لبنان: حماوة الانتخابات تطال الملفات الاقتصادية.. وتحفز مصرفي لرد اتهامات باستغلال الدين العام

ارتفعت موجودات البنك المركزي من العملات الأجنبية إلى نحو 23 مليار دولار

المؤشرات الاقتصادية في لبنان تسير حتى الآن عكس تداعيات الأزمة العالمية. («الشرق الأوسط»)
TT

دخل لبنان واقتصاده حمأة الانتخابات النيابية من بابها الواسع، وسط تقلبات مفاجئة في أجواء الصراع السياسي بين «هبة باردة» و«هبة ساخنة» تنشران معاً «ضباباً» كثيفاً حول معالم المرحلة المقبلة. وإذ يبقى الشأن السياسي معلقاً على توجهات إقليمية ذات بعد دولي تطغى على استراتيجيات الأطراف المحلية، دخل الاقتصاد الوطني مرحلة «ترقب وانتظار» لما ستسفر عنه الانتخابات لجهة تحديد هوية الأكثرية الجديدة، وهيكلية ما بعد الانتخابات، والكيفية التي سيتم من خلالها التعاطي مع بعض الملفات الحساسة، لا سيما منها الملف المالي.

ولا يخفي مسؤولون في السلطة النقدية وفي القطاع المصرفي قلقهم من «اللهجة التصعيدية»، التي يعتمدها سياسيون فاعلون ومصادر قريبة منها في مقاربة ملفات لها علاقة بالمصارف، ومنها ملف الدين العام لجهة الإشارة الضمنية إلى تحميل القطاع المصرفي جزءاً من مسؤولية تفاقم الدين، على خلفية حمله للجزء الأكبر منه، وبالتالي الاستفادة من عوائده التي وصلت إلى معدلات مرتفعة في مراحل معينة.

ويقول مصرفي كبير لـ«الشرق الأوسط»، اعتذر عن عدم ذكر اسمه، : «نحن نرصد المواقف في هذا الجانب. ونتمنى أن يكون طابعها انتخابياً بحق، ومن باب الاتهامات المتبادلة بين الأطراف السياسية، التي يعلو سقفها في مثل هذه الاستحقاقات، ثم تهدأ بعد انجازها. أما في حال الإمعان في هذا التوجه في المرحلة المقبلة، وبغض النظر عن النتائج الانتخابية، فإننا نتخوف جدياً من حصول تداعيات مسيئة للجهود الآيلة إلى احتواء الدين العام وعكس دينامية نموه، قياساً إلى الناتج المحلي، الذي نما بنسبة زادت على 8 في المائة خلال العام الماضي، ويمكن أن ينمو بنسبة تزيد على 5 في المائة هذا العام، إذا تواصل الاستقرار السياسي والأمني، وذلك على الرغم من الأزمة المالية الدولية العاتية وتداعياتها».

وعبّر رئيس جمعية المصارف، د. فرانسوا باسيل صراحة، خلال مناسبة مصرفية، عن رفض أي اتهامات توجه للقطاع. وقال: «على الرغم من كل الجهود التي نبذلها بالتعاون مع البنك المركزي، إلا أننا نسمع بين الفترة والأخرى، أصواتاً نشازاً يتحامل بعضها على المصارف من دون أي وجه حق، ويدعو بعضها الآخر إلى عدم سداد الضرائب وما إليها من دعوات تؤذي مجاناً الوضع العام في البلاد».

ويضيف رداً على ذلك: «إن البلد للجميع، بغض النظر عن هذه التيارات السياسية أو تلك. والليرة هي النقد الوطني وإحدى سمات السيادة. وفي استقرارها مصلحة لبنانية عامة ومشتركة. والمصارف هي لجميع اللبنانيين. ونحن حريصون على مدخرات الناس بمقدار حرصنا على الاستمرار في توفير الحاجات التمويلية للقطاعات والأنشطة. ولن تقيدنا المواقف السلبية عن الاستمرار في تمويل الاقتصاد وفي تطوير المؤسسات».

وفي واقع الأمر، فإن الدين العام البالغ نحو 48 مليار دولار، وفق الإحصاءات الرسمية، يشكل مركز الثقل في ضعف الاقتصاد اللبناني والدافع الأهم للتصنيف السيادي المتدني، إلى جانب ثقل المخاطر السياسية المؤثرة. وتوازي كتلة الدين نحو 163 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، البالغ نحو 28.8 مليار دولار. وهي من أعلى النسب السلبية في العالم. لكنها تسير في اتجاه ايجابي، إذ كانت تماثل نحو 178 في المائة عام 2006، ونحو 171 في المائة عام 2007. ويؤمل أن تكسر عتبة 150 في المائة نزولاً خلال عامين، في حال تنفيذ بعض الإصلاحات المالية الضرورية ومتابعة تحصيل التزامات ووعود مؤتمر «باريس ـ 3» من قبل دول ومؤسسات عربية وأجنبية. وهذا ما يستلزم توافقاً في التوجهات السياسية الداخلية تنعكس انسجاماً حكومياً خلال الفترة المقبلة.

وتحمل المصارف اللبنانية ما نسبته 6 في المائة من الدين العام المحرر بالليرة اللبنانية. فيما يحمل البنك المركزي نحو 25 في المائة والقطاع غير المصرفي نحو 15 في المائة. أما الدين المحرر بالعملات الأجنبية، وهو نصف الدين العام تقريباً، فمعظمه سندات «يوروبوندز» توازي نحو 85 في المائة من الإجمالي، تحمل المصارف نحو 80 في المائة منها، فيما تتألف الأجزاء الأخرى من تمويلات حكومية خارجية وقروض «باريس ـ 3» وتمويل من مؤسسات تنمية خارجية.

في المقابل يحوز القطاع المصرفي موجودات إجمالية (أصول) تناهز 100 مليار دولار، أي ما يوازي نحو 3.5 أضعاف الناتج المحلي. وهو من أعلى النسب العالمية أيضاً، لكن من الجانب الايجابي لا السلبي. ومع توظيف القطاع لنحو 25 مليار دولار من إمكاناته لمصلحة تسليف القطاع العام وأقل قليلاً لمصلحة القطاع الخاص، تبقى لديه فوائض سائلة تناهز 20 مليار دولار جاهزة للتوظيف، حيث إن إجمالي الودائع يزيد على 82 مليار دولار، مع الأخذ بالاعتبار معايير السيولة والاحتياطات الإلزامية ومستواها.

وعلى خط مواز، ارتفعت موجودات البنك المركزي من العملات الأجنبية إلى نحو 23 مليار دولار. وهو رقم قياسي غير مسبوق يوازي نحو 80 في المائة من الناتج المحلي، ويتخطاه في حال احتساب احتياط الذهب الذي تصل قيمته إلى 8.5 مليار دولار حالياً.

ويرفع المصرفيون صوتهم عالياً في الرد على اتهامات باستغلال تمويل الدولة لتحقيق أرباح مرتفعة. فالقطاع موّل الدولة في أصعب الظروف وتحمل عبء تصنيفها المتدني على رغم التنبيهات المتكررة من صندوق النقد الدولي ووكالات التصنيف. وكانت الفوائد، باستمرار، تتناسب طرداً مع معدلات الفوائد العالمية، باستثناء مراحل محددة، تسبب فيها السياسيون وخلافاتهم باحتدام الصراع وارتفاع درجة المخاطر ما زاد في الاكلاف، كما زاد الضغط على الأسواق المالية والنقدية. والمصارف، بطبيعتها، ليست مؤسسة خيرية مانحة بل هي تدير أموال ومدخرات الناس ولا تستطيع أن تخاطر بها.

ويؤكد مصرفيون، أن الدولة وصلت أحياناً إلى حالة عدم القدرة على الدفع. ولدى حاكم البنك المركزي رياض سلامة، حقائق ومعطيات مهمة في هذا الشأن أبلغها في حينه إلى المعنيين، محذراً من تداعيات تصيب الاقتصاد بأفدح الأضرار. وتتسبب في انهيارات غير محسوبة على المستويين الاجتماعي والمعيشي.

ويقارن المصرفيون بين أرباح القطاع في السنوات الماضية والأرباح المماثلة، التي تحققها القطاعات المصرفية العربية، حيث يتبين أن المصارف اللبنانية تحقق أرباحا أقل من عادية قياساً بما تحققه المصارف في الخارج.

وفي كلام صريح لوجوب تغليب التوجهات الايجابية، يقول رئيس اتحاد المصرفيين العرب، والمرشح التوافقي لرئاسة جمعية المصارف بعد أقل من شهر، د. جوزيف طربيه: «نشهد حالياً المزيد من المؤشرات الواعدة التي تحفز، في حال استمرارها، النمو فوق المعدلات المرتقبة. ومع التركيز على أهمية انجاز الاستحقاق الانتخابي والتعامل مع نتائجه وفق الأصول الديمقراطية، التي يتقنها اللبنانيون إن اجتمعت إرادتهم، يبقى موضوع الدين العام في لبنان نقطة الثقل الأساسية في الأزمة المالية، التي تعاني منها موازنة الدولة. وهو أيضاً احد المعوقات الأساسية التي تكبح النمو وتؤثر سلباً عل مخططات الحكومة لمعالجة أزمة الاقتصاد وتكبير حجمه».

ويضيف، أن «المؤشرات الاقتصادية في لبنان تسير حتى الآن عكس تداعيات الأزمة العالمية. والأرقام تدل على ذلك، سواء أكان ذلك يتعلق بفائض ميزان المدفوعات، والتراكم القياسي في احتياطي العملات الأجنبية لدى البنك المركزي، على الرغم من أزمة السيولة العالمية، وكذلك ارتفاع موجودات المصارف، وتحسن أرقام الصادرات اللبنانية، وازدياد حركة السياحة، وغيرها من المؤشرات الايجابية. لكن هذه الايجابيات لا تشكل وحدها ضماناً لمستقبل واعد للبنان في ظل استمرار مشاكله الأساسية، التي تتمثل بالتجاذبات السياسية ذات الانعكاسات الأمنية، والدين العام المستمر بالارتفاع عاماً بعد عام، ما يستدعي من الدولة وكافة أصحاب القرار وفعاليات مجتمعنا الحي إرساء رؤية وبرنامج متكامل؛ بغية تحصين الوضع المالي والنقدي في وجه استمرار ظروف اقتصادية داخلية وخارجية صعبة».