«خارطة الألغاز» تنتظر من يجلو غوامضها

باحث أميركي يمحّص أعمال مارتين فالدزيمولر في القرن الـ16

جانب من الخريطة التي وضعها مارتين فالدزيمولر (أ.ب)
TT

كيف تمكّن قسّ ألماني يكتب باللاتينية ويعيش في مدينة فرنسية بعيدة للغاية عن الساحل من أن يصبح أول شخص يخبر العالم بأن هناك محيطاً ضخماً يقع إلى الغرب من القارتين الأميركيتين الشمالية والجنوبية؟ يُعدّ هذا واحداً من علامات الاستفهام الكبرى المتعلقة بتاريخ عصر النهضة. بيد أنه ليس اللغز الوحيد المتصل بمارتين فالدزيمولر، رجل الدين المسيحي الذي برع في وضع الخرائط، والذي ما زال الغموض يكتنف سيرة حياته لدرجة أنه من غير المعروف على وجه الدقة حتى الآن تاريخ مولده ووفاته وتفاصيل تعليمه. وعلى ما يبدو، علم فالدزيمولر أموراً بشأن الخطوط الكفافية (الكونتور) الخاصة بالساحل الغربي لأميركا الجنوبية قبل عبور فاسكو نونيز دي بالبوا برزخ بنما وإبحار فرديناند ماجلان حول الجزء الجنوبي من القارة بسنوات عدة. ومما يذكر أن كتب التاريخ تشير إلى كل من دي بالبوا وماجلان على أنهما أول أوروبيين نقلا معلومات حول المحيط الهادئ. واللافت للنظر حقاً أن هذه المعلومات تظهر في خارطة العالم التي وضعها فالدزيمولر عام 1507، والتي ربما تعدّ الأهم بين نحو 5 ملايين خارطة بحوزة مكتبة الكونغرس في العاصمة الأميركية واشنطن. وكانت المكتبة قد اشترت هذه الخايطة مقابل 10 ملايين دولار عام 2003، وضمتها لمواد العرض الدائم العام السابق. وتعتبر الخارطة ـ التي هي في حالة شبه مثالية ولا توجد لها أي نسخ معروفة ـ أقدم وثيقة تستخدم لفظ «أميركا» في الإشارة إلى الكتلة الأرضية القائمة بين (غرب) أفريقيا و(شرق) آسيا. والمعروف أن هذا الاسم كان قد أطلق على القارة تكريماً للرحالة والمستكشف الإيطالي أميريغو فسبوتشي، ابن مدينة فلورنسا، الذي أبحر إلى العالم الجديد لحساب البرتغاليين (تم تحويل اسمه الأول إلى صيغة لاتينية ليصبح «أميريكوس»، ثم إلى صيغة التأنيث ليصبح «أميركا»). ومن الواضح أن اختيار الاسم كان من صنع فالدزيمولر وحده، إذ لا تتوافر دلائل على أن هذا اللفظ كان مستخدماً في عصره. وكان من شأن الأبحاث الجديدة التي أجراها جون دبليو. هسلر، الذي يعمل بمكتبة الكونغرس، تعزيز الغموض المحيط بأسرار معرفة فالدزيمولر وثرائها. لكن أبحاث هسلر لم تجب عن التساؤل الأكبر: كيف تسنى لفالدزيمولر معرفة ما عرفه؟ في رده يقول هسلر: «هناك احتمال بأن فالدزيمولر كان على معرفة بشيء لم يعد موجوداً الآن... معلومات لا نملكها». هسلر (48 سنة) عمد إلى تنمية مجموعة متنوعة من المهارات لكي تعينه في إنجاز هذه المهمة، إذ تلقى دروساً في اللغة اللاتينية بإحدى المدارس الأبرشية ثم في جامعة فيلانوفا (الكاثوليكية المرموقة في ضواحي مدينة فيلادلفيا الأميركية)، إلى أن غدا قادراً على قراءة الكتابات اللاتينية بإجادة تامة، علاوة على أنه مهندس ويتميز ببراعة كبيرة في مجال رسم الخرائط. وفي الكتاب الجديد الصادر بعنوان «تسمية أميركا»، يقدّم هسلر أول ترجمة منشورة للمربعات التي تحوي نصوصاً واردة بالخارطة. كما وضع ترجمة حديثة لكتاب فالزيمولر، «كوزموغرافياي إنترودكتيو»، الذي طُبع عام 1507 في مدينة سانت دييه بفرنسا، حيث عمل فالدزيمولر قساً بالكاتدرائية. ومع أن فالدزيمولر يستحوذ على النصيب الأكبر من الإشادة في شأن الخارطة والكتاب، فقد كان هناك شخص مهم يعاونه يدعى ماتياس رينغمان، من إقليم الألزاس (أقصى شمال شرق فرنسا، حالياً)، توفي عام 1511. داخل أكبر المربعات النّصيّة في الخارطة، كتب فالدزيمولر أن الكثير من الأمور ظلت مجهولة للقدماء: «بدرجة غير هينة. على سبيل المثال، في الغرب، نجد أن أميركا، التي حملت اسم مكتشفها، من المعروف الآن أنها الجزء الرابع من العالم.« وفي كتابه «كوزموغرافياي إنترودكتيو»، استخدم لغة مشابهة، حيث قال: «بات من المعروف الآن أن الأرض تتألف من أربعة أجزاء. الأجزاء الثلاث الأولى قارات، أما الجزء الرابع فجزيرة، نظراً لأنه اكتشف أن البحر يحيط به من كل الجوانب». ويعتقد هسلر أن عبارتي «بات من المعروف الآن» و«اكتشف» تتميزان بأهمية جوهرية، ذلك أنهما توحيان بتوافر معلومات جغرافية مؤكدة ويسود الإيمان بصحتها، على الأقل داخل بعض الدوائر. ويتابع هسلر: «إن فكرة أن الأمر كان مجرد تكهّن ربما تكون بعيدة عن الصواب». والملاحظ أن الاحتمال الأكبر هو أن الأشخاص الذين توفّرت لديهم مثل هذه المعلومات كانوا مستكشفين برتغاليين (أو على الأقل يبحرون تحت لواء البرتغال). وكانت هذه المعلومات قيمة، ومن المحتمل للغاية أنه فُرض عليها غطاء من السرية. والتساؤل الذي يطرح نفسه هو كيف وصلت هذه المعلومات إلى قس ورسام خرائط يعمل تحت رعاية دوق إقليم اللورين (شمال شرق فرنسا، حالياً). كذلك تحيط علامات الاستفهام بمسألة شكل أميركا الجنوبية، حيث نجد أنه على امتداد الطرف الغربي من هذه الكتلة الأرضية في الخارطة التي وضعها فالدزيمولر عام 1507 تظهر عبارة «terra ultra incognita» ـ أي «الأرض المجهولة للغاية». ومع ذلك، فإن حدود القارة لم تُرسم كخط واحد طويل مستقيم، بما ينم عن جهل من رسمه، وإنما اتخذ شكل سلسلة من الخطوط المستقيمة تلتقي عند زوايا غير حادة، ما يوحي بوجود خليط من المعرفة والشكك. وباستخدام تقنية يطلق عليها مسمى «التطويق المتعدّد الحدود»، عقد هسلر مقارنة بين صورة قارة اميركا الجنوبية في خريطة فالزيمولر والصورة الحقيقية لها. ولقد تبين، بطبيعة الحال، وجود الكثير من الاختلافات، لكن نسبة التشابه بلغت قرابة 75%، وعند منطقتين مهمتين ـ بالقرب من خط الاستواء وقرب المنطقة الواقعة شمال تشيلي حيث ينحني الساحل بحدة باتجاه الشمال الغربي ـ جاء مستوى عرض أميركا الجنوبية في خارطة فالدزيمولر مطابقاً تقريباً للحقيقة. وعليه يبدو، ربما، أن هذه المنطقة لم تكن «مجهولة» بالدرجة التي تحدث عنها القس الألماني. بيد أن اللغز لا ينتهي عند هذا الحد. ففي المربع النصي الكبير الموجود على الخاريطة، يطلب فالدزيمولر: «ألا يتجاهل مَن يفتقرون إلى الخبرة، ومن ليس لهم دراية كافية بعلم الكوزموغرافيا، كل ذلك قبل أن يتعلموا ما سيتضح لهم بالتأكيد لاحقاً، عندما يتفهمونه». وهنا من الواضح أن هذه مناشدة من جانب فالدزيمولر. فهو يدرك أن خارطته تحمل الكثير من المعلومات التي قد يصعب على البعض فهمها. عام 1516، نشر فالدزيمولر خارطته الكبرى الثانية، تحت اسم «كارتا مارينا». وفي الخارطة الثانية، لم تعد أميركا الجنوبية جزيرة، حيث تختفي يسار الصفحة، ما يوحي بأنها مرتبطة بآسيا، الواقعة على الطرف الأيمن. وقد أعد هسلر أول ترجمة إنجليزية للمربعات النصية الواردة في الخارطة الثانية. وفي إحداها يقول فالزيمولر: «سنبدو لك أيها القارئ بأننا قدّمنا وعرضنا بعناية صورة للعالم من قبل مفعمة بالأخطاء والمفاجآت والتضاربات... إن عرضنا السابق لم ينل رضى سوى عدد قليل للغاية من الأفراد، حسب ما أدركنا لاحقاً». فهل يمثل ذلك تراجعاً؟ يبدو أنه كذلك. وهل كانت فكرة أن أميركا تشكل قارة مجرد خرافة؟ يرى هسلر أنه ليس هناك ما يدعو للاعتقاد بذلك. إذاً، ما الذي دفع فالدزيمولر لتغيير صورته للعالم؟ هذا مجرد لغز آخر من ألغاز هذه الخارطة الغامضة.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»