بذخ قصور مدينة تونس.. يعود إلى الواجهة

بعدما طوته صفحات التاريخ

مكان السكن يعبر خير تعبير عن المكانة الاجتماعية لصاحبه («الشرق الاوسط»)
TT

وراء الأبواب في كل البيوت الكثير من الأسرار، أما إذا كان مكان الإقامة من فئة القصور الكبرى التي سكنها أعيان البلاد وحكامها، فإن الوضع يزداد تشويقا بطبيعة الحال.

الكلام أثير بمناسبة معرض قصور مدينة تونس وضواحيها الذي احتضنه قصر العبدلية بالضواحي الشمالية للعاصمة التونسية من 7 مايو (أيار) الجاري إلى 19 منه. هذه القصور والدور الفخمة الكبيرة كانت ولا تزال ملك الأمراء والوزراء والشخصيات الدينية، وأغلبها يعود إلى الفترة الممتدة بين القرن الثامن عشر والقرن العشرين، بينما يرجع البعض الآخر إلى العهدين الحفصي والمرادي.

ولكن من الناحية المعمارية تعد هذه المعالم شهادة ثمينة على أساليب التزيين والزخرفة وتطور تقنيات البناء في التراث المعماري التونسي. فكل القاعات الفخمة المترفة الملبسة بالرخام والنقوش الجصية واللوح المذهب والخزف المتعدد الألوان، وكذلك الأجنحة المخصصة للحريم، الصحون ذات الأروقة الأنيقة، والحدائق اليانعة الغناء... كلها تنطق بصريح العبارة عن ثقافة أخذت لحقبة طويلة بأسباب الرفاه والبذخ.

ويؤكد تاريخ هذه القصور أن الأعيان من رجال السياسة والدين كانوا يخصون كل قصر بالفصل الملائم له. وستظل هذه المعالم تروي من خلال قاعاتها وحجراتها سير ونهج حياة بعض الشخصيات المؤثرة في تاريخ تونس، مثل: خير الدين وخزندار وبن عياد.. وما سجلته الذاكرة الجماعية من مكائد السياسة وتقلباتها. كما تحمل الزخارف وطريقة البناء في هذه القصور عصارة الاختلاط والتمازج الحضاري بين التونسيين القديمي التجذر في البلاد والنازلين الأندلسيين والأتراك والإيطاليين.

حول هذه القصور، قالت محسونة السلامي «في مجال تناسق التأثيث في الزخرفة الداخلية للبيوت العربية فإن الحرفيين القدامى حاولوا المزج بين العامل الجمالي والعنصر الوظيفي لتلك البيوت العريقة. وهي تقنية جمالية تهدف بالأساس إلى استيعاب معاني الموروث المعماري التونسي والانفتاح على ما تزخر به بقية الحضارات من إبداعات معمارية». في حين قالت سندس الزاير في حديثها عن مستقبل الحدائق الحسينية «هذه الحدائق تعكس صورة عصرها في طريقة الجمع بين الطبيعة والثقافة، وهي تعبر عن اختلاف وجود هذه المدن في تاريخ الدولة الحسينية الممتد من عام 1765 إلى عام 1957 تاريخ إعلان الجمهورية في تونس والتخلي عن النظام الملكي (حكم «البايات»). وتعبر تلك الحدائق عن العلاقة التي أراد أن ينشئها «البايات» (حكام تونس آنذاك) بين القصور كإبداع معماري متميز وبين المناظر والمشاهد الطبيعية، التي غالبا ما كانت مكملة للصورة الجمالية».

هذا، وتعكس القصور التونسية والدور الكبرى المنتشرة في مختلف مناطق العاصمة والضواحي التطور الهائل الذي شهدته المهارات والأذواق في البناء والمعمار. وتشتمل قائمة القصور على قصر خير الدين وقصر الحكومة ودار حمودة باشا ودار القصبة ودار بن عاشور وقصر العبدلية وقصر النجمة الزهراء المعروف بقصر «البارون ديرلانجي»، ثم قصر السعادة بالمرسى وقصر باردو (مقر مجلس النواب ومتحف باردو حاليا) وقصر زورق وقصر الناصر باي في سيدي بوسعيد. وتتوزع هذه الديار والقصور بين وسط المدينة العتيقة بالعاصمة والضواحي الشمالية الواقعة على البحر. وكان كبار رجال الدولة يقومون برحلة الشتاء والصيف، فدور العاصمة وقصورها كانت للإقامة الشتوية، أما دور الضواحي وقصورها فللاصطياف وتمضية أشهر الصيف بعيدا عن حرارة مباني المدينة. وفي ما مضى كانت رائحة الفخامة والبذخ والرفاه تفوح بين الأروقة. فالأرضيات الرخامية والجدران المحملة بمختلف أنواع الزخرفة والتزويق، والحدائق الغناء والغرف الواسعة والأثاث الفاخر المستورد من وراء البحار.. كلها تشي بأن الماضي كان تليدا، وأن إمكانيات أعيان البلاد كانت أكثر من كافية لإنفاقها على تلك القصور التي احتاج بناء البعض منها لعشرات السنين. ولكنها مع كل هذا، أصبحت مهددة بالتآكل والسقوط. لذا قال لطفي بو زويتة، في دراسة حول إعادة تهيئة القصور «إن من شأن ذلك المحافظة على مجموعة من الكنوز الوطنية» وأن هذا العملية يمكن استثمارها على غرار ما وقع للعديد من الدور والقصور التي أصبحت فضاءات للثقافة والسياحة، مثل دار الجلد ودار البلهوان ودار حمودة باشا وقصر قبة النحاس. والواقع أن مكان السكن يعبر خير تعبير عن المكانة الاجتماعية لصاحبه، وهنا يفرق الدارسون بين الدار والقصر. وفي هذا الشأن يعرف محمد العزيز بن عاشور، وزير الثقافة التونسي السابق قائلا «القصر بالضرورة أوسع من الدار أو المنزل، فالحياة داخل المنزل أو الدار تدور حول الفناء، أما القصر فيتكون من مجموعة من المكونات. فإلى جانب المنزل الرئيسي نجد عدة بنايات تابعة للقصر كالإسطبلات لتربية الحيوانات، ومقبرة العائلة المعروفة بالتربة». وقد نجد ـ كما يقول بن عاشور ـ «منازل كبيرة وفخمة تعود للقصر الذي غالبا ما يمتد على مساحة كبيرة، ويهيمن على شارع بأكمله داخل المدينة وقد تكون فيه حدائق شاسعة إذا كان في الضواحي».

قصور فخمة، وأبهة سجلتها كتب التاريخ.. لكن العجلة تدور فلا تجد تلك القصور والدور من يقدم على ترميمها.

عشرات الآلاف من الدنانير التونسية تصبح ضرورية لمن يريد أن يركب مركب التاريخ، ويجلس في المكان الذي جلس فيه حاكم ذاك الزمان، وأعطى الأوامر.. سواء بأن يعم الرفاه السواد الأعظم من الناس أو بقطع الارتزاق، وربما الأعناق، لمن أراد أن يقف في وجه التيار.