في تونس.. ما فوق الرأس قد يكشف عما بداخله

الشاشية التونسية تتنافس مع بقية أغطية الرأس

يبدو أن أصل كلمة الشاشية تركي، وتعني الطاقية المنمقة («الشرق الأوسط»)
TT

تعتبر صناعة الشاشية في تونس من بين أعرق الصناعات التقليدية التي رافقت حياة التونسيين لقرون من الزمن، وهي عنوان تميز للابسيها وهي بذلك غير قابلة للتقليد، إذ تعتمد على عناصر في صناعتها قلما تتوافر في الصناعات المعملية. وتعتبر الشاشية صناعة حرفية بالأساس تنطلق من الصوف الطبيعي لتسلك عديد المراحل لتصبح في نهاية المطاف قابلة للارتداء. ويرى البعض أن أصول الشاشية التونسية بصناعتها الحالية راجعة إلى بلاد الأندلس، وقد جلبها الأندلسيون أثناء هجراتهم منذ حوالي أربعة قرون. إلا أن الشاشية أخذت عديد الأشكال والألوان. ويبدو أن أصل الكلمة تركي، وتعني الطاقية المنمقة.

وقد جلب الأتراك أثناء سيطرتهم على تونس نوعين من «الشواشي» كما يسميها التونسيون ونعني بذلك الشاشية من نوع «المجيدي» و«الاسطنبولي»، كما انتشر في بعض المناطق الطربوش من النوع الذي كان يرتديه الخديو إسماعيل في مصر، إلا أن هذه النوعية كانت محدودة الاستعمال في تونس. وكان ارتداء الشاشية من بين العلامات الدالة على المرتبة الاجتماعية للأفراد، وعادة ما ارتبطت الشاشية بشيوخ جامع الزيتونة وهي دليل على العلم والتحصيل. وكان من العيب على الرجال كلهم الخروج إلى الشارع عراة الرؤوس، وهذا يشمل كل الشبان البالغين، وكان الذين لا يرتدون الشاشية أثناء عقود الاستعمار الفرنسي وبداية الاستقلال مصنفين ضمن المثقفين، وحتى بورقيبة الرئيس التونسي السابق وقائد الحركة التحررية كان يظهر في أكثر من صورة وهو يرتدي الطربوش من النوع الاسطنبولي.

ولئن تغيرت الظروف وعم التعليم وطرأت تطورات كبيرة على الحياة الاجتماعية، فإن الشاشية حافظت على الكثير من مستعمليها، وهي تختلف كثيراً عن الملابس الأخرى التي ظهرت أخيراً وأقبل عليها الشباب مثل «الكسكات». ويرجع ذلك بالأساس إلى المكونات الطبيعية للشاشية، فهي تصنعها في تونس النساء في المنازل وهن منتشرات خاصة في الولايات (المحافظات) القريبة من العاصمة مثل أريانة وبنزرت ومنوبة. وتتلقى النساء المواد الطبيعية المتمثلة في الصوف من الحرفيين، فيحولنه إلى خيوط طبيعية سرعان ما تمر بمراحل أخرى لتصبح ذات ألوان حمراء قانية هي الميزة الأساسية للشاشية التونسية. ولئن نوع سكان الحاضرة (كناية على العاصمة التونسية) في اللباس، وهناك من حافظ على الشاشية وأصبحت هناك أنواع من الشاشية منتشرة في الجنوب التونسي وأنواع أخرى في الشمال. كما أن التجار والحرفيين لديهم أنواع أخرى من الشاشية. وتحفظ الشاشية الرأس من كافة أشكال الرطوبة وتشكل بذلك غطاء طبيعياً للرأس المعرض للحرارة والأمطار وغالباً ما يتسبب ذلك في عديد المشاكل الصحية.

وحول هذه الصناعة المهمة، قال فتحي العيارين، حرفي بالمدينة العتيقة بالعاصمة التونسية، إن النظرة للشاشية لم تتغير كثيراً خلال العقود الماضية، فهي من بين العلامات الدالة على التقدم في السن باعتبار أن الأجيال الجديدة تغافلت عن الشاشية لعقود متواصلة وهو ما انعكس على هذه الصناعة. واليوم لا تتجاوز طاقة الإنتاج حدود 400 ألف شاشية في السنة، ونسبة 95 بالمائة من الإنتاج توجه نحو الأسواق الخارجية وخاصة ليبيا ونيجيريا، ولا يسوق في تونس سوى 5 بالمائة أي قرابة 20 ألف شاشية سنوياً. ويرى صلاح الجبالي أن التغافل عن اقتناء الشاشية منذ الصغر وتعويد الناشئة على لباسها طوال السنة واغترار الأجيال الجديدة بكل ما هو مستورد وراء التراجع الكبير الذي تعرفه هذه الصناعة العريقة. كما أن ارتداء الشاشية لاتقاء البرد خلال أربعة أشهر شتوية يعد من بين عوامل التراجع والانحسار الذي تعيشه صناعة الشاشية في تونس.

هذا وتتنافس الشاشية التونسية مع بقية أغطية الرأس على غرار «الكسكات» و«البيريه» و«الشابو» وهي بذلك في امتحان عسير في بلد أكثر من نصف سكانه من الفئات الشابة التي غالباً ما تود الظهور في مظاهر حديثة.

وحول هذا الموضوع يقول الذهبي الدجبي (تاجر أغطية رأس عصرية) إن الشباب يحب الموضة لذلك نجلب الأصناف الجديدة من الكسكات الرياضية، وتلك التي تحمل العلامات العالمية التي تتماشى مع عديد الأذواق. أما المنصف الورغي (تاجر أغطية رأس نسائية)، فقد لاحظ أن الإقبال يزيد في فصل الشتاء ويأتي بالأساس من الشبان والفتيات. وقد لا يزيد سعر «الكسكات» على ستة دنانير تونسية (حوالي خمسة دولارات) وهو سعر شعبي في متناول الكثير من التونسيين. وطلبنا منه مقارنة هذا السعر مع أسعار الشاشية فلاحظ أن الفرق شاسع وهو في حدود الضعف على الأقل. كما أن نظرة الشباب إلى مرتدي الشاشية غالباً ما تكون دونية مرتبطة بالمحافظة والفكر التقليدي.

وفي تونس يمكن أن تعرف طريقة تفكير الشخص بمجرد أن ترى غطاء رأسه. فخريجو جامع الزيتونة والمتمسكون بالتقاليد والعادات التونسية يحرصون كل الحرص على لباس الشاشية، وهذا الأمر قد يمس الشباب كذلك المتمسك منه بتلك التقاليد، أما المثقفون والفنانون وخريجو الجامعات، فإنهم يفضلون «البيريه» بأنواعها، وهي قادمة من أوروبا لذلك يرون أنها عنوان الحداثة. وتفضل الفتيات «البونيه» بألوانها المتنوعة لاتقاء برد الشتاء، أما الرياضيون والشبان فيرتدون «الكسكات» بمختلف علاماتها، وفي ذلك إظهار للحركية والنشاط المميز للفئات الشابة. وبذلك يمكن القول إن ما فوق الرأس يكشف ولو بنسبة ما، عما بداخل الرأس، فالشاشية للتقليديين وبقية أغطية الرأس الأخرى للمنغمسين في عالم الحداثة.