بين رفح المصرية والفلسطينية صلات دم وتاريخ.. ودوي الصواريخ الإسرائيلية

أهالي رفح المصرية يراقبون الجحيم من الجانب الآخر ويهرعون للمساعدة

مسن فلسطيني يقرأ القرآن على انقاض مسجد الابرار الذي دمرته اسرائيل الليلة قبل الماضية في مدينة رفح (ا ف ب)
TT

تتلاشى رائحة الأقحوان والعبق الفوّاح لعشب الأرض من مدينة العريش المصرية إلى مدينة رفح على الحدود مع قطاع غزة، وتحلّ بدلا منها روائح البارود والفسفور الأبيض واللحم البشري المحترق. وحين تقطع بضعة كيلومترات إضافية في الطريق نحو الحدود، ترى نوعين من أعمدة الدخان المتصاعدة من هناك بكثافة، النوع الأول أسود شديد السواد والثاني أبيض شديد البياض، مثل أعمد الدخان. وفي مدينة رفح «الفلسطينية المصرية»، الواقعة شرق العريش بحوالي 40 كيلومترا، تظهر تحت سماء ملبدة بسحب رمادية، الطائرات الإسرائيلية وهي تدور على راحتها وبالامكان رؤية الطيّارين الإسرائيليين يتفننون في قيادة طائراتهم، قبل أن يفرغوا حمولة القنابل والصواريخ على الشريط الحدودي، لتهتز الأرض تحت أقدام الحرس والوفود الرسمية وقوافل المساعدات الغذائية والطبية.

ويبلغ عدد «الرفحيين» نحو 150 ألف نسمة، منهم 110 آلاف تسقط عليهم حمم النيران الإسرائيلية في الجانب الفلسطيني و40 ألفا يشاهدونهم ويلتقطون صور اللهب والحطام والجثث بأجهزتهم الجوالة من أعلى سطوح المباني وأبراج الحراسة من الجانب المصري. وبعد اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، انفصلت المدينتان، لكن غالبية السكان من القبائل والعائلات ظلوا نسيجاً واحداً، بحكم انتماءاتهم العائلية والقبائلية الواحدة، وهو ما أكد عليه محافظ شمال سيناء اللواء محمد عبد الفضيل شوشة خريج الكلية الحربية، وأحد من شاركوا في طرد إسرائيل من سيناء في حرب 1973، اذ يقول «قبائل شمال سيناء تربطها صلة دم بقبائل الجانب الآخر.. كل صاروخ إسرائيلي يستهدف الجانب الآخر من الحدود هو في الحقيقة ينطلق على أهلنا هناك».

ويشارك المزارع في رفح المصرية محمد السواركي، متطوعا في نقل صناديق مساعدات قادمة من دول مختلفة لشاحنات متجهة لفلسطين. وتبدو تجاعيد وندب في وجه السواركي، مثل أشكال الصبار المعروف عنه القدرة على الحياة في الظروف القاسية، قائلا إنه رغم كل هذا الدمار والقتل فإن آماله لم تتبدد في لم شمل عائلته المقسمة بين المدينتين.

وفي قاعة الجلاء برفح المصرية ووسط حشد من مواطنيها، عبَّر جمال مبارك نجل الرئيس المصري عن إمكانية تحقيق مثل هذا الأمل، بقوله إن الحل يكمن في تحقيق السلام بانسحاب إسرائيل من كافة الأراضي المحتلة منذ 1967 وإقامة الدولة الفلسطينية. لكن عنف الغارات والتفجيرات الإسرائيلية على شريط مصر الحدودي، قطعت، أكثر من مرة، كلمة مبارك الابن، وهزَّت قوة الضربات المتلاحقة القاعة وكادت تطيّر نوافذها. وبعد لحظة صمت، قام خلالها بعض الحضور بمتابعة الطيران الإسرائيلي من النوافذ، وهو يدك رفح الفلسطينية، تغيَّرت لهجة نجل الرئيس المصري وقال: «هذه المدافع والقنابل (الإسرائيلية) لن ترهبنا ولن ترهب فلسطين.. هذه علامة ضعف على المجتمع الإسرائيلي غير القادر على ان يواجه الحقيقة.. سنحتفل معا بإقامة الدولة الفلسطينية».

ومن بين أشجار الأكاسيا والزيتون ترى في رفح جنودا مصريين وحواجز شرطة في حالة استنفار، وسيارات أمن تجوب الشوارع والدروب الترابية المتفرعة عنها، وتستمع هناك لكثير من اللغط والجدل بين مسؤولين محليين وإعلاميين ورجال عاديين، حول ما يمكن أن تنتهي إليه الحرب الإسرائيلية، وما إذا كان ما يحدث هو استفزاز لمصر لجرها لحرب مع إسرائيل، على الرغم من أن مصر لا تملك من قوات الجيش في تلك المنطقة، بحكم اتفاقية كامب ديفيد وملحقاتها، أكثر من 750 فردا مسلحين تسليحا خفيفا. وفي رحلة ذهاب وعودة بالطيران من القاهرة إلى العريش فرفح، والعكس، لم يجتمع ثلاثة أو أربعة أشخاص في أي جانب أو مكان إلا وتحدثوا بقلق كبير عما يمكن أن تسفر عنه الأيام المقبلة من تداعيات.. شارك في ذلك عمال بمطار القاهرة، حيث كانت طائرات المبعوثين الدوليين تحط بين ساعة وأخرى، وانخرط في مثل هذا الجدل أيضا بمطار العريش مبعوثون وعمال مساعدات وإغاثة قادمون من مدن مصرية وعربية. لكن القلق الكبير والشعور بهول ما يحدث كان في المسافة الواقعة بين العريش ومعبر رفح، حيث دوي قصف وطائرات تُشاهد بالعين المجردة تخلف وراءها انفجارات تهز أرض المعبر وتترك ألسنة اللهب وسحبا من الدخان الأسود والأبيض خلف الأعلام المصرية المرفرفة على أبراج مراقبة الحدود مع غزة.

في مطار العريش حركة دؤوبة للطائرات المحملة بالمساعدات من السعودية وليبيا والمغرب وغيرها.. بضائع تتكدس فوق عشرات الشاحنات داخل المطار، وأخرى في إستاد العريش الرياضي، تنتظر الإذن لها بالعبور إلى الجانب الآخر من الحدود. وتعليمات أمنية لكل من يدخل نطاق مدينة رفح المصرية بتوخي الحذر وعدم استفزاز أي من الأمن المصري أو أي من الفلسطينيين الذين يسلمون جرحاهم لمصر على معبر رفح، لأن «الناس مخنوقة وخاصة على الحدود».

وبعد دويّ أصم كدوي الرعد هز معبر رفح وبعد نحو ساعة وصل الجرحى من ضحايا الغارة الجديدة، وحين اقترب صوت صافرة سيارة الإسعاف، فتح الجنود المصريون الباب الأيسر للمعبر ودخلت سيارة الإسعاف الفلسطينية، وسلَّمت جريحين لواحدة من سيارات الإسعاف المصرية التي تنتظر هناك، وعادت إلى المحرقة على عجل. كان العشرات من المصريين والأجانب يريدون رؤية أي من طواقم الإسعاف الفلسطيني الأبطال الذين يشاهدون كفاحهم عبر شاشات التلفزة وهم ينقذون الجرحى تحت النار.. وحدث ذلك بعد نحو ساعة حين بدأت عملية تسليم الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم بمصر 8 سيارات إسعاف للفلسطينيين. وأثناء لقاء جمال مبارك وقيادات من الحزب الحاكم مع كل من الدكتور بركات الفرا السفير الفلسطيني المناوب بالقاهرة، وحازم أبو شنب الناطق الإعلامي باسم الرئاسة الفلسطينية، كانت وجوه الطاقم الطبي من الهلال الأحمر الفلسطيني توحي بعذابات لا قبل لبشر بها. ولم يردوا على سائليهم إلا بكلمات مقتضبة ونظرات تأمل في تقديم المزيد من العون القادر على وقف العدوان الآن.

وقبل مغادرة رفح مساء أول من أمس، لم تكن أي من شاحنات المساعدات أو سيارات الإسعاف قادرة على الدخول عبر الممرات الآمنة إلى عمق القطاع الفلسطيني، فيما كانت الطيور المذعورة تظهر من سحب دخان القنابل، قادمة من غزة عبر سماء رفح، هربا من الجحيم الإسرائيلي.