللبنانيين ينتظرون شهر الصوم كي يأكلوا. في كل محطة، ان كانت مخصصة لبيع المأكولات أو الحلويات لها وقتها الكافي للانتظار، ولا سيما اذا كانت من المحلات المشهورة والمقصودة من الناس، الأمر الذي جعلها تتحوّل الى نقطة ازدحام يومية يتجنّب من لا يحتاج الى منتوجاتها المرور الى جانبها كي لا يقع في فخ الزحمة.

مع تقدّم الساعات والدقائق يتغيّر المشهد قليلا بشكل متدرّج الى أن تفرغ الشوارع من ناسها لحظة أذان المغرب وخلال فترة الافطار. فترة من الهدوء لا تتعدى الساعة لتعود الحركة من البداية، هي الزحمة نفسها ولكنها ليلية هذه المرة. من اعتاد قصد المسجد للصلاة عليه أن لا يتباطأ كي يصل في الوقت المحدّد، وهنا تتحوّل الزحمة من محلات الحلويات قبيل الافطار الى مداخل المساجد قبيل الأذان وبعيده. ومن لم يعتد القيام بفروض التراويح يملك الوقت الكافي للاسترخاء وشرب قهوته بهدوء قبل أن ينطلق في سهرته. طقوس السهرات اللبنانية ليست موحدة بين كل الناس وكل العائلات والمناطق، منهم من لا يجدون في فترة بعد الافطار إلا فرصة للراحة بعد جهد نهار طويل، فلا يجدون أمامهم إلا خيار التسمّر أمام الشاشة الصغيرة ليتناولوا وجبات من المسلسلات الدرامية، كي تكون محور أحاديثهم في اليوم التالي ولا سيما مسلسل «باب الحارة» الذي تحوّل الى مادة دسمة في النقاشات اليومية وما يرافقها من «آراء موالية وأخرى معارضة» ازاء هذه العادة أو ذاك التقليد.

في الخارج، حياة رمضانية مختلفة بتفاصيل سهرات لياليها. صخب وحركة نشطة تحوّل ليل بيروت الى نهار منذ أذان العشاء وحتى ساعات الصباح الأولى. زحمة سير تلف كل الشوارع الرئيسية، هؤلاء يتوجهون لزيارة أقربائهم أو اصدقائهم حاملين الحلويات الرمضانية وأولئك منهمكون بالتحضير لاستضافة زائري سهرة رمضان، وآخرون لا يستمتعون إلا في الخروج من المنزل وقضاء السهرة في أحد المطاعم. هذه المطاعم التي تستنفر في هذا الشهر الفضيل لتدلّل زبائنها وتأمين كل ما يساهم في تمضية أوقات مميزة. المرور في وسط بيروت، في سهرات رمضان، كافٍ لرؤية هذه الصورة عن قرب. كراسٍ ممتلئة بساهرين من مختلف المناطق اللبنانية، موسيقى تصدح في الأجواء على وقع دخان النراجيل. ولكن من قال إن الساهرين في وسط بيروت ستفوت عليهم حلقة «باب الحارة»؟ ادارات المطاعم في هذه المنطقة أخذت كل احتياطاتها وأعدّت العدّة : شاشات عملاقة ملأت الساحة، موسيقى «باب الحارة» نفسها تعلو في أرجاء الوسط على طول الطرق حيث تتوزّع المقاهي، عند الساعة العاشرة مساء، موعد بدء المسلسل، ومن لم يتسنَ له اصطياد «جلسة استراتيجية» لمتابعة فصول عائلات الحارات، يفضّل عندها الوقوف جانبا ومتابعة المسلسل بدل أن يجلس بعيدا. وبعد انتهاء «باب الحارة» يسمح بأن تتغيّر القنوات وفقا لتوجهات زائري كل مطعم أو مقهى وذلك بين «أسمهان» أو «بعد الفراق» و«ورود ممزقة» وغيرها من المسلسلات التي تشغل أحداثها بال اللبنانيين في هذا الشهر.

يمكن القول إن الوتيرة نفسها تبقى مسيطرة على السهرة الرمضانية في لبنان وفقا لمكان الجلسة. من بقي في المنزل يخلد الى النوم حوالي منتصف الليل بعد تناول وجبة خفيفة اذا لم يقرّر الاستيقاظ لتناول السحور، ومن اختار تمضية سهرته في الخارج لا يعود الا بعد اختتام سهرته في سحور غني، خصوصا أن المطاعم في رمضان تفتح أبوابها قبيل الافطار حتى أذان الفجر ولا سيما منها التي تقدم الأطباق الخاصة بوجبة السحور كالفول والبليلة والمناقيش التي تغري برائحتها الشهية ليس الجائع فحسب بل حتى من قرّر اتباع حمية متناسيا وحداتها الحرارية المرتفعة، مع العلم بأن المطاعم الصغيرة التي تتوزّع على الكورنيش وفي الأحياء الصغيرة تنشط بل ويزيد عددها في شهر الصوم، وأصحاب هذه المهنة ليسوا فقط مالكي المطاعم، بل أصبح يكفي كل من يملك دكانا صغيرا أن يحضر «آلة الصاج» لصنع المناقيش حتى يذيع صيته في الحي ويصبح قبلة الكبار والصغار طوال ليالي رمضان ولا سيما في عطلة الأسبوع حين تصبح السهرة ممكنة وتناول السحور جائزا مرة أو مرة أسبوعيا. ويبقى الختام هادئا مع أذاني السحور والفجر، لتعود دورة الحياة الرمضانية الى انطلاقتها من جديد في صباح اليوم التالي.