مكتب عنبر في قلب دمشق القديمة: سحر المكان والترف المعماري

تأسس القصر أواخر القرن التاسع عشر وكان أول مدرسة عربية في دمشق

يشهد القصر سنوياً تمركز العديد من شركات الإنتاج الفني لتصوير أعمال مستوحاة من البيئة الشامية («الشرق الأوسط»)
TT

يعتبر مكتب عنبر من أجمل وأروع وأهم أبنية وقصور وبيوت دمشق القديمة وربما يأتي في المرتبة الثانية بعد قصر العظم الشهير من حيث المساحة والزخارف الشرقية والترف المعماري والثراء الزخرفي الذي أهله ليكون في البداية مقراً للجنة حماية مدينة دمشق القديمة ومكتبها الفني. وأصبح منه يتم وضع الخطط والبرامج لحماية نسيج المدينة القديم المعماري والتراثي والتاريخي ومن خلاله وعبر لجنة الحماية أصبح المبنى عنواناً لمن يبحث عن نموذج لقصور وبيوت دمشق القديمة حيث يأتيه الزوار الرسميون وغير الرسميين ومن كل بلدان العالم ليشاهدوا صورة مصغرة عن دمشق القديمة متجسدة في هذا المبنى الرائع.

ومع اعتماده مقراً لحماية المدينة كان القرار أيضاً بتحويله إلى قصر للثقافة والفنون في قلب دمشق القديمة، فعلى الرغم من وجود مبان فاخرة في دمشق الحديثة وظفت للأنشطة الثقافية والفنية فإن المدينة القديمة ظلت بلا مركز ثقافي حتى جاء القرار بتحويل مكتب عنبر إلى قصر للثقافة والفنون بعد إنجاز أعمال الترميم فيه قبل عدة سنوات.

ومع أن المبنى لم يكن عبر تاريخه بعيداً عن الثقافة، حيث كان قبل ترميمه وإصلاحه وعلى مدى عشرات السنين مدرسة لتعليم الطلاب وشكل في فترة العصر العثماني وبعده أول مدرسة عربية في سورية حيث خرج مئات الطلبة الدارسين باللغة العربية.

ومع توظيف مكتب عنبر كقصر للثقافة والفنون قبل سنوات واستثمار عدد من قاعاته وأواينه وباحاته الواسعة لإقامة المعارض التشكيلية والتصويرية ولكن لم يشهد مكتب عنبر كثافة بهذه الأنشطة الثقافية. والسبب كما يقول بعض المثقفين هو أنه يختلف عن المراكز الثقافية الموجودة في المدينة الحديثة حيث إن هذه المراكز لديها خطط شهرية وأسبوعية للأنشطة الثقافية عليها أن تنفذها في حين أنه لا يوجد في مكتب عنبر خطط لأنشطة ثقافية ويتم فقط إقامة هذه الأنشطة بالتنسيق مع محافظة دمشق وعضو المكتب التنفيذي في مجلسها المحلي المختص بالثقافة وكذلك مع لجنة حماية دمشق القديمة وغالباً ما تكون هذه الأنشطة محدودة في فترات معينة ومع جهات معينة من خلال المهرجانات الثقافية والفنية السنوية أو أنشطة لجمعية أصدقاء دمشق أو من خلال طلب بعض السفارات المعتمدة بدمشق إقامة أنشطة ثقافية لرعاياها المقيمين.

ويعيد البعض أيضاً من المتابعين ضعف النشاط الثقافي في قصر الثقافة إلى وجود المبنى في شارع ضيق كحال شوارع وأزقة دمشق القديمة، مما يتعذر معه استقبال الرواد والضيوف بسياراتهم خاصة بعد أن منع مرور السيارات في سوق مدحت باشا المرمم قبل أشهر، حيث إن مكتب عنبر يتوضع في الزقاق الذي يأخذ اسمه متفرعاً من امتداد الشارع المستقيم الذي يربط باب الجابية بباب شرقي ويعتبر أهم وأقدم شار في دمشق القديمة.

وإذا كانت تسمية القصر جاءت في شقين أي للثقافة والفنون وإذا كانت الأنشطة الثقافية قليلة في القصر للأسباب السابقة الذكر فإن الشق الثاني من تسمية القصر أي الفنون فعالة بشكل جيد وتتجلى بغزارة تصوير المسلسلات التلفزيونية السورية في أروقة وباحات وقاعات وأواين القصر. ويشهد القصر سنوياً تمركز العديد من شركات الإنتاج الفني والمخرجين مع كادرهم التمثيلي والفني لتصوير أعمال مستوحاة من البيئة الشامية. ويأتي اختيار المخرجين لدراما البيئة الشامية من مكتب عنبر مكاناً لتصوير أعمالهم كونه يشكل مكاناً نموذجياً للبيت الدمشقي التاريخي ولاتساع قاعاته وأجنحته وتعدد باحاته وبحراته مما يتيح للمخرج والمنتج العمل بشك مريح داخل القصر، وكذلك وجود لجنة حماية دمشق القديمة وتبعية القصر مباشرة لها ولمحافظة دمشق يسهل الأمر في الحصول على موافقات التصوير داخله.

ومكتب عنبر بني في أواخر القرن التاسع عشر من قبل ثري دمشقي يدعى يوسف عنبر كلفه بناؤه في ذلك الوقت 42 ألف ليرة، كما يقول الباحث التاريخي نزار الأسود، وقامت فيما بعد الحكومة العثمانية باستملاكه لدين لها على صاحبه وحولته إلى مدرسة ابتدائية وسلطانية.

وقد ظل المكتب يقوم بمهامه التدريسية حتى خمسينات القرن الماضي وقد درس فيه وتخرج منه العديد من الشخصيات الدمشقية الهامة السياسية والأدبية والعلمية ومنها الرئيس السوري الأسبق شكري القوتلي والشاعر المعروف بدوي الجبل والوزير والسفير السابق جمال الفرا والطبيب المعروف حسني سبح الذي أصبح فيما بعد رئيساً لجامعة دمشق ولمجمع اللغة العربية وأسس مشفى المواساة في دمشق.

ومن طلاب المكتب أيضاً الوزير السابق نسيب البكري وهو أحد المشاركين في الثورة ضد الاحتلال الفرنسي ورياض العابد نقيب المحامين الأسبق في سورية ومن طلاب المكتب أيضاً الأدباء والعلماء وجيه السمان وزكي المحاسني وأمجد الطرباسي وشكري فيصل وسعيد الغزي ومحمد عربي الأسود ونزيه الحكيم وآخرون أما من أساتذة المكتب فكان هناك جودت الهاشمي الذي أطلق اسمه على أول مدرسة تجهيز حديثة في دمشق تأسست أواسط القرن العشرين المنصرم في منطقة الفردوس وسط العاصمة دمشق، ومن أساتذة المكتب المخترع اللبناني الشهير كامل المصباح حيث درس الرياضيات فيه وكان معاوناً لمدير المكتب قبل أن يغادر دمشق بعد الاحتلال الفرنسي سنة 1920. ومن الأحداث الهامة التي مرت على مكتب عنبر كما يرويها الباحث أنس تللو هي قيام الزعيم التركي جمال باشا السفاح وبعد أن أعدم الثوار في ساحة المرجة الدمشقية وفي بيروت بزيارة مكتب عنبر الذي كان يسمى بالتركية سلطاني مكتبي ووقف في شرفة الطابق الثاني المطلة على الباحة وقفة الجبار المنتصر وكان الطلاب قد اجتمعوا في الباحة لتحية العلم التركي وتحية السلطان وكان مدير المكتب قد أنذر الطلاب قبل مجيء السفاح إذ قال لهم باللغة التركية: «إن كل من يتجرأ ويرفع رأسه إلى الأعلى وينظر إلى حيث يقف الباشا سوف يكون مصيره مثل مصير من علقت أجسادهم في ساحة المرجة».