خبراء لبنانيون يرسمون خريطة طريق لخفض الدين العام أو تجميده

إصلاحات الموازنة شرط للخروج من المتاهة

وسط مدينة بيروت حيث تشهد حركة عمرانية متسارعة (رويترز)
TT

من الصعب التأكيد ما اذا كان مجلس النواب اللبناني سيتمكن هذا الاسبوع من اقرار مشروع موازنة عام 2009 بعد تأجيله مراراً بسبب الخلاف على اعتمادات مجلس الجنوب وما استتبعه من خلافات حول سائر المجالس والصناديق.

وأياً يكن مصير المشروع هذا الاسبوع، فإنه بات يفرض تحديات جمة ويستدعي المبادرة الى اجراء اصلاحات أساسية فيه، خصوصاً بعد بلوغ العجز (عجز الموازنة) 28.4 في المائة والدين العام نحو 47 مليار دولار. هذه الاصلاحات وتلك التحديات وضعت على مشرحة معهد التدريب المالي التابع لوزارة المال في ورشتي عمل منفصلتين، أولاهما ركزت على السبل الكفيلة بخفض العجز في الموازنة على المدى المتوسط. وفي هذا الاطار تناول مدير الموازنة السابق الياس شربل الاصلاحات الضريبية التي قامت بها المديرية العامة للضرائب خلال السنوات الاخيرة، الا انه اعتبر ان طريق الاصلاحات تبقى طويلة، وقال «لكي نزيد من الوضوح في الموازنة ونتحكم بها بشكل أفضل، ينبغي للدولة اتخاذ سلسلة اجراءات تهدف الى التحكم بالخلاف من خلال ضم كل الموازنات الملحقة الى الموازنة العامة على سبيل المثال». وهذا يعني، بحسب شربل، ان تسجيل النفقات والمداخيل المتعلقة بالصناديق والمجالس (الصندوق البلدي، الهيئة العليا للاغاثة، مجلس الجنوب، مؤسسة الكهرباء، مجلس الانماء والاعمار الخ..) في الحسابات الرسمية العامة هو «شرط الزامي ولا يتعلق باصلاح الموازنة بحد ذاته». ويعتقد المدير السابق للموازنة «ان هذه الخطوة ستسمح للدولة باستثمار الانفاق بالطريقة الفضلى، اضافة الى ان التوزيع القطاعي لهذه الموازنات سيؤدي الى تقليص الهدر الناجم عن التشابك بين هذه الصناديق والوزارات». كما انه يعتقد بأن مشروع موازنة 2009 تضمن سلسلة اجراءات اصلاحية منها منح الاعتمادات للادارات العامة فقط وفق شروط خاصة، لكنه لفت الى تقديم مجلس الانماء والاعمار روزنامة نفقات ملحقة الى الحكومة بقيمة 300 مليون دولار، الامر الذي يستدعي، بحسب شربل أيضاً، قيام الادارات العامة، مستقبلاً، بتحضير موازناتها مسبقاً، كي تتمكن الحكومة من تخطيط نفقاتها.

وحذر من تجاوز أرقام الموازنة العالية التي تتضمن زيادة في الانفاق العام بنسبة 35 في المائة «وهكذا فإن العجز المقدر في الموازنة بـ 28.4 يمكن أن يتجاوز 30 في المائة من اجمالي الانفاق» على حد قوله.

ويرى الاقتصادي شربل نحاس، من جهته، ضرورة تبني نظام رسوم تصاعدي يطاول، بصورة خاصة، المداخيل والاملاك العقارية، مشيراً الى أن القسم الاكبر من الانفاق الاجتماعي في الولايات المتحدة يتأمن بفضل الرسوم على العقارات. واستأثر الدين العام بقسط كبير من مناقشات المشاركين في ورشتي العمل، معتبرين ان التأخر في تنفيذ بعض الاصلاحات يهدد بانعكاسات سلبية على المالية العامة خلال السنتين المقبلتين. وإذا كان مشروع موازنة 2009 يرتكز في ما يرتكز على فرضية رفع تعريفات الشطور العليا من الكهرباء، فإن هذا الاجراء لن يتحقق هذه السنة على الاقل، الامر الذي سيفرض اعباء اضافية على الخزينة تقدر بـ 375 مليار ليرة لبنانية، وبما أن العجز يغطى بالقروض، فإن خدمة الدين التي تمثل 40 في المائة من الانفاق في عام 2009 يمكن ان تزيد بما بين 500 و600 مليار ليرة في عام 2010.

ويشرح الاقتصادي توفيق كاسبار واقع الدين العام اللبناني، فيشير الى انه يبلغ اليوم 47 مليار دولار، ويمثل 160 في المائة من اجمالي الناتج المحلي، بينما لم يكن يتعدى 3 مليارات دولار عند انتهاء الحرب الاهلية. واليوم تدفع الدولة نحو 3 مليارات دولار سنوياً لتسديد فوائد الدين. ويعتبر انه «لو خصصت الدولة جزءاً من المبالغ المقترضة لدعم النمو من خلال الانفاق الاستثماري لكانت كلفة تسديد الدين اقل بفضل العائد الذي ينتجه الانفاق الاستثماري. لكن القسم الاكبر من تلك القروض استخدم لتغطية النفقات الجارية». وتوضيحاً لفكرته استند كاسبار الى أرقام الموازنات من عام 1993 وحتى 2008، حيث بلغ الانفاق خلال هذه الفترة 102 مليار دولار، 52 ملياراً منها خصصت لتمويل الرواتب والاستهلاك العام في حين لم يخصص للانفاق الاستثماري أكثر من 12 مليار دولار. واوضح كاسبار، «أن لبنان اضطر خلال السنوات الست عشرة الماضية لتسديد دينه بمعدل فائدة بلغ 14 في المائة في الوقت الذي كانت فائدة «ليبور» لا تتجاوز 4.5 في المائة في الفترة نفسها. وفي منتصف التسعينات لامست معدلات الفائدة على سندات الخزينة 40 في المائة، في الوقت الذي كان في رأس أولويات الحكومة تثبيت سعر العملة الوطنية، وضبط الاسعار في السوق، بعد سنوات طويلة من الانهيار النقدي وموجات التضخم».

أما منسق «مركز الدعم التقني للشرق الاوسط» (ميتاك) سعادة الشامي فقد اعتبر «ان ارتفاع معدلات الفائدة بررته الظروف النقدية والاقتصادية التي طبعت نهاية الحرب. وأدى هذا الوضع الى زيادة الدين العام لمصلحة البنوك المحلية، المقرضة الاساسية للدولة».

ويرى المشاركون ان تخفيض أو تجميد الدين العام يمر أولاً بتطبيق الاصلاحات الكفيلة بتخفيض عجز الموازنة، وخفض هوامش البنك عند تمويلها الدين، كما يفترض خصخصة مؤسسة كهرباء لبنان، وقطاع الهاتف النقال وزيادة الرسوم، لكن هذا كله لا يكفي لأنه حتى لو طبقت كل الاصلاحات الواردة في «باريس 3» لبقي مستوى الدين مرتفعاً نسبياً. وإذا كان مؤتمر دعم لبنان الذي عقد في يناير(كانون الثاني) 2007 حدد هدفاً يتمثل بخفض الدين الى ما نسبته 144 في المائة من اجمالي الناتج المحلي في عام 2011 مقابل نحو 180 في المائة في عام 2007، فإن الشامي يعتبر «أن هذا الهدف ليس بالطموح المطلوب، لأن الاردن، على سبيل المثال، استطاع خفض دينه العام في عدة سنوات من 210 في المائة من اجمالي الناتج المحلي الى 70 في المائة. ومن هنا بات من الضروري على البنوك، التي تمول حالياً 56 في المائة من مالية الدولة، أن تساهم في خفض الدين في المدى المتوسط من خلال اعادة تمويل السندات المستحقة بفوائد أقل». لكن المشاركين تساءلوا ما اذا كانت الظروف التي خلفتها الازمة المالية العالمية، بما في ذلك ندرة السيولة، ستساعد في سلوك البنوك هذا الطريق.