تعرف المرأة القيروانية بثلاث خصال على الأقل، فهي معروفة بلبس الحائك وهو غطاء يستر كامل الجسد يصنع من صوف دقيق جدا، وتعرف بصنع الزربية بنفسها وهي نوع من السجاد الصوفي تستخدم فيه الألوان الطبيعية لصوف الخروف... كما تعرف المرأة القيروانية بصناعة المقروض في البيت أو بكراء من يصنعه لها من النسوة الحاذقات ولا تفكر في شرائه لان ما يعرض في الأسواق من العيب أن تميل إليه...ولا تذهب القيروانية إلى بيت الزوجية إن لم تكن قد جمعت لنفسها طاقما متكاملا من الأواني النحاسية وهذا الطاقم يهم كل أنشطة المنزل وحتى الحمام العمومي... وللمقروض أكثر من حكاية مع القيروان، إذ لا تكاد تحل بالمدينة إلا وتأتيك أصوات الباعة في المحطات العمومية وفي الأسواق التقليدية منادية الزائر بالإقبال على المقروض القيرواني... عسل مصفى وزيت زيتون بكر وسميد قد من قمح «مطمور روما» وتمور قادمة من مشارف الصحراء الكبرى، كلها... ذلك هو المقروض القيرواني الذي اخذ صيته العالمي وأصبح ميزة من ميزات القيروان وإحدى علاماتها المميزة... وهو أكلة سهلة الهضم دون عسر ومالئة للمعدة دون شبع... ذلك هو المقروض القيرواني...
قال المؤرخ ابن الرقيق القيرواني في المقروض «إنه إذا قحط البربر وانتابتهم سنة جدباء اشتروا تمورا وسميدا ثم عجنوه بزيت أخضر وقسموه كتلا وأصابع أفطروا عليها كل يوم وربما أكلوا بلا توقيت كيف أمكن وضربوا عليه بجرعة من رايب فهي عادتهم بدل الكسرة اليابسة»... فالمقروض بمثابة الأكلة التي تلجأ لها العائلة القيروانية ومن ثم التونسية لمقاومة الأيام المجدبة، إلا أنه كذلك أكلة المناسبات دون منازع... ترصفه المرأة القيروانية في قصاع النحاس القيرواني والأطباق المقدودة من فضة، أهرامات صغيرة لا تكاد تعطيها قيمتها الحقيقية إلا عندما تتذوق إحداها وتأسرك حلاوتها... أما إذا رأيتها سطورا مرصوفة، فإنك لا محالة قد وقعت ضحية بريق الزيوت...
وللمقروض القيرواني أكثر من حكاية.. يقول فيه الكاتب حسين القهواجي، أصيل المدينة، «كان العسل يجلب مصفى في قرب الماعز من جبل «وسلات» المعطار أما زيت الزيتون فتدفع به معاصر دار السبوعي بالبادية الفيحاء المسماة العلا»... وتأتي التمور فوق ظهور القوافل قادمة من توزر، أرض «دفلة النور» التونسية المميزة، وتحط الرحال في «ذراع التمار» والرحبة الفسيحة في أرض عقبة... وترسل أرياف القيروان والولايات (المحافظات) المجاورة قمح «فريفا» وفي السنبلة مائة حبة صلبة تزيد في قوة الذهن وطلاقة الوجه واحمرار الوجنتين... وكم من المنافع يشتمل عليها زيت الزيتون القادم من السواحل التونسية فهو يلين الأعصاب المجهدة ويذهب الإجهاد والإعياء، ويحسن الخلق أليس زيتا قادما من شجرة مباركة...
ولكي نتأكد من أهمية قطعة المقروض، فإننا نعلم جيدا أنها قطعة تتركب ـ كما يقول حسين القهواجي ـ «من ضدين مختلفين مؤتلفين: سميد جاف يعصم به الآكل، ولكنه بتمر يسهل الهضم كما يلين الطبع»... والمقروض عرف تطورات كثيرة خلال العقود الماضية، ولكن أهم نقلة عرفها المقروض كانت مع تنامي نفوذ الدولة العثمانية، فقد اكتسب بعدا صناعيا واختص بأدوات وماعون نحاسي وصار له قالب منقوش نماذجه مستلهمة من زخارف المنبر وأشكاله الهندسية المدهشة... أما المعين الذي يشكل القطعة فهو مأخوذ من مربعات الجليز ذي البريق المعدني بواجهة محراب جامع عقبة، وبذلك تكون المدينة القيروانية العتيقة، قد أثرت الحياة بمختلف مكوناتها... ولا يكاد زائر يمر بالقيروان دون أن ينزل على قطع المقروض ضيفا مبجلا.. وهذا الأمر كان مع شاه إيران رضا بهلوي عندما زار القيروان رفقة الزعيم الحبيب بورقيبة، فقد كان على مأدبة الغداء بدار الوالي في شارع فاس ـ كما يؤرخ لذلك القيروانيون ـ يلعق إصبعيه واحدة تلو الأخرى وهو يستلذه ويستزيد منه، وهو يراه صنعا سلطانيا لا يمكن الفكاك منه.. وعندما حلت أميرة هولندا بياتريس التي أصبحت ملكة الآن وزوجها الأمير كلاوس، بدار الشاذلي كميشة نهج باب الخوخة، يروي بعض أعيان القيروان، أنها «غسلت أناملها من مرش الزهر وتنشفت بكشمير ثم وردت على تناول المقروض بالإبهام والسبابة ولم تأنف المرأة الرفيعة من تذوق هذا المرطب الغليظ في مكوناته وسط دار عربية الطراز مبلطة بالمرمر محفوفة بمربعات الجليز وتشابيك النوافذ...كان ذلك بتاريخ 16 يناير (كانون الثاني) 1973...» ويقول محمد الشاذلي بن سكرانة أقدم حرفي في صناعة المقروض القيرواني، إن هذه الصناعة تميز القيروان وهي الطابع الأصلي للمدينة... ويرى أن المقروض أصوله تركية ولم يتغير شكله ولا منظره منذ عقود من الزمن وكان في البداية محشوا بالفواكه ويلجأ بعض الحرفيين إلى الدفلة كحشو والى الشريحة(التين المجفف)، ثم تغيرت الوضعيات لتتغير المكونات وهي عموما ذات طابع تجاري ولكنه كذلك يتماشى مع العصر وظهور بعض أمراض العصر (الأمراض المزمنة مثل السكري والكوليسترول)، فظهر المقروض الأبيض الذي يجهز في الفرن لتخفيف قوة الزيوت...ويرى بن سكرانة أن القيروان عاصمة المقروض دون منازع وهو هدية العيد ومكون سهرات الحفلات العائلية وهو يحتل سمعة عالمية ولا يمكن للسائح أن يزور القيروان دون أن يتذوق مقروض القيروان... أما الصحبي السفني صانع اكبر مقروضة خلال المهرجان الوطني للمقروض في دورته الأولى يوم 20 مايو 2008، فقد أكد أن المقروض القيرواني ينتمي جغرافيا إلى القيروان حتى وان أكد البعض بأن أصوله غير قيروانية...وتشير المصادر التاريخية حسب محدثنا إلى وجود يد القالب المستعمل في هذه الصناعة وذلك منذ ما يزيد على ثلاثة قرون...ويرى أن المقروض القيرواني لا يوجد في أية منطقة أخرى في العالم، فهذه الصناعة موجودة في تركيا وفي المغرب وفي الأندلس ولكن ليس له نفس الخصائص، فهذه المادة ولدت ـ حسب محدثنا ـ في القيروان، وكان قد تم صنع مقروضة خلال المهرجان طولها متران و10 سنتيمترات وتزن 130 كلغ كمحاولة من الحرفيين القيروانيين لمزيد من التعريف بهذه الصناعة وتسجيل الرقم القياسي في هذا المجال الذي قد لا تنافس فيه أية مدينة، مدينة القيروان التونسية... ويتكون مقروض القيروان من سميد رقيق يسمى «خمسة يسي» يخلط بزيت يفضل أن يكون زيت الزيتون ويضاف إليهما السكر وشوش الورد عادة ما يكون ورد أريانة قبل أن ينفتح ويقع تجفيفه ويشترى من سوق التوابل...ويضاف إلى هذه المكونات القرفة المسحوقة وماء العطرشية والكركم لتغيير اللون بالإضافة لعجين بلح اسود يسمى في تونس بـ «العليق»... ويعجن السميد بالزيت ويضاف إليه سائر المكونات وبنسب معقولة وحسب طبيعة المكون نفسه إذ أن أغلبها للتعطير...وحين تستوي العجينة يبدأ الحرفي بتشكيل مستطيلات طويلة تطرح على مائدة ولا يتجاوز حينها سمك العجين حدود السنتيمتر الواحد... ويوضع التمر في الوسط في شكل حشو متوسط السمك ثم تطوى العجينة حول الحشو ويوضع فوقها قالب خشبي خاص بصناعة المقروض ويحز الزائد عن القالب ثم تقطع إلى قطع على شكل متوازي الأضلاع، ثم ترمى للقلي في زيت نباتي في درجة الغليان، وحين يتغير لون القطع بين الأصفر والبني ترفع من الزيت وتوضع مباشرة في إناء به عسل مصنوع من السكر والليمون يسمى «الشحور»، ويترك فيه فترة طويلة حتى يتشبع من ذلك العسل(نصف ساعة على الأقل)... وحين يبرد المقروض يكون لونه قد مال إلى اللون الداكن ويتناول دون إسراف نظرا لحلاوته وتشبعه أيضا بالزيت...
وتشتمل قائمة الحلويات القيروانية على «الدبلة» وهي تحتوي على نفس مكونات المقروض ولا تختلف سوى على مستوى التمر... ونجد كذلك البقلاوة وكعك العنبر ومعظمها حلويات تقليدية أصولها تركية أو عربية والبعض منها أصيلة تونس،وكان عيد الفطر ولا يزال في القيروان بالضرورة مرتبطا بصناعة المقروض الذي لا يخلو منه أي بيت قيرواني وربما تونسي والحلاوة على ارتباط بالتفاؤل والاستبشار بما هو حلو.