تعقيبا على مقال: «غيرتم ديننا ولغتنا ولم نقل شيئا»

TT

> نشرت جريدة الشرق الأوسط في عددها رقم (11107) الصادر يوم الأحد 26 أبريل (نيسان) 2009 مقالا للأستاذ الكبير أنيس منصور، بعنوان: «غيرتم ديننا ولغتنا ولم نقل شيئا»، تحدث فيه عن آثار حملات إبراهيم باشا على «الدرعية»: قصبة الحكم السعودي منذ نحو قرنين وبصفتي أحد القراء الذين يحرصون على الوضوح قبل الدعابة، ثم إني محب لمصر وأهلها، أجد من واجبي أن أكون منصفا في التعقيب كإنصاف الجبرتي في التأريخ لرجال الدرعية لما استضافتهم مصر قهرا عنهم.

وللإنصاف نظن أن حملات محمد علي باشا على نجد لم تكن من رغبة المصريين، فلعلك تذكر ما كشفت عنه وثائق هذه الفترة أن جيش إبراهيم باشا كان يضم - في أكثره - جنودا غير مصريين من أتراك وشركس وألبان، والمصريون في جيشه كانوا قلة، وما كان صنيع محمد علي باشا إلا تلبية لسياسة العثمانيين وتحقيقا لرغبتهم في إخماد القوة والوحدة في نجد قلب الجزيرة العربية حرصا على دوام سيطرتهم في الحجاز وسواحل الجزيرة العربية شرقا، وأطرافها الشمالية، ولكن محمد علي لما لاحظ ضعف الخلافة أراد أن يجعل توسعاته ضمن دولته وسلطانه، فتنبهت له الدول الغربية المتخوفة من تنامي قوته فاتخذت من قرارات مؤتمر لندن 1840م وسيلة ضغط على الخلافة العثمانية للحد من أطماع والي مصر، واقتصار دولته على حدود أرض مصر والسودان، فلما رفع يده عن نجد والحسا والحجاز عادت دولة آل سعود إلى مكانها في التاريخ كأقوى مما كانت بفضل الله ونعمته، وانظر ما قاله السيد هارفرد جونز بريدجز في كتابه: (موجز لتاريخ الوهابي) ص 211:

«... وإنه لن يؤسفني أن أرى الحكومة التي تسبب هذا الباشا في تشتيتها في الوقت الحاضر – كان ذلك على عهد الباشا نفسه – تنهض من تحت رمادها».

فأنت يا أستاذ أنيس لما تجولت في «الدرعية» رأيت ما يراه البصر من هدم المباني ودمار العمران، ولم يخطر ببالك أن الهدم الحقيقي كان موجها ضد الحكم الذي سكن الدرعية وضد كيان الدولة التي نشأت فيها.

ولعلك أيضا تذكر أن الإمام عبد الله بن سعود عندما سلم نفسه لقيادة جيش الباشا، كان راغبا في حقن دماء شعبه، وأكرر لك أن مصر لم تكن ترغب في قتله لذلك بعث به محمد علي إلى الآستانة ورجا صيانة حياته حيث يكفي إبعاده، فأعدموه في الآستانة بمقتضى سياستهم في الجزيرة العربية.

ومن ثم آلت الدولة السعودية آنذاك إلى مناطق نفوذ وصراعات كسيرتها الأولى، وهي أول دولة حرصت على وحدة الجزيرة العربية من بعد عصر الخلفاء الراشدين.

فهل يتساوى هذا في نظرك مع الفتح الإسلامي لمصر وتحرير أرضها وأهلها من الاحتلال الروماني الذي دام عقودا؟! أليس – كما تعلمون ويعلم الناس – أن أهل مصر وبرغبة في الحرية مدوا يد المساعدة لعمرو بن العاص ومن معه لبلوغ شريعة الإسلام برسالتها في ربوع مصر ثم ما وراءها؟

وأنت اليوم ثمرة من ثمرات هذا الفتح المبين.

فلم يتغير دين المصريين بالقهر ولا بالسيف بل عن رضا بالإسلام وسماحته، وعن طواعية تامة.

وليست دعوى تغيير اللغة بأكثر من دعابة المقال يا أستاذ أنيس، فالثابت تاريخيا هجرات لبعض العرب إلى مصر لأسباب كثيرة أهمها الجدب الذي ينتاب الجزيرة أحيانا، من قبل الفتح فشاعت لغتهم – ولو في حدود – وبهذه اللغة كان يتم التبادل التجاري، وبها كتب الرسول صلى الله عليه سلم رسالته إلى المقوقس عظيم القبط في مصر، وبها أيضا تفاهم عمرو ومن معه مع أبناء مصر بغير حاجة إلى ترجمان، والعبرة دائما بالثمرات، فهذه هي مصر التي أحياها دين الإسلام ولغته، وستظل قلبا نابضا للعروبة فكما احتضنت الجامع الأزهر منارة للعلوم الشرعية وحصنا للغة على مدى ألف عام تحتضن اليوم الجامعة العربية وهذان رابطان من أجمع الروابط في جمع الأمة الإسلامية والأمة العربية بريادة وسياسة حكيمة.

فأنظر يا أستاذ أنيس كيف صارت مصر بعد التغيير الذي لم تقل فيه شيئا: لقد كان فاتحة خير لمصر وللعرب على السواء.

وسؤالي الآن إلى الأستاذ الكبير أنيس منصور:

كيف طاوعك قلمك أن تطلق دعابة قد تخفى على كثير من القراء فيحسبون أنها تاريخ وحقيقة ولا يظنون أنك لا تقصد بها سوى الدعابة؟

لقد أحسست أنني مضطر إلى جلاء بعض القول – نيابة عنك وعن هؤلاء الذين لا يحسنون قراءة الدعابات بأقلام الكبار – حتى تبقى الحقيقة دائما مصونة في القلوب والأذهان، وكما يجب لها من التوقير والمراعاة.

قارىء سعودي محب لمصر