«شون ـ كين».. مسرحية تجسد لقاء الغرب باليابان

اعتمدت على حركات الجسد والإضاءة والأصوات

يجري الروائي الياباني يونيتشيرو تانيزاكي في مسرحيته مقارنة بين الغرب واليابان على صعيد الحساسيات الثقافية والجمالية (تصوير: تشوكاكا آوكي)
TT

بدأت على مسرح الباربيكان في لندن فرقة «كومبليسيتي» البريطانية تقديم عروضها لمسرحية «شون ـ كين»، المقتبسة عن قصة للكاتب الياباني يونيتشيرو تانيزاكي صدرت عام 1933 جنبا إلى جنب مع دراسة تحمل عنوان «في مديح الظلال»، حيث يجري فيها الروائي الياباني الشهير مقارنة بين الغرب واليابان على صعيد الحساسيات الثقافية والجمالية.

تعود أحداث المسرحية إلى منتصف القرن التاسع عشر، وهي تحكي قصة الموسيقية الضريرة الجميلة صاحبة النزوات المتقلبة شون-كين التي ولدت في منتصف القرن التاسع عشر، مع خادمها وتلميذها والمولع بها ساسوكي. يستخدم مخرج المسرحية سايمون ماكبرني فريقا كاملا من ممثلين يابانيين مع استخدام اللغة اليابانية، مصحوبة بالترجمة الإنجليزية المكتوبة على جانبي المسرح، وهذا ما جعل متابعة التفاصيل المتقلبة لمسار المسرحية من إضاءة وأصوات وحركة دؤوبة في تغيراتها مع قراءة الحوار على الجانبين جهدا متعبا نوعا ما.

ومع ذلك، فإن لذلك الجهد جزاءه. فالمسرحية تأخذنا خطوة خطوة من الحاضر صوب النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث تقرأ لنا امرأة القصة عبر الراديو لنتعرف على الكيفية التي فقدت بها شون كين بصرها بشكل متعمد. لكن الصوت يختفي لتبدأ الشخصيات تتسلل كالظلال، وبدلا من ظهور «شون-كين» من خلال امرأة حقيقية، ظهرت دمية خزفية محلها تحركها امرأتان، بينما الصوت يتردد للممثلة اليابانية اري فوكاتسو، وهنا نتابع قسوتها المفرطة لخادمها وتلميذها وعاشقها ساسوكي، بينما لن تلقى كل أنواع التعذيب والإساءة التي تصبها سوى مزيد من التعلق والتوله بها.

لم تعرض القصة بصوت واحد، بل هناك أصوات متعددة تتراوح في نقلها، إذ يمضي المخرج ماكبرني في استخدام الحركة المتكررة بطريقة الكاميرا للإيحاء بأن التكرار لعدة أشخاص هو للشخص نفسه. ومثلما اعتادت فرقة «كومبليسيتي» في أعمالها السابقة، هناك استثارة لمخيلة المتلقي كي تبني الفجوات المتروكة في العمل، وبذلك لا يكون المتفرج مجرد متلق سلبي للعمل، بل هو مشارك ومؤول للفراغات أو لتلك المشاهد الموحية والمتخارجة عن زمان ومكان ما يحدث أمام أعيننا. وفي النصف الثاني من المسرحية التي تستمر لساعتين من دون فترة استراحة، تلعب دور شون كين ممثلة حقيقية تكون لابسة لقناع أولا، ثم تأخذ ممثلة أخرى هي فوكاتسو الدور مرة أخرى بعد سقوط القناع. خصوصا بعد تعرض شون كين إلى اعتداء على يد مجموعة من المبغضين لها فيشوهون وجهها لتضع فوقه ستارا خفيفا. وهنا يصبح أمام عاشقها ساسوكي خيار واحد: أن يخرج من حياتها، فهي لا تريده أن يراها بملامحها المشوهة. وفي المقابل يجد ساسوكي حلا آخر، يتمثل في فقء عينيه. وبذلك يكون قادرا على طمأنتها بأنه لن يراها إلا مثلما تحب، وبالنسبة إليه يرى الأمر من زاوية أخرى: إنها القدرة على الرؤية الواضحة تحت ستارة الظلام المعتم.

ويفاجئنا المخرج سايمون ماكبرني بعتمة مطبقة، ليصعد من خلفها ستار كاشف عن ضوء ساطع يعمي الأبصار وكأنه يستلهم الفكرة الخفية التي ظلت تسري بين جوانح النص: كم من الأشياء التي تمر بنا نحن حقا نراها ونميزها؟

مثل الكثير من الأعمال التي قدمتها فرقة كومبليسيتي نجد المخرج والمشارك في التأليف وصياغة الأفكار سايمون ماكبرني حريصا على تناول فكرة محلية ما لكنها في الوقت ذاته تمتلك صدى في الوجود الإنساني ككل. ففي مسرحية «فن التذكر» يثير مسألة الآليات التي تحكم التذكر وفي مسرحية «الرقم المتخفي» التي عرضت السنة الماضية على قاعة الباربيكان وفازت بجائزة «أوليفر» كأفضل مسرحية لعام 2008 استثمرت الرياضيات والعلاقة التي تنشأ بين عالمين رياضيين أحدهما هندي ويقيم في الهند والآخر بريطاني من كمبردج. وهنا يستكشف المخرج ماكبرني قصة يابانية مستكشفا فيها عناصر الاختلاف في الرؤية عن الغرب، لكنها في الوقت نفسه تلمس عنصرا أساسيا يقبع في النفس الإنسانية بشكل عام.

«شون–كين» عمل يستحق أن يشاهد لأكثر من مرة، وهو تجديد لتقاليد الفن المسرحي الذي يرى المسرح باعتباره ساحة أدائية تجريبية، هدفها قبل كل شيء استثارة مخيلة وفكر المتلقي، وفي الوقت نفسه إمتاعه بتقديم ما يمكن تسميته بالمسرح السحري، حيث لحركات الجسد والإضاءة والأصوات والتشكيلات النسقية لحركة الممثلين تصب في خلق الفتنة وإيقاظ الحواس والذاكرة والمخيلة والذهن معاً.