نصيحة العريف رحيم للنجار بندوري

سـعود الأحمد

TT

مع تحرك سوق الأسهم السعودية للصعود في هذه الأيام وتوالي قفزاته، عاد البعض يطلب النصيحة: هل يدخل السوق أم يتريث؟ وماذا يشتري وماذا يبيع؟. وعادت هذه الأيام النصائح تُهدى وتشترى.

والنصيحة أمر مطلوب، لكن الإلحاح فيها والتأكيد على نجاحها مسألة في علم الغيب، خصوصا إذا كانت النصيحة في أمور دنيوية. وما أكثر ما يحرج البعض من نصائحهم، إذا هبت الرياح بما لا تشتهي السفن. وما زالت آثار خسائر السنوات الثلاث في سوق الأسهم السعودي لم تبرأ. وهناك من تضرر من نصائح بشراء ليرات لبنانية ودنانير عراقية، لما سببته هذه النصائح من خسائر فادحة لمن عمل بها إلى اليوم!.

وتحضرني قصة طريفة لنجار بإحدى قرى البصرة العراقية أثناء الحرب العراقية الإيرانية، يدعى بندوري (تصغيرا لبندر)، بندوري هذا ليس له نشاط عسكري أو حزبي، كل اهتمامه منصب في إصلاح الأبواب والدواليب والشبابيك وما له صلة بالنجارة، ولبندوري أسرة مكونة من والدته وزوجته وبنتين وولد، وكل يوم يضع عدته على عربته (ذات الثلاث عجلات) ويسعى لكسب رزقه. وكان لبندوري جار يعمل عريفا بإدارة المطافي، يدعى رحيم (تصغيرا لعبد الرحيم)، وكان رحيم يذهب بين الحين والآخر ليشارك على جبهة القتال لمدة أسبوعين أو شهر، ويعود ومعه وسام وصورة مكبرة مع المهيب الركن صدام حسين. العريف رحيم كلما قابل جاره (النجار بندوري) قال له: «ورحمة أمك يا بندوري عندي إلك خوش نصيحة، أنت بس تروح وإياي مشاركة وتعود وإياك بوسام بطولة، وهاي الحرب ولا بد وتخلص (غير) لو يوم لو شهر لو سنة، وبعدين لا أكو أوسمة ولا أكو نياشين ولا بطولات. يا عيني: يا بندوري صدقني أحنا نقعد هناك عالخط الثالث لا شغله ولا عمله... أحسن أكل وأحلى نوم.. وترجع رافع رأسك». كل هذا وبندوري معرض عنه ومنشغل بأكل عيشه، لأن القانون لا يجبر وحيد أسرته على المشاركة في الحرب.

زوجة بندوري هي الأخرى كانت تعاني من أوسمة العريف رحيم، وإلحاح وهمز ولمز زوجة العريف رحيم، كلما زارتها وجدت على كل جدار صورة مكبرة للعريف رحيم وعلى صدره نيشانا أو وساما جديدا وإلى جانبه صدام حسين. ولم يكن النجار بندوري ليضعُف لولا تدخل الزوجة التي بدأت هي الأخرى تدفعه للمشاركة والعودة بوسام الشجاعة والبطولة، لكي تُعلقه بالمجلس. وذات يوم اثنين اقتنع بندوري، وسجل اسمه للمشاركة، وفي يوم الجمعة سافر إلى البصرة، وكان حظه (التعيس) أن يذهب إلى محافظة الفاو، ورغم أنه كان من المفترض أن يبقى بالخط الثالث، إلا أن الجيش احتاج إلى نجارين في يوم وصوله، للعمل لبناء ثكنات عسكرية عاجلة ومؤقتة بالخط الثاني لإحلالها مكان سكن الخط الأول، وكان بندوري ممن وقع عليهم الاختيار للقيام بهذه المهمة. وفي يوم السبت تراجع رجال الخط الأول للخط الثاني ووجد بندوري نفسه في ساحة القتال وجهاً لوجه، ودار رحى المعركة وأخذ بندوري أسيراً لينقل يوم الاثنين إلى مدينة قم ضمن الأسرى، وكان من بين من ظهروا على شاشة تلفاز الجمهورية الإسلامية من طهران (كما كانت تسمي آنذاك) ليسلم على أهله وذويه. يقول الأسير بندوري (في سلامه)، أنا فلان الفلاني من محافظة كذا، أسلم على أمي وزوجتي وولدي وبنتي وكل الأقارب، واقلهم أنا بخير وبصحة جيدة ومو محتاج أي شيء... وأشكر حكومة الجمهورية الإسلامية وأدعو إلى عدم المشاركة مع حزب البعث ضد حكومة رمز المسلمين (ومن المديح لها والنقد للحكومة العراقية)... وقبل أن يختم سلامه ويترك المايكروفون (يستعيد أنفاسه ويجذب المايكروفون بزفرة طويلة ليقول): وأريد أسلم على العريف رحيم وأقله (هسع بردت دوتك يا أخو (...). وهذه بعض النصائح وما تسببه، ويمكننا أن نتخيل موقف العريف رحيم كل يوم وهو يشاهد زوجة وأبناء بندوري وهم يلومونه ويحملونه مسؤولية ما جرى لوالدهم.

*كاتب ومحلل مالي [email protected]