مع نقص الغاز الطبيعي.. البلغاريون ينتقدون حليفا قديما

الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف «الناتو» لم يحم صوفيا من غضب موسكو

TT

بقيت ماريا بافلوفا، وهي أرملة وممرضة متقاعدة عمرها 70 عاما تتقاضى معاشا شهريا قيمته 75 دولاراً، داخل منزلها ترتجف من البرد على مدار خمسة أيام، ولجأت إلى الوقوف على فرن كهربائي صغير في مطبخها، لبث الدفء في أوصال جسدها المتداعية، تحت وطأة آلام التهاب المفاصل. وتملكها اليأس إزاء فكرة الاستحمام بماء بارد مجدداً. وقالت: «إن هذه حرب بدون أسلحة، تستغل خلالها روسيا سيطرتها على إمدادات الطاقة، كي تستعرض قوتها أمام العالم»، مضيفة: «أشعر بالبرد والغضب. لقد اعتمدنا دوماً على روسيا، وتكشف هذه الأزمة أن هذا الوضع لم يتغير. وبدلاً من استخدام القنابل أو الصواريخ، يرغبون في تجميدنا حتى الموت». وحتى قبل التوصل يوم الأحد لتسوية لأزمة الطاقة التي عصفت بأوروبا، وجه الكثيرون داخل بلغاريا أصابع الاتهام في اتجاه روسيا، باعتبارها تسعى إلى إشعال حرب باردة جديدة، وأنها تتعمد حرمان ملايين الأوروبيين من مصادر التدفئة والوقود، لتوجه بذلك صفعة سياسية للغرب. والجدير بالذكر، أنه منذ وقف روسيا تدفق إمدادات الغاز الطبيعي، عبر خطوط الأنابيب داخل أوكرانيا الأسبوع الماضي، جراء اندلاع نزاع حول الأسعار، اضطر الكثيرون من سكان بلغاريا، البالغ إجمالي عددهم 7.3 ملايين نسمة، إلى العيش دون تدفئة خلال البرد القارس الذي حمله يناير (كانون الثاني). ويشير الخبراء إلى أنه حال تسوية النزاع واستئناف شركة «غازبروم» الروسية المملوكة للدولة تصدير الغاز لأوروبا، فإن الأمر قد يستغرق ثلاثة أيام حتى يصل الغاز الطبيعي للمستهلكين هنا. ومع تزايد التوتر في العلاقات بين روسيا والغرب، سلطت هذه الأزمة الضوء على كيفية استغلال روسيا لقوتها في مجال الطاقة، لإسقاط أوروبا رهينة في قبضتها. ومن جانبها، عمدت بلغاريا، وهي عضو بالاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي «الناتو»، إلى محاولة التخلص من ماضيها الشيوعي. ودفعتها أزمة الطاقة الراهنة إلى إدراك قدرة روسيا، التي كانت في وقت من الأوقات حليفا مقربا، على الإضرار بها. ويذكر أن بلغاريا، أفقر دول الاتحاد الأوروبي، تعتمد بصورة شبه كاملة على واردات الغاز الطبيعي من روسيا. ومن جانبهم، أعرب البلغاريون عن شعورهم بأن حكومتهم خانتهم، لتركها إياهم ضحايا أمام السياسات الروسية المعتمدة على الطاقة. كما يراودهم الشعور ذاته حيال الاتحاد الأوروبي لفشله في إنقاذهم، وكذلك إزاء الكرملين ورئيس الوزراء الروسي، فلاديمير بوتين، لفرضهم هذه المعاناة على بلادهم، بسبب نزاع جيوسياسي لا صلة لهم به. وفي العاصمة صوفيا، وداخل جناح الأطفال بأحد المستشفيات، حملت الأمهات أطفالهن المولودين حديثاً أمام أجهزة التدفئة. وقالت إميليا ملادينوفا، 24 عاماً، إنه يتعذر عليها تصديق أن خلافاً حول أسعار الطاقة يُسمح له بتعريض حياة الأطفال للخطر. وأكدت، وهي تحمل طفلها ميروسلاف، البالغ من العمر 4 أيام، أن: «موسكو منحت المصالح الاقتصادية الأولوية قبل حقوق الإنسان». ومنذ بدء الأزمة، أغلقت عشرات من دور حضانة الأطفال و68 مدرسة في مختلف أنحاء البلاد أبوابها، واضطرت بعض المستشفيات لإرجاء عمليات جراحية، وصدرت تعليمات لسائقي عربات الترام والحافلات بإغلاق أجهزة التدفئة. علاوة على ذلك، أضر وقف إمدادات الغاز الطبيعي بالاقتصاد البلغاري، الذي كان يترنح بالفعل تحت وطأة الأزمة المالية العالمية. واضطرت شركة «بلغرغاز»، المحتكرة للغاز الطبيعي، لوقف إمداداتها إلى 72 شركة صناعية كبرى، وتضرر العشرات من مصانع إنتاج الزجاج والصلب والجعة والمعادن. وطبقاً لما أعلنه وزير الاقتصاد، بيتار ديميتروف، منيت 152 شركة بخسائر بلغت في مجملها 5.9 مليون دولار يومياً. وقد أثارت أزمة الطاقة مشاعر مرارة بالغة بصورة خاصة هنا، حيث تشترك روسيا وبلغاريا في الأبجدية السيريلية والمذهب الأرثوذكسي المسيحي الشرقي. وتعتبر روسيا ثاني أكبر شريك تجاري لبلغاريا، وتعد شركة «لوكويل» الروسية العملاقة في مجال الطاقة أحد أكبر المستثمرين في بلغاريا. وخلال الحرب الباردة، ترسخ اعتقاد في أذهان البلغاريين أن روسيا حررت البلاد مرتين، أُولاهما من الإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر، والثانية من النازيين. ومنذ عام واحد فقط، أعلن الرئيس البلغاري الموالي لروسيا، جورجي بارفانوف، أن بلاده «حققت إنجازاً كبيراً» في أعقاب التوقيع على عدة اتفاقات في مجال الطاقة مع موسكو، ترمي إلى ضمان حصولها على إمدادات الغاز الطبيعي، بما في ذلك العقد الذي يتعلق ببناء خط أنابيب بين روسيا وإيطاليا، ويمر عبر بلغاريا. في الأسبوع الماضي في فارنا، وهي ميناء بلغاري يقع على البحر الأسود، وتظاهر سكان المدينة اعتراضاً على وقف إمدادات الغاز الطبيعي أمام القنصلية الروسية، حاملين لافتات تقول: «أوقفوا حرب الغاز الطبيعي التي يشنها بوتين». ومن ناحيته، أكد ألكسندر بوزخوف، النائب السابق لرئيس الوزراء البلغاري والرئيس الحالي لمركز التنمية الاقتصادية، أن أزمة الطاقة الحالية كشفت النقاب عن التكاليف الإنسانية والاقتصادية الهائلة التي تتكبدها بلغاريا جراء الاعتماد على روسيا. وتوقع أن تسفر الأزمة عن هزيمة الحكومة الاشتراكية الحالية في الانتخابات القادمة، ودفع البلاد للتحرك بقوة أكبر في اتجاه الاتحاد الأوروبي وواشنطن. وقال: «بالنظر إلى تاريخنا، هناك الكثير من الأسباب التي تدعونا لأن نحب الروس، لكن هذه الأزمة دفعت الكثيرين لإعادة التفكير في هذا الأمر. إننا أكبر ضحايا هذه الأزمة، وهو أمر محرج للغاية. إن روسيا تعتقد أن بإمكانها إعادة بلغاريا ودول غرب البلقان إلى دائرة نفوذها في أي وقت تشاء، لكنها ربما أخطأت في حساباتها المرتبطة بتداعيات إجبار الناس على الارتجاف من البرد». * خدمة «نيويورك تايمز»