ثقافة الطعام تنتج مشاهيرها ونجومها

أخبار الطباخ هيستون بلومنثال تتصدر العناوين الرئيسية في صحافة العالم > إحدى الصحف تقارن الاهتمام الإعلامي بمطبخه بفضيحة جنسية للورد محافظ

هيستون بلومنثال يحضر الآيس كريم للملكة اليزابيث الثانية (رويترز)
TT

الطفرة الاقتصادية خلال السنوات الأخيرة، في تسعينات القرن الماضي والعقد الحالي، صاحبتها ثورة حقيقية في ثقافة الطعام، بكل ما في الكلمة من معنى. آلاف المطاعم، ومن كل المستويات، انتشرت في كل مكان. المقاهي، في بريطانيا مثلا، انتشرت في الشوارع، وأخذت مكان الحانات الإنجليزية التقليدية. وسائل الإعلام المختلفة بدأت تخصص لها مساحات واسعة، مستخدمة ليس فقط نقادا متمرسين في هذه الثقافة، وإنما طباخين محترفين يقدمون أفضل أطباقهم. إذا زرت القسم الخاص بكتب الطبخ في إحدى المكتبات الأوروبية والأميركية الشهيرة، مثل «ووترستونز»، و«بوردرز»، ستجد آلاف الكتب التي تطبع سنويا لتغطي حاجة السوق. هيستون بلومنثال، أحد أصحاب المطاعم العالمية، ليس سياسيا، ولا نجماً من نجوم هوليوود، الذين أصبح للعديد منهم مطاعمهم في مختلف عواصم العالم، مثل روبرت دينيرو، وبروس وليس، وسيلفيستر ستالون، وغيرهم.

بلومنثال هو مجرد طباخ يمتلك سلسلة مطاعم، أشهرها مطعم في قرية باري في مقاطعة باركشاير في جنوب غرب، إلا أنه أصبح أشهر من نار على علم. شهرته ومكانته الاجتماعية المكتسبة من خلال مهنته وأمواله ومن يحتك بهم من مشاهير ممن يأتون لتناول الطعام في مطعمه، جعلت منه نجما في حد ذاته، ومادة إعلامية للصحافة. أخباره الشخصية والمهنية وأخبار مطعمه تتصدر عناوين الصحف في العالم. وقبل يومين، بعد أن أعيد افتتاح أبواب مطعمه «فات داك»، الحائز على ثلاثة نجوم من مؤسسة «ميتشلين» الشهيرة، اختير كأفضل مطعم في العالم في عام 2005، بعد إغلاق دام أكثر من أسبوعين، بسبب حالات التسمم التي أصيب بها 400 من زبائنه، حيث تجمهر المصورون أمام المكان، مسجلين كل صغيرة وكبيرة. وهذا الموضوع تناولته جميع الصحف البريطانية، بلا استثناء. وكان قد أرسل رسالة إلكترونية إلى زبائنه ممن حجزوا لعشاء تلك الليلة، محذرا إياهم من الصحافيين والمصورين المتجمهرين أمام المكان. وقال لهم «إذا كنتم تخشون التقاط الصور لكم لدى وصولكم إلى المكان، فعليكم أخذ الحيطة، أو إلغاء الحجز، والحضور إلى المطعم في مناسبة أخرى».

وعلقت بعض الصحف، واصفة المشهد قائلة «إن مَنْ شاهد تجمهر الصحافة والمصورين في هذه القرية الإنجليزية الهادئة، قد يعتقد في بداية الأمر أن ذلك بسبب فضيحة جنسية تخص عضوا من حزب المحافظين في مجلس اللوردات».

المراقبون للتحولات الاجتماعية يعتبرون فترة تربع مارغريت تاتشر على سدة الحكم في بريطانيا كانت فاصلة في بروز الفردية التي تعتبر أساسا لبزوغ ثقافة المشاهير والشهرة بشكل عام. جملتها الشهيرة بأنه «لا يوجد هناك مجتمعات. إننا فقط أفراد وعائلات» أصبحت تعبر عن فلسفتها ونظرتها إلى المجتمع، وأصبح الاقتباس يستخدمه النقاد عند تناولهم «التاتشرية»، كما أصبحت تسمى. إن الاهتمام بأخبار المشاهير ليس بالشيء الجديد. الإعجاب مثلا بممثلي السينما قدمه بقدم الصناعة نفسها، ولكن ما حدث في السنوات الأخيرة كان طفرة حقيقية في ثقافة المشاهير (سيلبرتي)، وأصبحت أخبار هؤلاء تملأ وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة، ولكن ليس فقط فيما يقومون به في مجالاتهم المختلفة، مثل التمثيل والغناء وغيرهما في صناعة الترفيه، وإنما كل ما يخص حياتهم الشخصية.. مشاكلهم، وما يأكلون وما يشربون ويلبسون، زواجهم وطلاقهم، وكل نواحي حياتهم أصبحت مادة تتناولها وسائل الإعلام بإسهاب، وأصبح لها جمهورها. وأصبح لكل مهنة وناحية من نواحي الحياة مشاهيرها، وهذه غير محصورة في صناعة الترفيه فقط، وأصبح للسياسة والإعلام مشاهيرهما.. فمثلا مذيع النشرة الإخبارية في الـ «بي.بي.سي» جيرمي باكسمان لا يقدم الأخبار فقط، وإنما أصبح مادتها أيضا. وعندما زار رئيس وزراء بريطانيا غوردون براون مؤخرا مبنى الكونغرس؛ لم يُستقبل فقط بالتصفيق والوقوف عشرات المرات، ولكن بعد أن ألقى خطابه السياسي حول الأزمة المالية العالمية والوضع الدولي المتأزم، تقدم له العاملون وأعضاء الكونغرس، طالبين منه التوقيع لهم على الأوتوغرافات، وعاملوه وكأنه أحد نجوم هوليوود.

الطفرة في ثقافة الطعام أنتجت هي الأخرى نخبة من الطباخين الأثرياء، وهؤلاء لا يتواجدون في مطابخ مطاعمهم فقط.. لقد أصبحوا أباطرة في أعمال فنون الطعام. يديرون المطاعم الشهيرة في العالم، ويقدمون برامج تلفزيونية مع كتب مصاحبة لها، ويظهرون في برامج المحادثات التلفزيونية «شات شو». النظرة الاجتماعية إلى هؤلاء تغيرت، وتغيرت مع ذلك مكانة فنون الطبخ، التي تشد إليها الأفراد من الفئات الاجتماعية المختلفة.

نايجيلا لوسن، هي زوجة اللورد ساتشي، وابنة وزير الخزانة البريطاني الأسبق اللورد نايجل لوسن. عاشت في السابق في 11 داونينغ ستريت، مقر وزير الخزانة، إلا أنها رجعت إلى الشارع كطباخة عندما كان الرئيس الأميركي جورج بوش في بريطانيا في زيارة رسمية لتناول الغداء في مقر رئاسة الوزراء. الطباخ المتمرد جيمي أوليفار أصبح بسبب شهرته أهم من العديد من أصحاب القرار في بريطانيا، وتنافست عليه الأحزاب البريطانية الرئيسية لضمه إلى صفها بعد حملته الشهيرة لتغيير أنظمة الطعام في المدارس البريطانية. وتمكن من فرض سياسات على برامج هذه الأحزاب بخصوص الموضوع. نقاد الطعام في صحف مثل «نيويورك تايمز»، أو «لو موند»، أو «لو فيغارو» الفرنسيتين يُعتَبَرون الأختام الضرورية لمهنة الطبخ. وكذلك الحال بالنسبة لبعض المؤسسات التي ترفع وتحط من قدر الطباخين.

غوردن رمزي الطباخ البريطاني الشهير يملك مطاعم حازت على نجمات «ميتشلين» الشهيرة في العواصم الكبرى والمدن العالمية، مثل لندن ونيويورك وباريس وطوكيو. وعندما قرر فتح أول مطعم له في العاصمة الفرنسية باريس، قال إنه سيغزو المطبخ الفرنسي في عقر داره. وتحققت أحلامه عندما حاز مطعمه في فرساي على نجمتين من مؤسسة «ميتشلين»،إلا أن ذلك لم يمنع فرانسوا سيمون، وهو واحد من أهم نقاد الطعام الفرنسيين، من توجيه عبارات لاذعة لمطعم رمزي، رغم الاحترام الذي تكنه فرنسا ومطبخها ونقادها لهذه المؤسسة الشهيرة. ووصف سيمون المطعم وصاحبه بأنه «ممل ومتعجرف وغالي جدا».

وأضاف سيمون في صحيفة «لو فيغارو»، واصفا طعام رمزي بأنه «نسخة مصورة»، أي أنه يفتقد إلى الإبداع والخصوصية، مضيفا أن ما حصل عليه رمزي هو شيء مهم جدا له، لأنه موهوب وجاد في عمله، «لكن طعامه في هذا المكان مثل من يدعوك إلى بيته للعشاء، ويحضر لك وجبات جاهزة من السوبر ماركت».

وطبعا هؤلاء المشاهير من الطباخين يحتاجون أيضا إلى مؤسسة ترعاهم وتصادق على مهنتهم.

المؤسسة الشهيرة «ميتشلين» احتفلت هذا الشهر بنشر دليلها الذي يحمل رقم 100. وطبعا الشهرة القادمة من المؤسسة تجلب معها أيضا الضغط والمآسي.

وقال جان لوك نيرا مدير المؤسسة لدى تقديمه الدليل السنوي «قد نجد دائما أشخاصا يختلفون معنا في التقييم»، مضيفا أن المؤسسة «لا تحتكر الحق في تحديد المذاق الجيد».

واتهمت المؤسسة بأنها منحت الطباخ الذي يعمل في فندق «بريستول» ثلاثة نجوم، لا لقدرته الإبداعية، وإنما لأن مطعمه هو المفضل لدى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي. وقال اثنان من مشاهير الطبخ في فرنسا إنهما سيبتعدان عن مهنة الطبخ في مطاعمهما الشهيرة، بسبب ضغط العمل الناتج عن محاولة الحفاظ على مستوى إعداد الأطباق والنجوم التي نالاها من مؤسسة «ميتشلين». مارك فيريا، 58 عاما، قال إنه لن يدير مطعمه «أوبيرج دي ايريدا»، الذي سيعاد افتتاحه في مايو (أيار) المقبل في منطقة الألب، لأسباب صحية، مضيفا في مقابلة حديثة تمت معه «لقد وصلت إلى النهاية. ولا يمكنني أن أضيف أي شيء إلى هذه المهنة». وقد جاء إعلانه عن تخليه عن إدارة مطعمه بعد أن نشرت مؤسسة «ميتشلين» بداية هذا الشهر دليلها للمطاعم، الذي منح الطباخ ثلاثة نجوم. وجاء قرار الطباخ فيريا بعد ثلاثة أشهر من قرار مشابه اتخذه زميله أوليفيير رولينجير، الذي حاز هو الآخر على ثلاثة نجوم من مؤسسة «ميتشلين» لمطعمه «ميزون دب بريكو» في منطقة بريتياني بفرنسا. وقال إنه غير قادر على الاستمرار في الطبخ على نفس المستوى. كما تخلى مؤخرا خمسة ـ من الحائزين على ثلاثة نجوم من مؤسسة «ميتشلين» ومن أشهر طباخي فرنسا ـ عن نجومهم. وانتحر بيرنارد لوزيو في عام 2003 بعد أن تسربت إشاعات في عام 2003 تفيد بأنه قد يخسر أحد نجومه من «ميتشلين». وقال ناقد صحيفة «لو فيغارو»، الذي يخشاه الجميع «عليك أن تكون دائما جاهزا وحذرا مثل لاعب كرة القدم. ولهذا، سيجيء اليوم الذي لن يكون لديك أي قدرة على الاستمرار، ولن يكون في العمل أي متعة أو إثارة».