غوانتانامو: 60 مليون دولار تكلفة إعاشة سجناء «القاعدة» وطالبان سنويا

3 حراس لكل سجين على مدار الساعة.. وحارسان برفقة الصحافيين ذهابا وإيابا.. والخروج من المحكمة العسكرية ممنوع حتى لو للذهاب إلى الحمام

برج المراقبة بمعسكر إكس راي الذي خلا من زواره بعد افتتاحه بـ4 أشهر عام 2002 وسجناء معسكر دلتا يتطلعون إلى المستقبل خلف لاسوار («الشرق الأوسط»)
TT

قواعد دخول الصحافيين إلى المحاكم العسكرية في غوانتانامو تتضمن التفتيش الدقيق، والمرور عبر البوابات الكهربائية وعدم اصطحاب أي أجهزة إلكترونية (كاميرات أو مسجلات أو هواتف محمولة). عليك أن تمر عبر بوابتي تفتيش قبل أن تصل إلى قاعة المحكمة، وهي دور أرضي، بعد مشوار طويل على الاقدام بصحبة ضابطين من القيادة العسكرية المشتركة التي تشرف على اعمال الأمن والحراسة في قاعدة غوانتانامو بكوبا. ولا يمكن الخروج من جلسة المحكمة العسكرية لأي سبب من الاسباب اثناء انعقادها حتى الذهاب الى الحمام، إلا بصحبة الضابط العسكري المناوب. يجلس المتهمون امام القاضي، في صفوف خلف بعضها، وكل متهم بجانب محاميه ومترجم في الوسط او على الجنب، بينما يجلس ممثلو الادعاء والحكومة في الجهة المقابلة، وفي آخر قاعة المحكمة غرفة زجاجية تطل على المحكمة يجلس فيها ممثلو اجهزة الاعلام ورسامة المحكمة جانيت هاملين تنتصب واقفة في وسط القاعة تسجل بريشتها صور القاضي والادعاء والمتهمين وتعمل بسرعة في صمت لتسجيل حركات وهمسات الخمسة الكبار المتهمين بتدبير هجمات سبتمبر. حاول خالد شيخ محمد الذي يصف نفسه بأنه مدبر هجمات سبتمبر ابعاد المحامين العسكريين الأميركيين عن طاولة دفاعه في قاعة المحكمة دونما جدوى، وتذمر حينما حاول القاضي العسكري ستيف هينلي تقييد ملاحظاته. وقال محمد للقاضي الكولونيل هينلي هذا ارهاب وليس محكمة. انك لا تتيح لنا فرصة التحدث. وقال المتهم رمزي بن الشيبة الذي كانت اهليته العقلية محل طعن قانوني للمحكمة لقد فعلنا ما فعلنا ونحن نفتخر به. اننا نفخر بهجمات سبتمبر. ويدخل المعتقلون الخمسة ضمن مجموعة من 60 أشارت الولايات المتحدة مسبقاً إلى إمكانية إطلاق سراحهم، فيما تقبع البقية في انتظار اكتمال الإجراءات المعمول بها تمهيداً لإخلاء سبيلهم، بينما تناقش الحكومة إجراءات نقلهم مع حكومات أوطانهم. وترتبط عملية إغلاق المعتقل الذي يضم بين جنباته الآن نحو 245 من المشتبه فيهم في اطار الحرب على الارهاب بمجموعة من قضايا الأمن القومي والمسائل القانونية التي تجعل من غير المرجح أن يصبح غوانتانامو شيئا من الماضي في القريب العاجل. ويعد إغلاق المعتقل حجر الزاوية في مخططات أوباما لإعادة رسم صورة أميركا ووضعها الأخلاقي. لا حديث بين الإعلاميين والعسكريين في القاعدة البحرية الأميركية سوي عن مستقبل المتهمين الخطرين بعد اغلاق المعسكر في غضون عام. ويعتقد الجنرالات العسكريون الذين التقتهم «الشرق الأوسط» أن المسألة ستأخذ بعض الوقت، وقال أحدهم: فرقنا القانونية تعمل مع مسؤولين من البيت الابيض. وقال ممثل الادعاء الرئيسي الكولونيل لورانس موريس لـ«الشرق الأوسط» إن فريق أوباما التقى عددا من المسؤولين عن القاعدة البحرية في كوبا عدة مرات لبحث ملف اغلاق المعسكر قبل اعلانه تعليق المحاكمات لمدة 120 يوما، مشيرا الى ان المسألة في أطرها القانونية ستكون على الارجح في يد الكونغرس. ورفض الكوماندر جيفري غوردون المسؤول الاعلامي لغوانتانامو ان يتحدث عن مستقبل معسكرات الأسر مثل المعسكر الخامس والسادس ودلتا شديدة الحراسة والرابع متوسط الحراسة بعد أن تفرغ من ضيوفها من سجناء القاعدة وطالبان، وضحك كثيرا عندما قلت له: هل تصلح لتحويلها الى فنادق ومنتجعات سياحية تطل على الكاريبي. وفيما يتعلق بالمأوى أو إعاشة السجناء تتراوح احوال المحتجزين بين نظام صارم يمنح المحتجز 30 دقيقة للتريض مرتين اسبوعيا الى نظام اقل صرامة يمنح المحتجز ساعتين يوميا للترفيه.

ويخضع السجناء، الذين تبقى زنزاناتهم مُنارة لرقابة دائمة من جانب الحراس الذين يتجولون بشكل دائري أو يتمركزون في مخافر الحراسة. وتنتشر في المعسكر مؤشرات بأسهم لكي يعرف المصلون اتجاه القبلة اثناء الصلاة. وتنتشر مواد القراءة في المعسكر وهناك خطط لزيادة مواد القراءة بلغات أجنبية. وتعد جميع الوجبات للسجناء بموجب الشريعة الاسلامية، وهناك اكثر من شهادة موثقة من مؤسسات اسلامية من الولايات المتحدة تشير الى ان الطعام يراعي الاحوال الدينية للسجناء. ورفضت الكوماندر بولين ستورم رئيسة القيادة العسكرية المشتركة التي تشرف على سجون غوانتانامو اجراء مقابلة عن طبيعة الامن في القاعدة البحرية، الا انها كشفت في رسالة بريدية، تلقتها «الشرق الأوسط»، قبل أن أصل إلى لندن، أن تكاليف إعاشة المعتقلين تبلغ نحو 60 مليون دولار، تشمل حراسة وتغذية 245 سجينا على مدار الساعة بما يشمل ذلك الرعاية الطبية، وقال ضابط عظيم في المعسكر لـ«الشرق الأوسط» إن هناك ثلاثة حراس لكل سجين على مدار الساعة. أي تقريبا تكلفة كل سجين من القاعدة تبلغ نحو 245 ألف دولار سنويا. وأصبح ممر الهبوط والإقلاع في القاعدة البحرية الأميركية في خليج غوانتانامو بكوبا مكانا مزدحما هذه الايام. وعلى الرغم من عدم وصول سجناء جدد من افغانستان وباكستان، فإن عدد الزوار الذين يصلون الى القاعدة العسكرية الأميركية من محامين وصحافيين ومترجمين وعملاء لـ«سي أي ايه» ومحققين، لا يتوقف على طائرات صغيرة وأحيانا مدنية مستأجرة من قاعدة اندروز الجوية في واشنطن. وكنت اشعر أنني سأكون في قبضة القوات الأميركية لعدة ايام حتى قبل ان اصل الى غوانتانامو، فالتعليمات الصادرة من المقر الجنوبي لقيادة القوات الأميركية بميامي صارمة، والأوامر صريحة وحازمة عبر البريد الالكتروني. ولأكثر من اربعة اسابيع كنت أتلقى من الكوماندر جيفري غوردون والضابطة سانتيا سميث من القسم الاعلامي للقيادة الجنوبية المشتركة تعليمات قاطعة حول الاجراءات الامنية المتبعة الواجب التزامها قبل الوصول إلى القاعدة الأميركية. التعليمات الأميركية الصادرة تطلبت حصولي على تأشيرة دخول خاصة من السفارة الأميركية بلندن، رغم انني دخلت الاراضي الأميركية عدة مرات من قبل دون الحصول على تأشيرة دخول، اما التأشيرة المخصصة للاعلاميين المتجهين الى قاعدة غوانتانامو فقد تطلبت على الطرف الاخر تدخلات لسرعة الحصول عليها قبل موعد السفر المحدد، مع وفد من الإعلاميين، كنت الصحافي العربي الوحيد بينهم، ضم مراسلين عن «سي إن إن» وعن وكالة الصحافة الفرنسية وعن «الأسوشييتد برس» وعن «الواشنطن بوست» وعدد كبير من مراسلي الاعلام الكندي جاءوا لتغطية وقائع محاكمة عمر خضر الكندي المسجون في غوانتانامو منذ عمر الـ15 عاما، المتهم بإلقاء قنبلة يدوية عند اقتراب دورية اميركية في خوست بأفغانستان في عام 2002 ادت الى قتل جندي أميركي. وكانت القوات الأميركية قد اعتقلت عمر خضر في أفغانستان في السابع والعشرين من شهر يوليو (تموز) 2002، عندما كان لا يزال دون السادسة عشرة من عمره أثناء قيامها باقتحام أحد المباني بعد عملية قصف مركز نفذها الطيران الأميركي. وعند دخولها إلى المبنى حصل انفجار أدى إلى مقتل أحدهم، ثم وجدوا في داخله عمر جريحا يتخبط بين الحياة والموت.

وممثلو مكتب الأمن الموجود في غوانتانامو تحت اشراف «هيئة المهام المشتركة» تزور الصحافيين مساء كل يوم، لمشاهدة اللقطات الفوتوغرافية او التلفزيونية، وكثيرا ما يطالبون بحذف لقطات معينة، لأنها تنتهك الإجراءات الأمنية في المعسكر مثل ابراج الحراسة، او لقطات توضح وجه المعتقلين او لقطات اخذت للحراس من دون موافقتهم، وتظهر اسم الحارس او الحارسة، من خلال البطاقة الموجودة على صدره او صدرها. ويوقع الصحافيون بعد الحذف على اقرار خطي يؤكد ضرورة عدم نشر الصور التي حذفت، وقد حذفوا لي هذه المرة 6 صور من ذاكرة الكاميرا لأنها كانت توضح اسوار المحكمة العسكرية، ووقعت على اقرار بعدم نشرها. وقال احد ضباط غوانتاناموا لـ«الشرق الأوسط» إن بعض الصحافيين لديهم مهارة، بحيث يمكنهم استرجاع الصور المحذوفة من الكاميرات، ولكن نشر الصور المحذوفة سيعرضهم للمساءلة القانونية امام البنتاغون. وشاهدت «الشرق الأوسط» مفاجأة من العيار الثقيل في محاكمة عمر خضر فقد عرض الادعاء شريط فيديو عثرت عليه القوات الأميركية في خوست، وفيه يظهر عمر خضر دون الخامسة عشرة من العمر وهو ذاهب للتدريب على صناعة الألغام المضادة للأفراد والمعدات وكيفية زرعها في الأرض في مقر إقامته في خوست تحت اشراف شاب يمني اسمه أبو هيثم. وكان أبو هيثم يروح عن نفسه بمروحة لتلطيف الجو وهو يتناول حبات من المانجو الواحدة تلو الأخرى، اللعب لم يكن مجرد لعب او لهو ولكنه كان تدريبا عالى الكفاءة خاصة أن مدربي عمر كانوا يلقنونه فنون تركيب وتجميع الألغام المختلفة في وضح النهار وتحت جنح الليل. تدرب عمر على تركيب الألغام وتحضيرها في الظلام الدامس. حتى الأسلحة النارية تدرب على فكها وتحضيرها. وكان أبو هيثم يبتسم امام شاشة الكاميرا وهو يقول: نحن اليوم في جهادين.. جهاد حر، وجهاد الأعداء. وسألت المحامي العسكري الكوماندر ويليام كوبلر الذي يتولى الدفاع عن عمر خضر قبل ان يعلق الرئيس أوباما المحاكمات العسكرية لمدة 120 يوما، فأجاب أنت تتحدث عن صبي كان في عهدة شخص آخر أكبر منه. واشتهرت غوانتانامو بهؤلاء المعتقلين وبصورهم مقيدي الأيدي والأرجل في أزياء برتقالية، تحت الشمس الحارقة منذ بدأ الجيش الاميركي يشحنهم إلى هناك سرا قبل نحو 7 أعوام. لكن الوجود الأميركي على هذه الارض التي تبلغ مساحتها 45 ميلا مربعا يعود إلى عام 1903 وبناء على عقد إيجار متنازع عليه في أعقاب الحرب الأميركية - الإسبانية. وأثناء الحرب البارة كانت منطقة خليج غوانتانامو قاعدة عسكرية وبحرية مهمة. ويفصل بين الأميركيين والكوبيين عبر الخليج، خط بحر افتراضي لا تتجاوزه سفن الجانبين. وكان الليل قد جن علينا عندما وصلنا المنطقة الرئيسية التي توجد بها المحاكم العسكرية.

أما كامب إكس راي سيء السمعة الذي رأيناه أثرا بعد عين بأقفاصه المنتصبة في الهواء الطلق تغزوها حشائش برية، فلم يكن سجناء أفغانستان ومن التقطتهم المخابرات الأميركية من هنا وهناك في حربها على الإرهاب، أول من ينزل فيه. يقول الضابط لانس الذي رافقنا في رحلة الى المعسكر المهجور الذي اغلق بعد افتتاحه عام 2002 باربعة شهور: كنا نستخدمه لاحتجاز اللاجئين الفارين من هاييتي إلى منطقة غوانتانامو ويرتكبون أعمالا إجرامية. لكن الحرب على الإرهاب وسجنائها أعادت للقاعدة المنسية اعتبارها، فقفز عدد من يقيمون على أرض غوانتانامو من 2300 شخص إلى اكثر من 6 الاف شخص تقريبا، يوزعون بين عسكريين وعمال خدمات وقوة القاعدة البحرية وأقارب وعائلات العسكريين. أنزلنا الجيش الاميركي هذه المرة في خيام فخمة مكيفة الهواء وبأجر غير مكلف، في كل منها ستة اسرة ومثلها خزانات ملابس، وأدركنا بعد فترة أن هواتفنا الخليوية (الجوالة) لا تعمل هنا، ولا يمكن للخارج أن يتصل بنا، حين سألنا عن السبب قيل لنا، نحن على أراض كوبية تفرض الولايات المتحدة عليها حظرا اقتصاديا منذ عشرات السنين، واذا استعملتم إرسال شركات كوبية من هنا فكيف ستسدد الفواتير ومن سيسددها؟ لكن من المعلوم أن الولايات المتحدة لا تسدد إيجار المنطقة وأن كوبا لا تطالب به.