مع الاعتراف التام بأن ما قد يعتري القمر من كسوف أو غيره، لا علاقة له بما يجري في أحوال الناس من وفاة بعضهم أو مرض آخرين مثلاً، فان الحقيقة العلمية تظل تُؤكد أن للقمر نفسه، كجرم سماوي تابع لكوكب الأرض ويجري حولها وحول الشمس، تأثيرات على ظاهرتي المد والجزر التي تعتري بحار كوكب الأرض. هذا التأثير للقمر هو أحد العوامل التي تُصنف علمياً ضمن ما يُعرف بتأثيرات "الدورات الطبيعية الخارجية" وذلك في مختلف مراحل دورة القمر الشهرية monthly lunar cycle. وهي مجموعة من العوامل التي مصدرها ومنشأها يأتي من خارج كوكب الأرض. وتشمل التغيرات التي تطال المناخ والبيئة الأرضية وغيرها، بفعل تأثيرات موجات الإشعاعات الكونية ودورات القمر والشمس، وغيرها من الكواكب في الفضاء الخارجي.
مع الاعتراف بتأثيرات تقلبات المناخ وظهور شمس النهار وظلمة الليل والإشعاعات الكونية على أنظمة الجسم وتفاعلاته، يبقى السؤال هو : هل للكواكب تأثيرات حقيقية على حياة الناس وصحتهم وأمراضهم وإصاباتهم وسلوكياتهم النفسية؟
والواقع أن طرق مثل هذه المواضيع، في علاقة الأمراض بالعوامل البيئية والكونية المحيطة بنا، والتي يُحتمل أن يكون لها تأثيرات على حياتنا من جوانب شتى، ليس المقصود منه سرد "الغرائب والطرائف" العلمية، بل هو من باب عرض حقائق لها علاقة وثيقة بما يخدم معالجة الناس بشكل ونوعية أفضل، متى ما تم فهمها وفحصها والاستفادة منها من قبل أفراد الوسط الطبي وبقية الناس. والأطباء سبق لهم أن استفادوا كثيراً من دراستهم وفهمهم لسبب ارتفاع الإصابات بنوبة الجلطة القلبية في ساعات الصباح مقارنة ببقية أوقات اليوم، ومن ملاحظتهم ارتفاع الإصابات بنوبات الربو في الساعات المبكرة جداً من النهار، واختلال وتيرة النوم بفعل اختلاف ضوء الشمس، والتغيرات النفسية التي تحصل مع اختلاف فصول السنة، ومن ملاحظتهم اختلاف الكثير من أنظمة العمليات الكيميائية الحيوية التي تعتري الكولسترول وهرمون النمو وحرارة الجسم وعمل مناطق شتى من الدماغ وضغط الدم ونبض القلب وغيرها في أوقات معينة من نهار أو ليل اليوم، دون بقية ساعاته.
ولأن فرضية التأثيرات النفسية للـ "القمر المكتمل" لا تزال أحد العوامل المطروحة حول جوانب صحية متعددة، فإن من المفيد مراجعة الأمر علمياً. خاصة أن ثمة دراسات طبية قديمة عززت من قوة تلك النظرية، قبل أن تتصدى لها وتُفندها الدراسات الطبية الأحدث والأدق. القمر والمسئولية عن التصرفات
* ثمة كلمة في اللغة الإنجليزية يُقال لها "ليونيتك" lunatic ، أي المجنون والطائش. وكلمة أخرى يُقال لها "ليونسي" "lunacy" ، وتُترجم إلى اللغة العربية بـ " جنون وحماقة كبرى"، وتشرحها معاجم اللغة الإنجليزية بأنها " جنون متقطع intermittent insanity يُعتقد بأنه مرتبط بمراحل ظهور القمر".
وهاتان الكلمتان لهما صلة مباشرة بكلمة "ليونا"، وهي الكلمة اللاتينية للقمر moon . والنسبة إلى كلمة "ليونا" هي بكلمة "ليونر" lunar والمستخدمة في التعبير عن أي شيء له صلة بالقمر.
والأصل لاستخدام هذه الكلمة في اللغة الإنجليزية ما كان شائعاً في الوصف، وخاصة خلال القرن الثامن عشر، لأعمال الجنون الإجرامية التي كانت تحصل خلال مرحلة البدر، أي اكتمال ظهور كامل حلقة القمر في كبد سماء الليل، أي الأعمال الإجرامية، كجرائم القتل، التي سببها حالات من فقد السيطرة والتحكم العقلي على السلوكيات والتصرفات نتيجة تأثير نور القمر على البشر. والمهم في الأمر، من الناحية الطبية والقانونية، أن لجوء مُحامي الدفاع، عن هؤلاء القتلة المرتكبين لتلك الجرائم خلال تلك الأوقات من الشهر، إلى تبرير ذلك السلوك الإجرامي بتأثير ظهور البدر كاملاً على عقلية الإنسان وفقدانه القدرات العقلية على التمييز وضبط التصرفات، كفيل بحصول المجرم على نُطق القاضي بُحكم مُخفف على تلك الجرائم، حتى وإن كانت من درجة القتل العمد.
وأصل بناء هذا الاعتقاد القانوني القضائي، في تلك الحقبة التاريخية من القضاء الإنجليزي، وتبعات ذلك في تخفيف العقوبات على المجرمين القتلة، كان هو وجود اعتقاد اجتماعي وطبي نفسي بأن للقمر، وفي مرحلة البدر بالذات، تأثيرات حقيقية على عقول الناس وعلى تصرفاتهم. وذلك لدرجة الاعتراف بأن الإنسان "ليس مسؤولاً مسؤولية كاملة عن عواقب أفعاله التي يُقدم عليها في مرحلة اكتمال ظهور البدر". والأمر هنا أشبه بكثير من الأمراض النفسية التي يعترف الطب النفسي بأن لها تأثيرات حقيقية على سلوكيات الإنسان، وعدم قدرته على مقاومتها.
جرائم ليالي البدر
* وفي سبعينيات القرن الماضي، نشرت مجلة علم الطب النفسي الإكلينيكي، جورنال أوف كلينيكل سايكاتري، دراسة لا تزال مثيرة للجدل، حتى اليوم، لفريق من باحثي جامعة ميامي، بقيادة طبيب النفسية، الدكتور أرنولد لايبير. وكانت الدراسة حول علاقة القمر بجرائم القتل. وتابع الباحثون في الدراسة كل جرائم القتل التي وقعت خلال فترة خمسة عشر عاماً في مقاطعة ديد بولاية فلوريدا. ومن مراجعة كامل التفاصيل والمعلومات المتعلقة بجرائم القتل، تبين أن هناك حوالي 2000 جريمة من نوع القتل العمد homicide . ومن نتائج تحليل المعلومات عن تلك الجرائم، وجد الباحثون أن معدل حصول جرائم القتل ينخفض ويزيد بحسب تطور مراحل ظهور القمر. وتحديداً وجد الباحثون أن جرائم القتل ترتفع بشكل أكبر خلال مرحلة "البدر" full moon ، أي اكتمال ظهور القمر، وكذلك في المرحلة التي تلي المحاق واختفاء القمر من الظهور السماء، أي بدء إعادة ظهور الهلال new moon. كما تنخفض معدلات وقوع جرائم القتل العمد خلال المراحل الأخرى من دورة القمر الشهرية.
وفي محاولة التأكد من صحة هذه النتيجة البحثية، أي معرفة ما إذا كانت هذه النتائج التي ربطت بين ارتفاع جرائم القتل ومراحل القمر، كانت نتيجة وقعت بـ "الصدفة"، أم أنها حقيقة وتشير إلى ارتباط الأمرين بعضهما ببعض. ولذا اتجه الباحثون النفسيون إلى مقاطعة كايهوغا في أوهايو بكليفلاند. وتتبعوا نفس الموضوع، وتوصلوا إلى نفس النتائج التي أكدت ملاحظة ارتفاع جرائم القتل في أوقات مرحلة البدر للقمر.
القمر وسلوكيات الناس
* وفي معرض التعليل لتك النتائج، افترض الدكتور أرنولد لايبير أن ثمة تأثير حقيقي للقمر على عقول الناس. وقال بأن من المعلوم تأثير القمر، خلال تطور ظهوره في السماء، على حركتي المد والجزر لمياه البحار والمحيطات. وبما أن أجسام الناس مكونة بنسبة كبيرة من الماء، وتحديداً يكون الماء نسبة 80% من جسم الإنسان، فإن أعضاء الجسم، كالدماغ، لا بد أن تتأثر بتلك التأثيرات الذي يصنعها القمر على المياه في الجسم. واخترع مصطلحاً علمياً جديداً وصفه بـ " أمواج المد والجزر البيولوجي الحيوي" "biological tides". وأكمل الباحث النفسي مشواره في هذا الجانب من ناحيتين. وكانت الناحية الأولى، في تأليف كتاب أسماه "كيف يُؤثر القمر عليك" "How the Moon Affects You".
وتشير مصادر الطب النفسي إلى أن نتائج تقرير ميداني سابق لتلك الدراستين، كانت قد أجرته المؤسسة الأميركية للطب المناخي American Institute of Medical Climatology لصالح إدارة الشرطة في فيلادلفيا، وكان عنوان التقرير "تأثير القمر المكتمل على السلوكيات البشرية" ، ووجد نفس الملاحظات التي ربطت بين اكتمال ظهور القمر وانتشار الجرائم. وكان تعليق التقرير يقول إن الناس يغدون أكثر جنوناً خلال تلك الفترة من الزمن. وتحديداً لاحظ التقرير أن في تلك الفترة من دورة القمر الشهرية ترتفع جرائم كل من: القتل العمد، وتعمد إحراق المباني والمنشئات arson ، والسرعة الخطرة في قيادة المركبات ، وحالات الهوس القهري بالسرقة kleptomania . أي ذلك النوع من السرقة التي يقوم بها أفراداً عاديون ليسوا محتاجين لتلك المسروقات وليسوا بالأصل لصوصاً، سواءً هواة أو محترفين. وهو موضوع طبي نفسي سبق لي عرضه في ملحق الصحة بالشرق الأوسط.
القمر الدموي
* وسبق أن لاحظت دراسة الدكتور إيدسون أندروز، والمنشورة في مجلة رابطة فلوريدا الطبية، أن ثمة علاقة بين حالات النزيف الدموي الحاد، ما بعد عمليات استئصال اللوزتين وبين تطور ظهور القمر خلال أيام الشهر القمري. وبعد متابعة ألف حالة من استئصال اللوزتين، تبين أن 82% من حالات النزيف الشديد تلك حصلت في أيام اكتمال البدر، مقارنة بأيام اختفاء القمر. والأغرب في تلك النتائج أن الباحثين لاحظوا ذلك الارتفاع الكبير في حالات النزيف بُعيد العملية الجراحة بالرغم من عدد العمليات الجراحية التي أُجريت خلال تلك الأيام بالذات كانت أقل من عدد العمليات التي أُجريت في الأوقات الأخرى من الشهر القمري.
ومما قاله الباحثون صراحة في تعليقهم على النتائج التي توصلوا إليها: من الواضح أن أيام اكتمال البدر تحمل مخاطر أعلى لحصول النزيف بعد العملية الجراحية لاستئصال اللوزتين. وذهبوا إلى أبعد من ذلك بتبنيهم النصيحة بأخذ نتائج الدراسة هذه محل الاعتبار الجاد، حال التخطيط لإجراء عملية استئصال اللوزتين.
وكانت دراسة للباحثين من الولايات المتحدة، تم نشرها في عام 1987 بمجلة طب الطوارئ، جورنال أوف إميرجنسي ميديسن، قد ذكرت أن 80% من أفراد طاقم التمريض بأقسام الإسعاف، و 64% من الأطباء فيها، يعتقدون بأن للقمر تأثيرات على سلوكيات الناس. وذلك لدرجة أن كثراً من الممرضين والممرضات يشكون من ارتفاع أعداد الحوادث، وطالبوا صراحة في عرائض كتبوها، بأن يتم اعتماد إعطائهم علاوة ومكافأة تحت مُسمى مكافأة قمرية bonus pay" "lunar.
وفي دراسة أخرى أجراها الباحثون من جامعة نيو اورلينز في عام 1995، أشار 43% من العاملين في تخصصات لها علاقة بسلوكيات الناس النفسية، إلى اعتقادهم بأن للقمر تأثيرات على سلوكيات الناس. وتحديداً، المتخصصين في الطب النفسي والممرضات والأخصائيين الاجتماعيين.
اعتراضات علمية
* وكان الدكتور إيفان كيلي، الباحث النفسي الكندية بجامعة ساسكاتشوان في ساسكاتون، قد تعمق في بحث موضوع القمر وتأثيراته على حياة الناس. ونشر أكثر من 15 بحثا طبيا نفسيا عن هذا الموضوع، وراجع أكثر من 200 دراسة علمية طبية عن علاقة القمر بحياة الناس النفسية والصحية.وعبرّ عن رأيه الصريح في الأمر برمته قائلاً: رأيي الشخصي هو أن الإدعاء بوجود تأثيرات لاكتمال القمر، بهيئة البدر، لم يثبت، علمياً. والدراسات التي تم إجراؤها لم تكن نتائجها متوافقة ومنضبطة. ولكل دراسة إيجابية في نتائجها هناك دراسة أخرى سلبية النتائج تُقابلها، وتُلغيها.
وأضاف بالقول، وبالفعل يبدو أن كثيراً من نتائج مجموعات الدراسات يُناقض كل منها الآخر. وعلى سبيل المثال، لا الحصر، وجدت دراسة انجليزية أن احتمالات التعرض لعضات الحيوانات ترتفع في أيام اكتمال البدر، وتحديداً إلى الضعف، بينما دلّت نتائج دراسة أسترالية مماثلة على أن علاقة "بأي شكل من الأشكال" بين عضات الكلاب واكتمال ظهور القمر.
وتساءل الدكتور إيريك تشدلر، الباحث النفسي بجامعة واشنطن في سياتل بالولايات المتحدة، بالقول: هل من الممكن أننا، كثقافة، نُحب الفكرة القائلة بوجود قوة غامضة مُؤثرة للقمر على الأحداث في حياتنا. وأننا بالتالي ندعم تلك الخرافة إلى الأمام، وقُدماً، لأننا نُريد إثبات ذلك، بأي شكل؟
وأضاف، حينما يحصل أمر غير معتاد ويكون القمر آنذاك بدراً، فإن الناس عادة ما يُلاحظون ظهور القمر بهيئته المكتملة ويلومونه في التسبب بحصول تلك الأمور.
وعلق الدكتور سكوت براندهورست، الباحث النفسي في روبرت ميوري كلينك التابع لمؤسسة فورست بالولايات المتحدة، على الموضوع بالقول: إنها واحدة من الخرافات myths التي استمرت بالحضور بقوة عبر الأجيال المتعاقبة. ونحن، كمجتمع، لا نزال نستخدم اكتمال القمر لتعليل سلوكيات الناس.
وفي عدد شتاء عام 1986 من مجلة البحث عن حقائق الشكوك Skeptical Inquirer ، صدر تقرير "الهيئة العلمية للتحقيق في مزاعم الأمور الخارقة للعادة" CSICO ، الذي تفحص بالتحليل نتائج العديد من الدراسات العلمية التي تناولت بالبحث علاقة مراحل ظهور القمر lunar phases بالتصرفات غير الطبيعية. وأعطى هذا التقرير رأيه في الأسباب التي لا تزال تجعل الكثيرين يستمرون في الاعتقاد بتأثيرات مراحل القمر.
وتشكلت الهيئة العلمية من كل من: البروفسور كيلي، المتخصص في علم التعليم النفسي بجامعة ساسكاتشوان الكندية، كرئيس للهيئة الفرعية لعلم التنجيم التابع لـ" الهيئة العلمية للتحقيق في مزاعم الأمور الخارقة للعادة"، والبروفسور جيمس روتن، المتخصص في علم النفس بجامعة فوريدا الدولية، وروجر كيلفير، الباحث في علم الفلك والفضاء بجامعة ولاية كلورادو. واستخدم الباحثون أنظمة التحليل المتعدد، لجمع نتائج مجموعات الدراسات التي صدرت حول علاقة مراحل القمر بسلوكيات الناس الحياتية. ووفق ما قاله التقرير صراحة: وفي 23 دراسة تم فحص نتائجها، تبين أن في نصفها تقريباً، وعلى أقل تقدير، خطأ أو خطأين في طريقة البحث العلمي. وبتصحيح تلك الأخطاء المنهجية في البحث، وبالعودة إلى النتائج الأصلية لتلك الدراسات، فإننا لم نجد أن هناك علاقة ثابتة ومتوافقة بين مراحل القمر وبين تلك التصرفات غير الطبيعية من الناس، والتي تُوصف عادة بأنها نتيجة لتأثيرات القمر عليهم.
وقال العلماء في تقريرهم، إن كانت البراهين العلمية تقول لنا بأنه لا تُوجد تلك التأثيرات المزعومة للقمر، فلماذا تستمر فرضية "القمر المكتمل" بين الناس؟ وأجابوا بأن هناك ثلاث عوامل تؤدي إلى استمرار ذلك المعتقد، وهي انحدار مستوى التقارير الإعلامية، وضحالة المعرفة بعلم الفيزياء الطبيعية، والانحياز والميل لدى بعض المتخصصين في علم النفس.
وأكد الباحثون أن من طبيعة الإنسان النفسية: ملاحظته للأحداث التي تدعم وتُؤيد معتقداته، بخلاف الأحداث التي لا علاقة بها. وأضافوا في تقريرهم، واعتقاد الكثيرين أن للقمر تأثيرات على مياه البحار والمحيطات، وأن جسم الإنسان مكون من المياه بنسبة 80%، ما يجعل من الممكن اعتقاد أن للقمر تأثيرات على جسم الإنسان، ليس صحيحاً. والسبب أن باستخدام علم الرياضيات لا نجد ما يدعم هذا التعليل. ووفق ما قالوه، فإنه يُمكن إثبات أن القوة التي تبذلها الأم حينما تحمل طفلها الرضيع تفوق 12 مليون مرة "قوة المد والجزر" tidal force التي يُمكن أن يُؤثر بها القمر على كمية المياه في جسم الرضيع.
واستطرد الباحثون في تفنيد الكثير من المزاعم الأخرى التي يستند عليها مؤيدي فرضية "القمر المكتمل"، ولكن الأمرين الذين ذكرناهما، الأخطاء في منهجية البحث للدراسات العلمية المؤيدة لوجود تأثيرات للقمر وضعف تأثير قوة المد والجزر على مياه جسم الإنسان الصغير بالمقارنة مع الحجم الكبير جداً لمسطحات المياه في المحيطات والبحار، هما الأهم.
وكان الباحثون من مركز علوم الصحة بجامعة جنوب فلوريدا، قد ذكروا في عام 2004، ضمن مراجعاتهم العلمية لعلاقة اكتمال البدر بالأمراض العضوية، أن هناك العديد من الدراسات الطبية التي حاولت فهم العلاقة بين أطوار ظهور القمر وبين الإصابات بنوبات الجلطات القلبية، ومعدل الولادات، ومحاولات الإقدام على الانتحار، وارتفاع الحاجة الدخول إلى المستشفيات نتيجة تهيج حالة المرضى النفسيين، ونوبات الصرع التشنجي. وأكدوا على أن نتائج تلك الدراسات لم تجد علاقة تُذكر بين مراحل ظهور القمر وبين حصول تلك الحالات المرضية.
لا علاقة بين القمر ومفاجآت الحمل والولادة
* هناك من يعتقد بأن ثمة علاقة بين وقت حصول تلقيح البويضة الأنثوية بالحيوان المنوي الذكري بالنسبة لدورة القمر الشهرية وبين جنس المولود. وكذلك بين وقت الولادة وبين مراحل دورة القمر الشهرية، وغير ذلك من الأمور المتعلقة بالحمل والولادة. وعلى سبيل المثال، ذكر كيرتس جاكسون، مدير المستشفى البروتستانتي لجنوبي كاليفورنيا بأن احتمالات الحمل ترتفع حينما تتلاقى البويضة مع الحيوان المنوي في أيام أوقات ظهور القمر، مقارنة بأيام أوقات المحاق وتضاؤل حجم قرص القمر. وتوصل إلى هذه الملاحظة بعد متابعته أكثر من أحد عشر ألف حالة حمل حصلت خلال بحر ست سنوات.
والأكثر غرابة من هذا، ما لاحظه الباحثون الألمان بعد متابعة أكثر من 33 ألف حالة ولادة، حيث توصل الدكتور بيوهلر إلى أن احتمالات الحمل بمولود ذكر ترتفع في أيام ظهور القمر في حجم مكتمل.
والواقع أن الدراسات الأحدث والأدق، لمجموعات من الباحثين الطبيين، لاحظت أن لا علاقة بين الأمرين. وعلى سبيل المثال، أشارت دراسة الباحثين من كارولينا الشمالية، والمنشورة ضمن عدد مايو 2005 من المجلة الأميركية لطب النساء والتوليد، أن نتائج المراجعة العلمية لحالات أكثر من 500 ألف مولود، لا تدل البتة أن هناك صلة بين وقت الولادة من جهة وبين مراحل دورة القمر الشهرية، وفق ما قالته الدكتورة شيللي غالفن، الباحثة المشاركة في الدراسة.
نوبات الصرع لا تتأثر باكتمال القمر
* بعيداً عن خرافات دراكولا، مصاص الدماء الأشهر على المستوى العالمي، وبعيداً عن خرافات الرجل "المذؤوب" Werewolves ، أي الممسوخ ذئباً، وغيرهما مما تطرحه صناعة السينما من الحالات المؤيدة لوجود تأثيرات للقمر على السلوكيات النفسية والعصبية للبشر، فإن ثمة حالة عصبية مرضية يُقال أنها تتأثر بظهور القمر بدراً في سماء الليل. والحالة هي نوبات الصرع التشنجية epileptic seizures.
والمقولة المنسوبة إلى علم الطب مفادها أن احتمالات الإصابة بنوبة من الصرع وتشنجاته العضلية ترتفع في أيام اكتمال البدر.
وكان الباحثون من جامعة جنوب فلوريدا قد حاولوا دراسة هذا الأمر لتبين مدى صحة هذه المقولة وسلامتها، وذلك وفق ما تم نشره في أواخر مايو للعام 2004 من مجلة الصرع والسلوكيات. وتأتي أهمية هذه الدراسة، حال ثبوت أو انتفاء هذه المقولة، من استفادة مرضى الصرع وذويهم وأطبائهم في مدى تميز الاهتمام الصحي خلال تلك الأيام من الشهر القمري.
وأوضح الدكتور سليم بن باديس، الأستاذ المشارك وطبيب الأعصاب وجراحة الأعصاب بكلية الطب في جامعة جنوبي فلوريدا، بالقول: وخلافاً للخرافة، فإن حصول نوبات الصرع التشنجية ليس أكثر شيوعاً خلال فترة اكتمال القمر. وفي الحقيقة وجدنا أن عدد نوبات الصرع التشنجية هو أقل خلال فترة اكتمال القمر، وأعلى خلال الربع الأخير، من دورة القمر الشهرية.
وقال الدكتور بن باديس، بأنه قرر فحص احتمالات العلاقة بين أطور ظهور القمر، خلال الدورة الشهرية للقمر، وبين عدد مرات حصول نوبات الصرع التنشيجية، وذلك بعد سماعه من المرضى إدعاءات تشير إلى أن تلك النوبات تنشط أو تسوء مع اكتمال القمر. وأضاف، وحتى هناك بعض العاملين والمتخصصين في الوسط الطبي يعتقدون بصحة هذا الأمر، وبالرغم من هذا كله، لم يتم فحص صحة هذه المقولة من قبل بطريقة علمية. وقام الدكتور بن باديس بتحليل المعلومات المتعلقة بحوالي 800 مريض بالصرع، خلال فترة ثلاث سنوات. وقسّم الباحثون المرضى إلى نوعين. النوع الأول، هم الذين تحصل لديهم نوبات الصرع التشنجي نتيجة لاضطرابات في أنظمة الكهرباء الدماغية، أي مرضى صرع حقيقي. والنوع الثاني، هم الذين لا تحصل لديهم أي اضطرابات في نظام كهرباء الدماغ، بالرغم من ظهور نوبات الحركات التشنجية على أطراف وأجزاء أجسامهم، بل تحصل نوبات التشنج نتيجة لاضطرابات نفسية عاطفية. وتم تصنيفهم بأن لديهم "تشنجات نفسية وليست صرع مرضي" psychogenic nonepileptic seizures.
وبالجملة لاحظ الباحثون من نتائج المتابعة، أن لدى مرضى الصرع الحقيقي، حصلت معظم نوبات التشنجات في فترة الربع الأخير من الشهر القمري. وكان عددها في تلك الفترة من الشهر حوالي ضعف عدد النوبات التي حصلت خلال فترة اكتمال ظهور البدر. كما لم يُلاحظ الباحثون أي ارتفاع مهم في عدد مرات حصول نوبات التشنج النفسي خلال فترة اكتمال ظهور القمر بدراً .