الإنفاق الانتخابي يتخذ أشكالا متعددة ولكن السخاء طابعه المميز العام الحالي

القانون اللبناني حدده بـ100 ألف دولار لكل مرشح

TT

بكر كثير من النواب اللبنانيين الذين لم يحظوا بفرصة تجديد ثقة مراجعهم وأحزابهم في جمع أغراضهم الخاصة من مكاتبهم الملحقة بمبنى المجلس النيابي وإخراجها منها، تمهيدا لتسليم مفاتيحها إلى الخلفاء الجدد بعد ما بدا من حسم الاصطفافات السياسية الحادة، مسبقا، للنتائج في العديد من الدوائر الانتخابية.

ويخيم الاستحقاق ذاته على الشأن الحكومي المنصرف إلى محاولة إنجاز ما يمكن إنجازه من معاملات فيما يودع الوزراء مرؤوسيهم ويخلون مكاتبهم من متعلقاتهم الخاصة، كون الحكومة تعتبر مستقيلة حكما بعد الانتخابات وتتولى حصرا تصريف الأعمال في انتظار تأليف الحكومة الجديدة التي ستحدد هويتها انتخابات 7 يونيو (حزيران) المقبل. وفي غضون ذلك، ومع ازدياد التنافس الانتخابي يزدهر موسم «بزنس» مزدهر لقطاعات عديدة نتيجة الإنفاق السخي ـ العلني والخفي ـ على الحملة الانتخابية.

أكثر المستفيدين من هذا «البزنس» هم ناخبو الدوائر «الحساسة» التي تستعر فيها المواجهات الانتخابية بحيث باتت المعادلة واضحة: ازدياد التنافس يقابله ازدياد الإنفاق. والموسم الحالي متميز بقدرة كل الأطراف السياسية الرئيسية على تخصيص ميزانيات ضخمة للترويج لمرشحيهم وتسويق برامجهم إلى حد السعي لاجتذاب الأصوات من الخارج حيث العاملون والمغتربون والمجنسون يشكلون شريحة وازنة من شأنها قلب المعادلات في الدوائر شديدة التنافس كالمتن الشمالي وبيروت الأولى وزحلة والبقاع الغربي والكورة. وهي دوائر قادرة على أن ترجح نتائجها هوية الأكثرية الجديدة بين تكتلي 8 أو 14 آذار.

وليس غريبا أن تعجز شركات الإعلان حاليا عن تأمين لوحات طرق إعلانية لعملائها من غير المرشحين، خصوصا على امتداد الشريط الساحلي من أقصى الشمال إلى مدينة صيدا (مدخل الجنوب). إنها معركة ألوان أشبه بلوحات سيريالية: الأزرق والبرتقالي (تيار المستقبل والتيار الوطني الحر) الأكثر طغيانا، وحولهما «ألبوم» متنوع لصور المرشحين من قياسات مألوفة. وقياسات عملاقة بعضها يحترم الأماكن المسموحة وبعضها الآخر يجتاح أي مساحة متاحة. بما فيها أعمدة الكهرباء والجدران الخارجية للمنازل والمؤسسات وحتى المستوعبات وجذوع الأشجار وكل ما ملكت أيادي المناصرين الذين يتبارزون بعدد ما علقوه من صور وشعارات.

من يستدعي ناخبيه من الخارج ومن يسدد عنهم نفقات السفر والإقامة في لبنان.. موضوع تكثر حوله الأقاويل والشائعات ولكن المؤكد أن الحجوزات مكتملة على معظم الطائرات المتجهة إلى بيروت في الأسبوع الأول من يونيو (حزيران) أي أسبوع الانتخابات التي ستجرى في السابع منه. وكذلك سيارات التاكسي دخلت حمى الحجز المسبق المخصص لنقل الناخبين من أماكن إقامتهم إلى مراكز الاقتراع. الصورة واضحة: أينما كنت أيها الناخب تدلل.. فهناك سيارة خاصة ستنقلك إلى مركز الاقتراع ومن ثم تعيدك إلى منزلك.

وكذلك أصبحت مطاعم المأكولات السريعة و«السناك» وأفران المناقيش واللحم بعجين كلها مطلوبة وبعضها خطط لمضاعفة إنتاجيته.. فثمة عشرات الآلاف من المندوبين والمناصرين والداعمين لهم الأولوية في الحصول على كل الإنتاج و«زعلهم» سيكون مكلفا للمرشحين ان لم يحصلوا على الوجبات في وقتها. ما يسمى بالمفاتيح الانتخابية مقصد الجميع.. والبازار مفتوح غالبا وكلما حميت المعركة ودنا الاستحقاق ازدادت الحملة ثقلا وازدادت المشاركة وزنا.

أما الصحف، التي تشكو أصلا من تناقص الإعلانات في السنوات الأخيرة بفعل التنافسية الكبيرة للتلفزيون والانترنت، فقد تستفيد من رافد صغير. لكن الصورة الناطقة أكثر جذبا لمن امتلك القدرة، والحساب هنا بالثانية وليس بالسنتيمتر، وقد كثر عدد المبدعين في الترويج والابتكار التسويقي فهذا موسهم السخي، فاللائحة تدفع والمرشح يدفع، وما حده القانون بما يماثل نحو 100 ألف دولار لكل مرشح كمصاريف انتخابية ينطبق على الظاهر الصريح. أما ما بطن فهو مشروع وإن كان أعظم، مع حسن التنبه فلا شيكات ولا دفع مباشر(على عينك يا تاجر) فحقيقة الإنفاق الانتخابي تبقى سرا مصانا خوفا من القوانين التي تحظر الرشوة، وتحسبا لاحتمال الخضوع للمحاسبة.

إنه اليوم الكبير. بعضهم وصفه بالمصيري وآخرون قالوا بالمهم الحاسم. لا أحد يعتبره محطة مسبوقة وتالية. لذا فهو يستأهل الصرف والإنفاق. الميزانيات مفتوحة كما الشهية. القطاعات المستفيدة تتنعم بخيراته وتتمنى تكراره بوتيرة أسرع من كل أربع سنوات. والطامحون من ذوي الفرص يستعجلون «اللوحة الزرقاء» زينة لسياراتهم. أما المواطن (الناخب) فهو كالقابض على الجمر ينقله من يد إلى يد، وكل همه أن يلقيه في الثامن من يونيو (حزيران). فيذهب إلى كسب قوته وقوت عياله ويعود إلى بيته سالما مطمئنا. ولا غرابة، فكل أجيال لبنان شهدت الحروب أو ما يضاهيها فعلا وتأثيرا منذ عام 1975 وحتى الساعة، وليس لها إلا الأمل بحكمة من سلمتهم قرارها ومصيرها.