تكريت.. مدينة صدام المدللة صارت «هامشية» وسكانها كـ«اليتامى» في غيابه

قاعة أعراس تتحول إلى قبر للرئيس الأسبق.. وتكريتيون لـ«الشرق الأوسط»: نحن في انتظار عودته

تلميذات مدرسة في تكريت يزرن قبر الرئيس السابق صدام حسين في العوجة (إ ب أ)
TT

شيء ما مفقود في هذه المدينة، إحساس بالضياع تقرأه في وجوه وعيون الأهالي، حتى يتساءل الزائر فيما إذا كان سكان المدينة يعيشون حالة انتظار أم حالة البحث عما ضاع منهم. هذه هي مدينة تكريت، وهكذا هم أهالي تكريت، الذين يلقبون عراقيا بـ(التكارتة)، المدينة والناس الذين ارتبط اسمهم بالرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، حيث مسقط رأسه في قرية العوجة، التي تحولت فيما بعد إلى بلدة حديثة وفاخرة ومترفة في بناء قصورها ورفاهية حياتها.

غير أن المدينة لا تبدو هي المدينة ذاتها، التي كنت قد زرتها مرة في منتصف الثمانينات، وأخرى عام 1993 مع صديق من تكريت. المدينة اليوم لا تدري إلى أين تذهب وماذا تفعل، فبعد أن كانت أشهر مدينة في العراق على الإطلاق، أصبحت اليوم هامشية رغما عنها، وبعد أن كان يوصف أهلها بالمدللين، يتصرف اليوم بعضهم وكأنهم «يتامى» بفقدانهم راعيهم ومدللهم، وهو ابنهم صدام حسين، الذي حول تكريت إداريا من قضاء إلى محافظة، ومنحها اسم القائد الكردي صلاح الدين الأيوبي. ومنح أهلها من دون العراقيين جميعا حق تملك الأراضي في بغداد، مستثنيهم بذلك من قرار حكومي يمنع التملك في العاصمة لمن لا يحمل سجل نفوس عام 1957 في بغداد، كما منحهم امتيازات وظيفية وسياسية وحياتية لم تمنح لأي عراقي آخر.

مع الأسف لم تأت زيارتنا لتكريت في الوقت المناسب، كما اخبرني صديقي(ب.سالم)، الذي كان يشغل منصب مدير عام في إحدى وزارات الدولة حتى عام 2003 عند سقوط النظام، مما دفع به إلى طلب التقاعد من الوظيفة والعودة إلى تكريت؛ ليعيش هناك بهدوء، على حد تعبيره.

كان خبر محاولة اغتيال محمد خورشيد، وكيل وزارة البيئة، وعضو المكتب السياسي لحركة الوفاق الوطني، التي يتزعمها إياد علاوي، الرئيس الأسبق للحكومة العراقية، لا يزال متداولا في المدينة، إذ نجا خورشيد من الموت بعد إصابته بعدة رصاصات في ذراعه اليمنى بعد أن شارك في حل نزاع حول توزيع المناصب الرئيسية في مجلس المحافظة.

وصلنا إلى تكريت بعد يومين من هذه الحادثة. لهذا السبب نصحني سالم وبشدة بعدم الإعلان عن زيارتنا أو الإفصاح عن هويتنا، واعتبر استخدام الكاميرا مغامرة لا تحمد عواقبها، كما أننا لم نستطع لقاء أي عضو من أعضاء مجلس المحافظة؛ لانشغالهم بنزاعات توزيع المناصب.

في المطعم الذي يقع على الطريق الرئيسية بين تكريت والموصل، وهو الطريق القادم من بغداد إلى محافظة نينوى، لا تجد إلا القليل من أهالي المدينة، وهم يشربون الشاي العراقي ويتبادلون الأحاديث باللهجة التكريتية الدارجة والتي ليس لسكان بقية المحافظات فهمها.

أوضح سالم قائلا، إن «من الخطأ الاعتقاد بأن جميع أهالي تكريت كانوا مدللين، بل كان البيجات (نسبة إلى بلدة بيجي)، وهم عشيرة صدام حسين، هم الأكثر دلالا وترفا، أما باقي التكارتة (سكان تكريت) فقد كانوا يعيشون حياتهم بصورة طبيعية، والبعض الآخر كان يعاني من الفقر»، مشيرا إلى أن «صدام حسين كان قد مارس قسوته وبشدة ضد بعض الأهالي، الذين لم يبدوا رضاهم عن تصرفات نظامه وأفراد حمايته ومرافقيه في المدينة».

قصر صدام الذي كان يوصف، مبالغة، في ترفه والواقع في العوجة، القرية التي كانت منسية قبل أن يتقلد صدام مناصبه القيادية في الحزب والدولة، تحول إلى قاعدة للقوات الأميركية بعد أن تم قصفه قبيل الغزو الأميركي للعراق.

نصحني صديقي، سالم، بأن أتصرف باعتباري زائرا اعتياديا للمدينة، وحاول إقناعي بالتراجع عن رغبتي في زيارة قبر صدام حسين، المفتوح لمحبي وأنصار الرئيس العراقي الأسبق.

قال سالم، إن «وكالات الأنباء أو الفضائيات عندما تأتي إلى هنا يصاحبها فريق من الحماية، وتكون قد استحصلت موافقة المحافظ ومجلس المحافظة والأجهزة الأمنية». ومع ذلك واصلنا طريقنا بواسطة سيارته التي يعود صناعتها إلى نهاية التسعينات حتى بلدة العوجة، حيث قبر صدام حسين، مستعينا بلهجته التكريتية، ولمعرفة الناس به لإفساح الطريق أمامنا.

دفن جثمان صدام حسين بعد إعدامه بساعات يوم 30 ديسمبر (كانون الأول) 2006، في صالة كانت مخصصة لإحياء المناسبات العائلية، مثل الأعراس والحفلات وحتى مجالس العزاء، بينما دفن جثمانا نجليه عدي وقصي في الحديقة التابعة للقاعة، وذلك بعد مقتلهما في معركة مع الجيش الأميركي في يوليو (تموز) 2003 في الموصل (شمال) إلى جانب شقيقه برزان التكريتي، وعواد البندر الذي كان رئيسا لمحكمة الثورة، ونائبه طه ياسين رمضان.

قبر صدام حسين، وبلا شك تحول إلى مزار، حيث يحتل قبره وسط بداية القاعة ومغطى بالأعلام العراقية ومحاط بباقات الورود، ويزوره طلبة المدارس والكبار والنساء في ذكرى ميلاده في الثامن والعشرين من أبريل (نيسان) من كل عام، وكذلك في ذكرى وفاته.

اذكر أن في هذه القاعة كان قد أقيم مجلس العزاء على روح خال صدام، خير الله طلفاح عام 1993، وقتذاك أعلن التلفزيون العراقي أن مجلس العزاء مفتوح أمام المواطنين، وكانت فرصة ذهبية بالنسبة لي ولغيري لمشاهدة بلدة العوجة المقفلة والمحرمة على العراقيين، بل وحتى على أهالي تكريت، إذ كانت ثمة قصور قليلة تعود لعائلة صدام حصرا تقع في هذه البلدة المترفة للغاية.

يوم ذاك كان صدام حسين يجلس فوق أريكة تتصدر القاعة ولا يقترب منه احد، بينما كان كل من وطبان وسبعاوي، أخويه غير الشقيقين، يرحبان بالمعزين إلى جانب ولديه عدي وقصي. خارج القاعة تعرف سالم إلى احد الأشخاص من أقاربه، سأله إن كان هذا المزار سيتغير في عمارته أو سيتم نقل جثمان «الرئيس الشهيد» كما يطلق عليه في تكريت، فأجاب قريبه «عندما يموت صدام حسين بالفعل سوف نبني له مزارا كبيرا وشامخا»، استغربت من هذه الإجابة، لكن صاحبي لم يبد عليه الاستغراب، واستطرد قريبه جازما بقوله، إن «صدام لم يمت، ولم تستطع القوات الأميركية القبض عليه، حتى لو جاءت قوات العالم كلها لم تتمكن من القبض على أبو عدي»، ويوضح أكثر بقوله، إن «الأميركان قبضوا على شبيه الرئيس وأعدموه، اسألوا كل أهالي العوجة وتكريت، ومن رأى شبيه صدام في المحكمة أو خلال تنفيذ الإعدام أو جثته بعد التنفيذ فيما إذا كان هذا الذي أعدموه هو صدام أم شبيهه، وستكون الإجابة بان المدفون هنا هو شبيه الرئيس القائد، وتكريما لتضحية هذا الشبيه دفناه هنا».

يؤكد سالم، أن «هذا الاعتقاد تحول في بعض بيوتات تكريت إلى إيمان راسخ بان صدام حسين لم يعدم وسيعود ليحرر العراق من الاميركان ومن الحكومة الحالية، وسيعيد سيطرة البعث على العراق»، مستطردا، بان «تكريت وغالبية من أهالي هذه المدينة شعروا بالضياع منذ أن أعلن القبض على صدام ومن ثم إعدامه، لكن هناك غالبية أخرى ترفض تصديق هذه الحقيقة ويلجأون إلى اعتقاد بان الرئيس لا يزال حيا، وهم بذلك يجدون العزاء لفقدانهم من ارتبطوا به، ومن هيأ لهم حياة سعيدة».

وفي مقهى شعبي في مركز تكريت، تحدث إلينا أستاذ جامعي من أهالي تكريت، كان قد درس في إحدى الجامعات الأميركية علم الكيمياء، حيث قال «على الناس هنا أن يعتبروا أن فترة صدام هي مرحلة انتهت من حياتهم، وان يبدأوا حياة جديدة، كما أن على العراقيين جميعا، سواء كانوا سياسيين مشاركين بالحكومة أم لا أن يغيروا هم الآخرون نظرتهم تجاه المدينة وأهلها ويمحوا من مصطلحاتهم بلدة صدام حسين كلما ورد اسم تكريت».