الغوطة تحتضن الدمشقيين في موسم «السيران» الربيعي

تقليد اجتماعي عائلي معروف منذ مئات السنين

طقوس السيران الذي ما زال يصر على إحياء تقاليده الدمشقيون للترويح عن أنفسهم («الشرق الأوسط»)
TT

اشتهرت العاصمة السورية دمشق منذ مئات السنين بغوطتها الخضراء التي كان يحيط بها حزام أخضر من أشجار اللوز والمشمش والجوز وغيرها من البساتين الخضراء، وكانت الغوطة التي كانت تخترقها فروع نهر بردى السبعة توجد في الجهتين الغربية والشرقية من دمشق، ولذلك قسمها الناس حسب اتجاهها إلى غوطتين، وقد أعجب الكثير من الشخصيات التاريخية بالغوطة عندما شاهدوها في زياراتهم إلى دمشق، ومنهم الخليفة العباسي المأمون الذي نظر إلى أشجار الغوطة ونباتها فأقسم أنها خير مغنى على وجه الأرض، وقال: «عجبت لمن يسن غيرها كيف ينعم مع هذا المنظر الأنيق الذي لم يخلق مثله».

ولكن الغوطة التي أدهشت المأمون لم تعد هي كما شاهدها قبل أكثر من ألف عام، وحتى لم تعد هي لمن شاهدها قبل عام، حيث تعرضت ومنذ أواسط القرن العشرين المنصرم لكارثة بيئية صنعها الإنسان نفسه وليس الطبيعة، من خلال الزحف الإسمنتي الهائل عليها وتحويل مناطق مشجرة واسعة منها لحارات وضواح سكنية وعمارات ضخمة لم تتوقف على مدى السنوات الخمسين المنصرمة، رغم حملات التوعية والقوانين الصارمة التي أصدرتها الحكومة السورية في السنوات الأخيرة لحماية ما تبقى من الغوطة، والتي خففت قليلا من الزحف العمراني عليها، مع تفاؤل البعض من المدافعين عن البيئة وعن الغوطة بأن تساهم المراسيم والقوانين التي صدرت في النصف الثاني من العام الماضي 2008 من وقف التعدي على أراضي الغوطة الزراعية وأشجارها وبساتينها.

كذلك شهدت الغوطة في السنوات العشرين الخيرة إقبالا كبيرا من المستثمرين السوريين والعرب على إشادة المطاعم الضخمة والمنتجعات السياحية الحديثة فيها، خصوصا في مناطق الغوطة المحاذية لطريق دمشق الدولي.

وفي فصل الربيع الذي يبدأ من شهر مارس (آذار) ويستمر حتى أواخر يونيو (حزيران) تشهد الغوطة بقسميها الشرقي والغربي زحفا بشريا هائلا من سكان العاصمة دمشق، خصوصا أيام الجُمع والأعطال، في تقليد دمشقي اجتماعي عائلي معروف منذ القديم يطلقون عليه اسم «السيران» (وهي كلمة كردية تعني نزهة).

وتجتمع العائلة أو شلة الأصدقاء في الصباح الباكر كل يوم جمعة أو يوم عطلة في مكان محدد، لينطلقوا بسياراتهم باتجاه الغوطة وليأخذوا مكانا محددا تحت ظلال الأشجار أو على المسطحات الخضراء الطبيعية، أو بجانب حقول القمح والخضار، ولتبدأ مفردات طقوس السيران التي هي أشبه ما تكون برحلة ترفيهية عائلية، حيث تستمر حتى المساء ليعود الجميع إلى منازلهم بعد سيران دمشقي جميل.

ويقول حمود الديراني (أبو عاطف) لـ«الشرق الأوسط» عن السيران ومفرداته: «منذ أكثر من أربعين عاما أقوم مع عائلتي وأحفادي بالسيران كل يوم جمعة إلى الغوطة، وأحيانا نترافق مع أقارب لنا أو جيراننا وأصدقائنا، ونستعد للسيران منذ مساء يوم الخميس، حيث تقوم النسوة بتحضير مستلزمات السيران من مأكولات ومقبلات في المنزل، ومنه بشكل أساسي التبولة والفتوش والموالح وبعض المسليات، كما نحضر اللحمة الحمراء لشيّها في السيران وتناولها مباشرة على الغداء، حيث نأخذ معنا مستلزمات الشواء من وفحم وأسياخ وغيرها. وعادة نبدأ السيران باختيار المكان المناسب في الغوطة، ونقوم بافتراش الأرض التي نضع عليها حصيرا أو بساطا كبيرا، ونتسلى بلعب طاولة الزهر أو ورق الشدة، مع تبادل النكات والأحاديث المسلية حتى يأتي موعد الغداء، حيث يقوم أحد أفراد العائلة أو شلة الأصدقاء، والذي يكون عادة متبرعا للقيام بشي اللحم ومن ثم تحضر النساء سفرة الطعام ونتناول المشاوي ساخنة طرية مع التبولة والسلطة والفتوش، وبعدها نشرب العصير ونعود للتسلية. ويقوم الشباب والفتيات بالرقص على إيقاع الطبلة أو من خلال مسجلات الصوت، حيث نضع الأغاني الشعبية الراقصة ونستمر بالتسلية حتى المساء لنعود بعدها إلى المنزل في نهاية سيران جميل».

وليس بعيدا عن مكان جلوس أبو عاطف كانت أسر كثيرة تفترش الأرض الخضراء، والبعض منهم عقدوا حلقات رقص ودبكة شعبية، كما شاهدنا مجموعات من الشباب والصبايا في سيران مشترك، قالوا لنا إنهم جاؤوا في سيران منظم من قبل مؤسسات اجتماعية ومدرسية.

أحد الدمشقيين عرفنا على نفسه باسم ياسر الحمصي ويعمل مهندسا إلكترونيا في شركة سورية خاصة، وهو من الجيل الشاب، جاء مع عائلته المكونة من زوجة وولدين ومعه عائلة ثانية. قال: «كل أسبوع آتي إلى السيران للغوطة الشرقية، ولكن بعكس البعض من السيرانيين فنحن نجلب معنا الطعام جاهزا ولا تحضّره زوجتي في المنزل، فالمطاعم كثيرة التي تحضّر لنا ما نريد وتغلفه بشكل جيد وترسله لنا إلى المنزل، حيث نجلبه معنا في السيران، فلماذا تتعذب زوجتي، وهي موظفة مثلي، في تحضير مأكولات السيران قبل يوم منه؟» وبالفعل فإن ياسر والكثير من الجيل الدمشقي الشاب غيّر من طقوس السيران الذي ما زال يصر على إحياء تقاليده القديمة كبار السن فقط، مع استثناءات بسيطة، خصوصا في مجال تحضير الطعام في السيران وافتراش الأرض.

ويقوم البعض من الجيل الشاب بجلب كراسي خاصة للسيران تطوى وتفتح في أثناء الجلوس، يجلسون عليها بدلا من الجلوس على الأرض. ويقول أحد المتابعين لهذا التقليد الدمشقي العريق إن هناك عشرات المطاعم والمنتزهات باتت تزنر غوطة دمشق، ومنها مطاعم أسست في السنوات الخمس الأخيرة على الطريقة الأوروبية، حيث المنتزهات والتزلج على الجليد ومدن الملاهي داخلها، وهذه المجمعات السياحية أثرت إلى حد ما على تقاليد السيران الشعبية، حيث يقوم الكثير من الدمشقيين بالجلوس فيها والاستفادة من خدماتها المسلية وتناول الغداء فيها، ولكن يبقى للسيران التقليدي من افتراش الأرض الخضراء والأكل على الأرض وشواء اللحم مباشرة، شعبيته الكبيرة لسببين هامين هما: المتعة التي يحققها الجلوس في وسط المسطحات الخضراء وتحت الأشجار الخضراء المزهرة، والثاني هو أن السيران الشعبي التقليدي مجاني ولا يدفع السيرانيون أموالا لجلوسهم في مطعم أو منتزه من منتزهات الغوطة، مع أن هناك بعض أصحاب البساتين، خصوصا في الغوطة الشرقية، حولوا بساتينهم إلى مشاريع استثمارية في فترة السيران، حيث يطلبون ممن يرغب في الجلوس فيها أجورا قليلة نسبيا، ولكن يقدمون لهم في المقابل بعض الخدمات كالماء والمصاطب للجلوس عليها أو الكراسي والطاولات لمن يرغب من السيرانيين.