حياكة الصوف تغزو البيوت اللبنانية

الجدات يعدن اليها.. ومعهن الحفيدات أيضا

أحد تجار الصوف في بيروت (تصوير: جوزف أبي رعد)
TT

لا يخفي أحمد ميقاتي سعادته الغامرة بعودة موضة حياكة الصوف التي باتت تغزو البيوت اللبنانية. فهو المستورد الوحيد لخيطان الصوف في لبنان اليوم، بعد أن هجر المستوردون الآخرون المهنة، وأصابهم اليأس من انتعاشها مرة جديدة، إثر كساد دام عشرة أعوام كاملة. أحمد ميقاتي يوزع خيوطه الصوفية التي يأتي بها من تركيا على كل المناطق اللبنانية، ويؤكد أن موضة الشغل اليدوي عادت بشكل كبير، وأنه باع خلال السنة الأخيرة بزيادة نسبتها 30% على السنة التي سبقتها. ويقول ميقاتي: «نحن أمام ظاهرة عالمية يصعب تجاهلها، فبعد أن أغلقت 90% من مصانع خيوط الصوف العالمية أبوابها بسبب اعتزال الناس الشغل اليدوي، ها هي الموضة تعود من جديد، والمجلات تعرض على الناس، الكنزات والشالات ذات القطبة العريضة التي يصعب تنفيذها آلياً. والجدات يعدن للحياكة ومعهن الحفيدات أيضاً». ويشرح لنا ميقاتي، الذي لا يكف عن التنقل بين محال التجار الذين يوزع عليهم بضاعته، أن المناطق اللبنانية ليست كلها سواء في حماستها لغزل الصوف اليدوي: «فقد عرف الشمال اللبناني دائماً بأنه الأكثر حباً للأعمال اليدوية ولا يزال كذلك، ومن ثم يأتي جبل لبنان بالدرجة الثانية. وهنا يمكن تقسيم الجبل إلى قسمين، حيث يفضل أهل الشوف شغل الخيوط القطنية أي أعمال التطريز والكروشيه، ويميل أهالي كسروان إلى الخيوط الصوفية، ومن ثم يأتي البقاع وبيروت، والجنوب اللبناني في آخر اللائحة. والجنوب كان ولا يزال المنطقة الأقل اهتماماً بالأشغال اليدوية.

في العاصمة الثانية طرابلس، عادت محلات الصوف تستعيد وهجها. وفي السوق التراثي القديم يجلس رامي جزار في دكانه محاطاً بألوان خيوط صوفية ساحرة. وكانت واجهات محله في السنوات الماضية قد اختفت منها كرات الصوف لصالح مستلزمات الستائر واحتياجات تنجيد الكنبات، لكن الوضع تغير اليوم. ويشرح رامي جزار أن مبيعاته تضاعفت هذه السنة نسبة للسنة التي سبقتها، وأن حياكة الصوف تعود وتنتشر بسرعة قياسية، وكأن في الأمر عدوى». ويروي رامي جزار الذي يعمل في متجر يملكه والده منذ ستينات القرن الماضي، أن حياكة الصوف من حينها لم تتوقف ولم تتراجع حتى التسعينات، حيث بدأ التدهور التدريجي. ومع نهاية التسعينات وصل المبيع إلى الصفر أو ما أشبه. رامي جزار ترك المهنة كلياً واتجه إلى الاتجار بالسيارات. ويضحك وهو يقول: «لسنا وحدنا من يئسنا من المهنة، أكبر شركتين فرنسيتين لصناعة الصوف، أي (بانجوان) و(فيلدار)، أغلقتا أبوابهما في فرنسا، وذهبتا للتصنيع في تركيا، واتجهتا للتوزيع بأسماء تجارية. العالم كله كان يتغير، وبدا كأن لا مكان للأعمال اليدوية، وأن الآلة بات بمقدورها أن تفعل كل شيء». ويستطرد جزار شارحاً: «بعد خمس عشرة سنة من الانقطاع صارت تلك الأجيال من النساء اللواتي كن يحكن الصوف جدات، والآن يأتين مع بناتهن وحفيداتهن أحياناً. الشابات أيضاً استهوتهن الموضة. أما الجديد فهو دخول الرجال عالم الحياكة، عندي زبون يشتري الصوف، يحيك الكنزات ويبيعها في متجره». ويستطرد جزار وكأنه يتكلم عن شيء غريب ومستهجن: منذ مدة قصيرة جاء ولدان أحدهما في الثانية عشرة تقريباً والثاني لا يتجاوز عشر سنوات، واشتريا صوفاً، ونسجا شالين أحدهما أهداه لوالديه والثاني احتفظ به لنفسه، وعادا واشتريا من جديد، لا أدري ما الذي يحيكانه الآن، وإن كانا سيستمران أو يتوقفان». غالبية متاجر الصوف التي زرناها، تتحدث عن فورة لم تكن متوقعة، البعض يعيد الأمر لأسباب اقتصادية، وأن كنزة الصوف التي يبلغ سعرها 100 دولار، لا تكلف في حقيقة الأمر أكثر من عشرين دولاراً، وآخرون يرون أن ثمة رغبة أوروبية في إعادة الروح لبعض المهن، من خلال الترويج لها تجارياً، وأصحاب هذا الرأي يعتبرون أن لا شيء يأتي من فراغ. لكن ثمة فئة ثالثة من التجار ترى أن الموضوع لا يتعدى كونه موجة مؤقتة يطول عمرها أو يقصر، لكن الناس باتوا يضجرون بسرعة، ويطلبون التغيير وهو ما يتجاوب معه صناع الصيحات العالميين. وسواء كانت الموجة مؤقتة أم ستستمر طويلاً، فالنتيجة أن محلات الصوف التي أقفلت أو غيرت مهنتها عادت لتفتح أبوابها من جديد، والسيدات اللواتي شغفتهن الحياكة، يتحدثن عن إنجازاتهن بكثير من الاعتزاز، وتقول روعة عبد الهادي التي رجعت لحياكة الصوف بعد انقطاع 15 سنة: «حين أذهب إلى السوق وأرى السترات الصوفية، المحاكة بخيطان رخيصة تباع بأسعار مرتفعة، أشعر أن بمقدوري أن أحيك أجمل منها وأرخص بكثير، خاصة وأن القطب الكبيرة التي نراها في السوق سهلة الإنجاز بحيث أستطيع أن أنجز كل يومين سترة، كل هذا يجعلني أعود إلى هوايتي القديمة، وحتى ابنتي التي لم تتزوج بعد حاكت فستاناً صغيراً وقالت إنه لابنتها في المستقبل». يؤكد أصحاب المتاجر أن طالبات وموظفات صغيرات السن بتن أيضاً يشترين كرات الصوف ويحكنها. ويعتقد أحمد ميقاتي، وهو الموزع الرئيسي في لبنان، أن «السنوات المقبلة ستشهد ازدهاراً في هذا المجال. وبحكم خبرتي صرت أستطيع أن أقرأ الإشارات والدلالات، فهناك ابتكارات كبيرة اليوم على مستوى ألوان الخيوط ونوعياتها، مما يعني أن المصانع تأتي بدفع ترويجي قوي. لكن هذا لا يجعلني أتسرع وأقول إن حياكة الصوف ستبقى على وهجها على المدى الطويل. فهذا أمر محكوم بظروف عديدة». ويشرح لنا ميقاتي أن تركيا هي المستفيد الأكبر من هذه الموجة. فهي المورد الأساسي لخيوط الصوف المخصصة للحياكة اليدوية في العالم اليوم، وبدون منازع، وحتى المصانع الفرنسية والإيطالية العريقة، أغلقت فروعها الأصلية وباتت تعمل في تركيا. وإن كانت حياكة الصوف على طريقة الجدات تبدو عودتها أمراً مضحكاً للبعض، فإن المحنكين في المضمار، يطلبون إلينا أن نتلفت حولنا قليلاً، لنعرف أننا على أعتاب تحولات في الذوق الجمالي. فاللوحات الزيتية بدأت تحل محلها لوحات الكانفا، والسجاد ذو الرسوم الفنية. ولم تعد الصالونات الفخمة هي تلك التي تزدان جدرانها بالأعمال التشكيلية الزيتية، فقط، وإنما تلك التي ترى على حيطانها كما طاولاتها وكنباتها قطعاً شغلت باليد ومهرت بأصابع رشيقة وحاذقة. والأمر ليس بالصعوبة التي نتصور، فبعض التلفزيونات الفضائية بدأت تخصص ساعات لتعليم الأعمال اليدوية، والشابات يستشرن المواقع الإلكترونية، وثمة من وجد في «اليوتيوب» ضالته لتعلم الحياكة والتطريز. وهذا ليس في لبنان وحده، فكرات الصوف تسجل عودة عالمية، ولهذا ربما دلالاته التي تستحق القراءة.