على أنغام الموسيقى التصويرية.. عاصفة هوجاء تتكون فوق جبال الألب

حديقة الموسيقى في روما تتفوق على الأوبرا في ميلانو وروما

حفلات حديقة الموسيقى لا تقتصر على الموسيقى الكلاسيكية بل تشمل جميع الأنواع من الخفيفة الى الجاز
TT

لا يمكنك إلا أن تستمع بإصغاء وانفعال للموسيقى المنبعثة من الأوركسترا السمفونية المكونة من 137 عازفا لأنها تنفجر أمامك بضربات قوية. هكذا بدأت الحفلة في حديقة الموسيقى بروما في صالة سانتا شيشيليا الضخمة حين بدأت باليه «مخلوقات بروميثيوس»لبيتهوفن المبنية على اسطورة اغريقية حول بروميثوس الذي سرق النار من الآلهة فعوقب عقابا شديدا، وتبعها كونشرتو البيانو الثالث لبارتوك على يد أحد كبار العازفين في العالم القادم من رومانيا «رادو لوبو» الذي يعتبر وجوده حدثا نادرا لصعوبة قبوله لكثير من الدعوات بين لندن ونيويورك وباريس وفيينا فهو مثل العطر الثمين الذي يستعمل قطرة بقطرة. وكانت الذروة «سمفونية الألب» لريتشارد شتراوس التي أبدعت اوركسترا سانتا شيشيليا العريقة في عزفها بقيادة المايسترو الاسكوتلندي البارع دونالد رونيكليس قائد اوركسترا اوبرا سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا والتي عبّرت عن تسلق جبال الألب في اقليم بافاريا الألماني الجميل ومناجاة الأبواق أثناء الصعود الموسيقي ووصف الشلالات والمروج ثم قيام العاصفة الهوجاء التي تجعلك تحس وكأنك في العراء على قمم الألب الثلجية والريح العاصفة تقذف بالجميع وكأنهم طيور برية تكاد أن تهوي أرضا لشدة البرد القارس. تزامنت الحفلة مع وجود قائد للأوركسترا من الوزن الثقيل في روما وهو ريكاردو موتي الذي قدم لأول مرة أوبرا «عطيل» لفيردي بدار الاوبرا في روما فيما افتتح موسم الأوبرا في ميلانو كالعادة في الأسبوع الأول من ديسمبر (كانون الأول) بأوبرا «دون كارلو» لفيردي في انتاج جديد لافت للنظر حضره أربعة من وزراء حكومة برلسكوني الحالية. موتي أبدع أيضا في مشهد العاصفة في «عطيل» المقتبسة عن مسرحية شكسبير حين يحاول القائد المغربي العامل في اسطول جمهورية البندقية (فينيسيا) إدخال سفنه إلى الميناء في قبرص بينما الريح تعصف والسماء تقذف السفن بوابل من المطر الغزير. أما عرض «دون كارلو» في دار أوبرا لاسكالا الشهيرة في ميلانو بقيادة المايسترو الإيطالي الشاب دانييل غاتي الذي بدأ صعوده من سانتا شيشيليا قبل عشر سنوات فتميز بالمشاهد الدرامية العنيفة بين ملك اسبانيا والمحقق الأكبر لمحاكم التفتيش الرهيبة بعد طرد العرب واليهود من اسبانيا في القرن السادس عشر وتآمرهما على قتل ابن الملك لاعتراضه على حرق المتهمين بالهرطقة.

نال برنامج الموسيقى الكلاسيكية لأكاديمية سانتا شيشيليا هذا العام علامات الدرجة الأولى من النقاد الموسيقيين، فكل الدروب تقود إليها والأسماء اللامعة تحضر الى روما كل شهر بفضل جهود رئيس الأكاديمية برونو كاليي ذي الصلات القوية مع كافة الفنانين الكبار في العالم، كما انه خبير في اكتشاف المواهب الجديدة الواعدة وآخرها طوقان سوخييف (31 سنة) قائد الاوركسترا الصاعد من جمهورية اوسيتيا القوقازية الذي تفوّق في الشهر الماضي بقيادة الاوركسترا في حفلة رائعة لموسيقى رمسكي كورساكوف وتشايكوفسكي وبروكوفييف، وهو تلميذ موهوب للمايسترو الروسي المبرز من نفس الجمهورية يوري تميركانوف (والأصل: تيمور خان من أصل تركي) وتخرج من كونسرفتوار سان بطرسبرغ عام 2001 ويقود الآن كضيف شرف اوركسترا فرنسا الوطنية واوركسترا كونسرت غيباو الهولندية في امستردام التي تعتبر أفضل اوركسترا سمفونية في العالم هذه الأيام وتتفوق على برلين وفيينا. أما الأسماء الكبيرة فقد بدأت في التوافد الى روما منذ بدء الموسم الفني قبل شهرين، فهناك من قادة الاوركسترا المرموقين الألماني كورت مازور، القائد السابق لاوركسترا نيويورك الفلهرمونية، والاسباني رافاييل فروبيك دي بورغوس، والاميركي ـ الياباني كينت ناغانو، وسيلحق بهم في الأشهر الأولى من العام المقبل الروسي يوري تميركانوف وزميله فاليري غرغييف قائد اوركسترا لندن السمفونية واوركسترا سان بطرسبرغ الروسية والمايسترو الفرنسي الكبير جورج بريتر الذي بدأ حياته لكسب قوته أيام الشباب كملاكم، والأميركي لورين مازيل قائد اوركسترا نيويورك الفلهرمونية أقدم فرقة موسيقية في الولايات المتحدة، والذي سيخلفه الإيطالي ريكاردو موتي بعد عام، والكوري ميونغ وون تشونغ القائد السابق لاوركسترا سانتا شيشيليا، بدون ان نذكر قائدها الحالي انطونيو بابانو الإيطالي المولود في انجلترا والذي يتميز بصفات خاصة منذ عمله سابقا في بروكسل ثم لندن، فهو بالإضافة الى كونه من كبار قادة الاوركسترا في الوقت الراهن له ولع شديد بشرح الموسيقى الكلاسيكية للشباب وللجمهور الجديد المبتدئ، نظرا لعدم الاهتمام الكافي من قبل وسائل الإعلام والمدارس الإيطالية بهذا الفن الإيطالي العريق، بينما تغرق البرامج الترفيهية التلفزيونية بالإسفاف والمستويات الضحلة، فقام منذ أسابيع بالقاء محاضرة قيمة عن الفرق بين الأوبرا الإيطالية ممثلة بفيردي والأوبرا الألمانية ممثلة بفاغنر، مستعينا بالأمثلة الحية وعزف المقاطع المميزة لأشهر المسرحيات الموسيقية لكلا المؤلفين، وبيّن كيف يستخدم فاغنر الجملة الموسيقية الخاصة بكل شخصية كلحن مهيمن متكرر (أو ما يسمى بالألمانية: leitmotif) بينما تعلق الاوركسترا على الأحداث أو تهيئ المتفرج لما سيجري في الاوبرا، فتكون اللايتمويف كبطاقة شخصية لتقديم الأحداث، أما فيردي فيعتبر أن الصوت الجميل لوحده لا يكفي بل تتطلب الاوبرا حسن التمثيل والأداء، وحتى لحظات الصمت لها دورها في خلق التأثير الدرامي، وسيتابع المختصون بالموسيقى هذه البادرة خلال الأشهر القادمة ويقدمون محاضرات عن فن كبار المؤلفين الموسيقيين. ومن عازفي البيانو الذين سيزورون أكاديمية سانتا شيشيليا هذا الموسم لتقديم حفلاتهم الموسيقية العازفة، الأرجنتينية الموهوبة مارتا ارغيريتش التي تقدم برنامجا سنويا كل صيف في فيربييه بسويسرا، والروسي فلاديمير اشكينازي، والألماني كريستيان زاكارياس، والتوأم الفرنسي كاتيا ومارييل لابيك، والهنغاري اندراش شيف، والكسندر لونكويش، والروسي غريغوري سوكولوف.

حفلات حديقة الموسيقى لا تقتصر على الموسيقى الكلاسيكية بل تشمل جميع الأنواع من الخفيفة الى الجاز الى الموسيقى الدينية، وسيبدأ بعد اسبوع مهرجان خاص لموسيقى الغوسبيل وهي الموسيقى الشعبية الأميركية ذات الأصول الأفريقية التي تتغنى بالترانيم الدينية على إيقاع أفريقي قوي، ويقول أحد النقاد الايطاليين إن المهرجان سيبدأ بفرقة من جنوب افريقيا من سويتو، ويشمل الفرق الاميركية المعروفة ومن بينها جوقة جاكسون للأناشيد مما يعكس تأثير انتخاب الرئيس الاميركي اوباما على عالم الثقافة الدولي.

عبر التاريخ كانت ممارسة فن الموسيقى لدى أهل الأندلس خلال الحكم العربي أبرز مظهر من مظاهر الرقي الحضاري والتمدن، إضافة الى كونها وسيلة للترف والمتعة، مما مهد للتأثير على اوروبا في هذا المضمار، ومما يلفت النظر الآن أن جورجيو نابوليتانو، رئيس الجمهورية الايطالية منح أول أمس جائزة التقدير الأولى للفنون في ايطاليا الى حديقة الموسيقى بروما واوركسترا سانتا شيشيليا بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيسها ولنشرها الثقافة الموسيقية الراقية ودورها الفعال «في التلاقح الثقافي والفكري بين الشعوب». وكما يقولون في ايطاليا «الموسيقى بهجة حلال كالماء الزلال».