الأزمة الاقتصادية تكشف الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي

أظهرت اختلافات عميقة بين أعضائها حول سبل التصدي لها وعززت الحمائية القطرية

مقر البنك المركزي الأوروبي في مدينة فرانكفورت الألمانية («الشرق الأوسط»)
TT

من المؤكد أن الاتحاد الأوروبي يشكل تجربة فريدة من نوعها على صعيد التشارك في السيادة وخلق منطقة تنعم بالسلام تمتد حاليا من بريطانيا إلى إقليم البلقان. ويعد الاتحاد المؤلف من 27 دولة أبرز تكتل اقتصادي على مستوى العالم، حيث يضم بين جنباته 491 مليون نسمة داخل سوق موحدة يزيد إنتاجها عن نظيرتها الأميركية بمقدار الثلث تقريبا. إلا أن الأزمة الاقتصادية العالمية أثبتت أن أوروبا تبقى أقل من مجموع أجزائها. وقد شكلت هذه الأزمة التحدي الأكبر أمام الاتحاد الأوروبي. والملاحظ أنه حتى بعض أكثر العناصر تأييدا لفكرة الاندماج الأوروبي باتت على قناعة الآن بأن الاتحاد أخفق في الاختبار. والملاحظ وجود اختلاف حاد بين الزعماء الأوروبيين، الذين يولي كل منهم اهتمامه الرئيسي للصعيد السياسي الداخلي، حول الإجراءات الواجب اتخاذها للتصدي للتردي الاقتصادي الراهن. ويختلف هؤلاء القادة حول ما إذا كان ينبغي أن يبدي المصرف المركزي الأوروبي قلقا أكبر حيال حالة الركود العميقة القائمة أو إمكانية حدوث تضخم في المستقبل. وقد هرعت هذه القيادات لحماية الوظائف داخل أسواقها الداخلية على حساب أبناء الدول الأخرى الأعضاء في الاتحاد. وتجلت هذه المسألة بقوة خلال الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة التي جرت يوم الأحد. وتشير الإحصاءات إلى أن 43% فقط من الأوروبيين أدلوا بأصواتهم في الانتخابات، وذلك في مستوى قياسي من حيث ضآلته، على الرغم من الأزمة المالية وفرض بعض الدول نظام تصويت إجباري. وأثمرت الانتخابات مكاسب لصالح الأحزاب اليمينية المتطرفة، المناوئة للاتحاد الأوروبي والمهاجرين الوافدين من الدول الأعضاء الفقيرة، وكذلك الأحزاب المعنية بالبيئة. والواضح أن الأوروبيين الذين أدلوا بأصواتهم وجهوا اهتمامهم الرئيسي نحو القضايا الوطنية. ولا شك أن أوروبا اكتسبت أهمية أكبر في ضوء انحسار القيادة الأميركية بسبب الحروب الخارجية المثيرة للانقسامات وتعرض نموذجها الاقتصادي القائم على حرية السوق والحد من التنظيمات لتحدٍ صارخ. في الوقت الحاضر، تعلو أصوات الإشادة داخل بعض الدوائر بـ«النموذج الأوروبي» القائم على مشاركة حكومية كبيرة في الاقتصاد، وفرض رقابة وثيقة على الصعيد المالي والقضايا المرتبطة بالصناعة والعمالة، علاوة على توافر نظام معاشات ورعاية صحية سخي. وبات يجري النظر إلى هذا النموذج باعتباره بديلا قويا للرأسمالية على الأنغلو ـ أميركي. إلا أنه على الرغم من أن أزمة الرهون العقارية مرتفعة المخاطر بدأت في الولايات المتحدة، فإن من المعتقد أن أوروبا تتعرض لمعاناة أكبر. على سبيل المثال، تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن المصارف الأوروبية تملك أصولا سيئة أكثر من نظيراتها الأميركية وأنها خفضتها بمعدل أقل. في الوقت ذاته، تتفاقم العجوزات في الميزانية، وكذلك معدلات البطالة، خاصة بين الشباب، والتي توجد الآن بالفعل عند أعلى مستوى لها منذ 10 سنوات.

وبالنظر إلى الاستجابة الصادرة عن الاتحاد الأوروبي الممزق، يتوقع كثيرون من الخبراء الاقتصاديين حاليا أن تستمر حالة التراجع الاقتصادي لفترة أطول داخل أوروبا عنها داخل الولايات المتحدة. من جهته، قال يوشكا فيشر، السياسي العضو بأحد الأحزاب المعنية بالبيئة ووزير الخارجية الألماني السابق: «نمر بلحظة تشهد أزمة بالغة الحدة. ونعاني من نقص حاد في القيادة. إننا محصورون في قلب طوفان». دائما ما تركز التوتر الرئيسي داخل الاتحاد الأوروبي بين الأولويات الوطنية والمصالح الجماعية. ولم يكن من السهل قط التنازل عن حقوق وسلطات وطنية، فيما يخص العملة والتجارة والرسوم الجمركية، حتى في أوقات الرخاء. أما خلال الفترات العصيبة مثل الانحسار الاقتصادي الراهن، تتفوق الاعتبارات السياسية الوطنية على المصالح المشتركة، حيث تتحرك القيادات لحماية صناعاتها الوطنية وعمالها وصناعاتها وناخبيها على حساب أي أفراد آخرين. ولا يزال الغضب يعتمل في نفوس العمال حيال التضحيات التي يشعرون أنهم يقدمونها من أجل الاندماج الأوروبي. داخل مصنع «غوديير دنلوب» لإطارات السيارات في مدينة أميان بشمال فرنسا، يقف تيري فاغوت، 36 عاما، على وشك فقدان وظيفته التي تقلدها لمدة 13 عاما. ويرى فاغوت أن جزءا من السبب وراء مشكلته يكمن في المنافسة المحتدمة داخل الاتحاد الأوروبي. وقال: «أشعر أنني تعرضت للخداع. أعني أننا خلقنا أوروبا كي تحمينا، ونجح هذا الأمر بالفعل لفترة طويلة»، مشيرا إلى أن الاتحاد الأوروبي وفر سوقا أمام الإطارات التي ينتجها مصنعه وأقر معايير السلامة. وأضاف: «الآن، مع دخول دول أوروبا الشرقية إلى مضمار المنافسة، أشعر أن أوروبا خلقت هذا الموقف الذي نخسر فيه وظائفنا لصالح دولة أخرى بالاتحاد الأوروبي. كيف يمكن أن يخدم ذلك الصالح العام؟». وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي ليس على وشك الانهيار في خضم هذه العداءات، فإن بعض أقوى أنصاره على مستوى القارة عمدوا إلى تقليص طموحاتهم. ولم يعد كثيرون يتحدثون عن أوروبا كثقل سياسي أو عسكري مهم مكافئ للولايات المتحدة.

على سبيل المثال، أعرب فيشر، عضو حزب الخضر، وهو أحد الأنصار المخلصين لفكرة الاتحاد الأوروبي، عن حسرته حيال لا مبالاة «أجيال ما بعد عام 1989» إزاء القيم والمثل المرتبطة بفكرة المصير الأوروبي المشترك، وتقهقرهم، تحت وطأة ضغوط الأزمة، إلى الأهداف والخطابات الوطنية». وأكد فيشر على أن: «دائما ما تشكل الأزمات لحظات صدق، لأنها تفضح بقوة نقاط قوة وضعف جميع الأطراف المعنية». وانتقد فيشر بصورة خاصة الرؤية الوطنية الضيقة التي تنتهجها الحكومة الألمانية. وأضاف أن المصرف المركزي الأوروبي، الذي يقر معدلات الاقتراض داخل الدول الـ16 التي تستخدم اليورو كعملة موحدة لها، أبلى بلاء حسنا. لكنه استطرد بأنه، في المقابل، لم تضطلع المفوضية الأوروبية، الكيان التنفيذي الرئيسي داخل الاتحاد، بـ«أدنى دور في الأزمة الراهنة، وهي أزمة دولية، ما يعني أن دور المفوضية كان من المفترض أن يكون على النقيض تماما». بدلا من ذلك، يركز الزعماء الأوروبيون جهودهم على تمرير «معاهدة لشبونة» التي تعطلت كثيرا والرامية لاستحداث منصب رئيس للاتحاد الأوروبي ووزير خارجية، إضافة إلى تبسيط عملية صنع القرار. لكن هذه المعاهدة لا تتضمن سوى القليل من البنود المعنية بالأوضاع الاقتصادية. وتتجلى التوترات القائمة حاليا في الأسلوب الذي عملت دول الاتحاد من خلاله على إنقاذ مصارفها ومصانعها الوطنية التابعة لشركات عالمية لإنتاج السيارات، في الوقت الذي بدت مسألة إقرار سياسة أوروبية أوسع أكثر منطقية. كما تتضح هذه التوترات في عجز الدول الأعضاء عن الاتفاق على سياسة موحدة نحو أفغانستان أو إقرار سياسة مشتركة للطاقة بهدف تقليص الاعتماد الأوروبي على الغاز الطبيعي الروسي. من المعروف أن ألمانيا وفرنسا تمثلان معا القاطرة التقليدية للاتحاد الأوروبي، لكن العلاقات بينهما يغلب عليها الفتور، في ضوء إعطاء الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، والمستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، المصالح الوطنية أولوية أولى، سواء فيما يتعلق بقضية الإعانات الاجتماعية أو إنقاذ الوظائف في صناعة السيارات المتداعية. وتبدو توترات واضحة أيضا بين شمال وجنوب أوروبا، مع تعهد الدول التي تبدي شعورا قويا بالمسؤولية في سياساتها المالية، مثل ألمانيا، على مضض بمساعدة الاقتصاديات المنهارة مثل اقتصاديات إسبانيا واليونان. ومن الواضح أن التضامن، أحد المبادئ العظيمة التي من المفترض أن يقوم عليها الاتحاد الأوروبي، يتداعى أيضا بين الشطرين الشرقي والغربي في الاتحاد، حيث تبدي الدول التي تستخدم اليورو ترددها إزاء تعريض استقرار العملة للخطر عبر الإقدام على إنقاذ الدول الأعضاء الواقعة خارج إطار ما يطلق عليه «منطقة اليورو»، مثل بلغاريا ورومانيا. ولا يرغب معظمهم في دراسة ما يدور في أوكرانيا، وهي دولة غير عضو بالاتحاد الأوروبي، توجه إليها كثير من المصارف الأوروبية، خاصة الألمانية والنمساوية، استثمارات ضخمة.

إضافة إلى ذلك، تقوضت الوعود ببناء أوروبا «بلا حدود» جراء ردود الأفعال خلال الفترات الاقتصادية العصيبة إزاء المهاجرين من مختلف أرجاء المنطقة، والذين يجري النظر إليهم باعتبارهم ينافسون أبناء البلاد على الوظائف. قبل الانتخابات البرلمانية الأوروبية، أصدر ساركوزي وميركل خطابا مشتركا، أكدا فيه: «أننا نرغب في بناء أوروبا قوية توفر لنا الحماية، ونرفض تشكيل أوروبا بيروقراطية تعمد إلى تطبيق القواعد التافهة على نحو آلي». إلا أن ساركوزي وميركل يختلفان بشدة حول دور الإنفاق العام والمصرف المركزي الأوروبي. من جانبه، يفضل ساركوزي توفير مزيد من الزخم ومنح المصرف المركزي المرونة اللازمة لشراء سندات أو قروض تخص القطاع العام لمساعدة تنشيط عمليات الإقراض. على النقيض، هاجمت ميركل العجوزات المتفاقمة في الميزانية وانتقدت المصرف المركزي لخفضه معدلات الفائدة بصورة بالغة وخوض مخاطرة التعرض لتضخم في المستقبل. لكنهما يتفقان على ضرورة حماية الوظائف داخل أسواقهما المحلية. في الوقت الذي تعرض ساركوزي لانتقادات لتقديمه المليارات لحماية شركات السيارات الفرنسية، توصلت ميركل، مع اقتراب موعد إجراء انتخابات وطنية في سبتمبر (أيلول)، لتوها إلى اتفاق باهظ التكلفة لصالح «أوبل»، الفرع الأوروبي من شركة «جنرال موتورز»، ينصب كامل تركيزه تقريبا على إنقاذ الوظائف الألمانية. من جهته، قال الرئيس الفرنسي الأسبق، فاليري جيسكارد دستان، إنه نظرا لرفض الفرنسيين لدستور أوروبي ساعد في وضع مسودته عام 2005، تغلب الزعماء الوطنيون على الأصوات الداعية لاتحاد أوروبي أقوى. وفي إطار لقاء أجري معه، قال دستان: «إن هذا تقهقر للخلف. في أوقات الأزمات قصيرة الأمد، ربما نشهد تدخلا وطنيا لحماية الأفراد، لكن ذلك ليس سياسة، وإنما مجرد رد فعل»، مشيرا إلى أن ذلك يعرض السوق المشتركة للخطر. وأضاف: «يجب أن يقوم التوجه المتبع على النظر إلى السوق الأوروبية ككل». يذكر أنه في كالاي، بفرنسا، يقوم مصنع «شايفلر تشين درايف سستمز»، الذي يملكه ألمان، بتصنيع قطع غيار لصالح «أوبل». ومنذ شهر، تعرض ثلث العمال للتسريح، بينهم داني فالك، 53 عاما. كان فالك يعمل رئيسا للعمال، لكنه الآن يتمتع: «بوقت فراغ طيلة اليوم»، حسب تعبيره. وأعرب عن تشككه في أن ينجح في العثور على وظيفة بمصنع آخر. وقال: «الاتحاد الأوروبي فكرة جيدة، فهو يسمح لدولنا بأن تتمتع بصوت أقوى عالميا، وحقق الاتحاد السلام. لكن اقتصاديا، لم يكن الاتحاد فكرة جيدة، حيث فقد كثيرون وظائفهم لصالح الدول الأوروبية التي تتسم برخص الأيدي العاملة بها. إنهم جزء من أوروبا، لكن إذا كنت ترغب في أوروبا موحدة، لا يمكنك الإبقاء على هذين النظامين المتعارضين». واستطرد موضحا أن الاتحاد الأوروبي: «لم يبذل جهودا كافية لمساعدة أبنائه على اجتياز الأزمة. وربما لا يملك حتى القدرة على القيام بذلك». ثم تساءل فالك: «في بعض الأحيان أتساءل ما الهدف منه، إذا لم يكن هذا هو الهدف؟ أرى أن استجابة الحكومة الأميركية أكثر ملاءمة بكثير». في رومانيا، على الجانب الآخر من الاتحاد، يعاني العمال أيضا. لكنهم يشعرون ببعض السلوى لكونهم جزءا من كتلة أكبر وأكثر ثراء عن الكتلة السوفياتية التي سبق وأن انتموا إليها. وبصورة عامة، يلقون باللوم على عاتق القادة المحليين. عام 2001، سافرت كريستينا لينكو، 32 عاما، إلى إسبانيا للحصول على وظيفة. الآن، عادت إلى الوطن، برفقة زوجها ورضيعها، حيث تضرر محل البقالة الصغير الذي كانا يمتلكانه في مدريد بشدة جراء الأزمة الاقتصادية. لكن في الوقت ذاته، تسببت الأزمة في تراجع أسعار العقارات في رومانيا. وعليه، عادا للوطن وقاما بشراء قطعة أرض لبناء منزل عليها. وبصورة ما، استفادت لينكو من الأزمة، حسب قولها، لكنها تشعر بالقلق إزاء أقرانها الرومانيين داخل إسبانيا. وأوضحت أن: «الغالبية العظمى من العمال المهاجرين تضطلع بوظائف منخفضة الأجر أو وظائف غير مرموقة. لكن حاليا حتى الإسبان أصبحوا راغبين في هذه الوظائف». وتتباين الآراء حول المستقبل، لكن يتوقع القليلون فقط انهيار التجربة الأوروبية. ومن المتوقع تمرير «معاهدة لشبونة» في نهاية الأمر، بما يعزز سلطات الاتحاد. إلا أن زعماء اليوم المنقسمين على أنفسهم ربما يتعلمون كيفية التعامل مع التحديات الاقتصادية على نحو جماعي، مثلما تعلموا تجنب الصراعات العسكرية. من ناحيته، قال فيشر: «سيكون الأمر عسيرا، وسنعاني انتكاسات، وسيقسو علينا التاريخ، ونمر بسنوات مؤلمة، لكن أعتقد أن الشدائد تخلق القادة الحقيقيين. أنا لست متشائما».

* خدمة «نيويورك تايمز»