«دخان بلا نار» في مواجهة القمع أينما كان وحيثما كان

سمير حبشي يعود إلى السينما بفيلم ينتقد العسكرتاريا

مشهد من الفيلم («الشرق الأوسط»)
TT

خرق المخرج اللبناني سمير حبشي المحظور في فيلمه «دخان بلا نار»، طارحا قضية انسانية سياسية عامّة عنوانها قمع الحريات. اتّخذ لبنان نموذجا لها. اختصر الممارسات الامنية طوال الوصاية السورية بعد انتهاء الحرب الأهلية، في بداية التسعينات، هذا ما كان واضحا منذ المشهد الأول عبر التأريخ المكتوب للأحداث اللبنانية. الفيلم الذي شارك في مهرجان الشرق الأوسط في ابو ظبي، اعتبر موجها ضد سورية، وفي قرطاج صنّف ضد أميركا، أما في لندن فوضع في خانة الافلام التي تعالج أي قضية عامة في العالم. اذاً، بعد غياب حوالي خمس عشرة سنة عن الساحة السينمائية، منذ فيلمه الأول «الاعصار»، الذي عالج الحرب اللبنانية وتداعياتها في المجتمع اللبناني، عاد حبشي بنفس متجدّد وعمل مميّز عكس مهنية مخرج وحرفية كاتب سيناريو وحوار لافت ودقيق. أخذ على عاتقه مهمة القاء الضوء على مشكلة القمع التي تكبّل الشعوب في كل انحاء العالم، ولا سيما في العالم العربي.

أحاط «دخان بلا نار» أو «بيروت مدينة مفتوحة» في عنوانه الانجليزي، الذي أنتجته «افلام مصر العالمية ـ يوسف شاهين وشركاه» و«ساتيلاند فيلم – قبرص ـ جبرائيل خوري»، قضايا القمع من كل النواحي، نقل الواقع بعيدا عن الرؤية الذاتية وتنقل بين الاجتماعي والسياسي والأمني، لتصب أحداثه في خانة واحدة ألا وهي الظلم الذي يتعرّض له الشعب وقد يصل في أحيان كثيرة الى القتل المباشر، كما حصل مثلا مع موظف عادي صودف وجوده في طريق موكب سياسي، او كما في لعبة المخابرات التي تصطاد الشباب المتظاهرين، او عبر التلاعب الاعلامي بالحكم على الوقائع الأمنية والقاء التهم التي لا تمت الى الواقع بصلة وعلاقات الحب والغيرة... وكل ذلك في سياق متلازم ومرتبط بتفاصيل الواقع الأليم من دون الانجرار الى المبالغة التي قد تفقد القضية أهميتها.

أوصل حبشي رسالته عن العنف بأشكاله المتعددة من دون ان يخدش عين المشاهد أو أذنه، رغم أن بعض المشاهد، ولاسيما تلك المتمثلة بمعاقبة المخرج والشاب الثوري بتعليقهما على آلة التعذيب «بلانكو» بطريقة عنفية، كانت قاسية ولكنها مكمّلة للسياق العام ودليل حسي على العنف الجسدي بعد المعنوي الذي ظهر في مشاهد أخرى. كذلك نقل الواقع كما هو مستعينا بعدد من الوجوه اللبنانية الجديدة، وهم رودني حداد وديامان بو عبود وسيرين عبد النور، التي جاء حضورها بسيطا ومحدودا، ان لناحية التمثيل والأداء أو الدور الذي لم يكن ذا أهمية تذكر في الحبكة الدرامية. في حين سجلت مشاركة فعّالة للممثل اللبناني القدير محمود مبسوط المعروف بـ«فهمان»، فأجاد أداء دور المواطن الخائف على ممتلكاته من أشباح الليل الذين يسرقون السيارات. أما دور البطولة فكان للممثل المصري خالد النبوي في دور المخرج المصري، الذي اتخذ من لبنان محطة للعمل على فيلم حول القمع في العالم العربي، على اعتبار أن هذا البلد، كما برّر اختياره له في الفيلم، «يتميّز بحرية أكبر من تلك الموجودة في الدول العربية الأخرى». حمل كاميراته وتجوّل في الشوارع اللبنانية مصطادا أي حدث طارئ وراصداً مشاهد القمع تحت خطر اللحاق به والقبض عليه بين لحظة وأخرى. لكن الواقع كان مخالفا لما اعتقده هذا الشاب المتحمّس، بعدما اصطدم بنهاية أليمة أفقدته جهد شهور لحظة وقوعه في ايدي المخابرات. في خفايا القضية الكبرى المتمثلة بعمل المخرج على فيلمه، مرّر حبشي موقفا سياسيا اجتماعيا ورسائل عدة عن عقيدة الثأر لدى العشائر ومحاولات الشعوب لمناهضة القمع بوسائل سلمية شرعية، بدائية في معظم الاحيان، لكنها تبقى فعّالة برمزيتها ومكمّلة لاسلوب معالجة الفيلم بشكل عام، ولا سيما من خلال الحبكة الدرامية الذكية والسيناريو البسيط والهادف في الوقت عينه والموسيقى التصويرية التي عمل عليها جمال أبو الحسن وأتت منسجمة مع السياق العام. تميّز الفيلم، الذي بدأ عرضه في الصالات اللبنانية، بحرفية استقطبت اعجاب المشاهدين الذين تابعوا العرض الأول بحضور أبطاله، متأملين ان تسير السينما اللبنانية على خط السكة السليم بعد غياب شبه تام لسنوات طويلة. رودني حدّاد قال لـ«الشرق الاوسط»، «اهمية هذا الفيلم تكمن في احتوائه على المكونات اللازمة لنجاح الفيلم السينمائي، اضافة الى معالجته قضية مهمة بالنسبة الى كل الشعوب». وأشار الى ان «دخان بلا نار»، رغم احتوائه على مشاهد قاسية ومباشرة، لم يواجه أي صعاب، ومرّ على الرقابة اللبنانية بسهولة من دون ان يشوّهه مقص الرقيب. اما الممثل خالد النبوي ورداً على سؤال عن تقويمه لتجربته الاولى في فيلم لبناني، فقال، «لا اعتبر أن هذه التجربة لبنانية، بل هي انسانية عالمية تعالج مشكلة معينة لا ترتبط ببلد محدد، لأنها مشكلة عالمية تمس كل الشعوب. كما أنه عمل مشترك يجمع بين المخرج اللبناني، الذي أعجبت بتجربته السينمائية الأولى الاعصار، والمنتج المصري الذي سبق لي أن عملت معه في أعمال لاقت نجاحا ملحوظا».

حبشي أكّد لـ«الشرق الاوسط»، أنه لا يقبل بأن يكون سبب دعم الفيلم هو فقط تشجيع السينما اللبنانية، قال، «اما أن يُشجّع الفيلم لقيمته وأهميته أو يُرفض لعدم امتلاكه الشروط المطلوبة». واوضح أن العمل على الفيلم استغرق حوالي خمس سنوات. وردا على سؤال عن توقيت العرض، لاسيما بعد خروج القوات السورية من لبنان، أجاب، «هذا التوقيت لا علاقة له بهذا الأمر، مع العلم، انني كنت على يقين أنني سأواجه مشكلات مع الرقابة اللبنانية اذا عرض قبل ثلاث سنوات، لكنني أيضا كنت مصرا على المواجهة لتخطي كل العواقب». بعد بيروت سيُعرض «دخان بلا نار»، قريبا في الأردن وفي مصر بعد صراع مع الرقابة التي منعت عرضه في مهرجان القاهرة السينمائي، بحجة أنه يضرّ بمصالح مصر مع دول أخرى، لكن بعدما عرض الفيلم، كما يؤكد حبشي، على نقّاد عرب وسوريين أعلنوا أن ذريعة الرقابة المصرية لا تمت الى الفيلم وأحداثه بصلة، وبالتالي حدّد تاريخ 24 ديسمبر (كانون الأول) الجاري موعد بدء عرضه في الصالات المصرية.