12 تشكيليا إيرانيا في «بنادق وورد» بلندن

بمناسبة حلول الذكرى الثلاثين للثورة

«بلا عنوان 2007» زيت وصبغ معدني على قماش قنب للفنان أفيش بيرهاشمي
TT

يستثير هذا المعرض الذي نظمه غاليري «إيلفن هاولاند» وسط لندن الكثير من التساؤلات عما حققته الحركة التشكيلية الإيرانية خلال العقدين الأخيرين، خصوصا مع سيادة التيار المتشدد داخل فئة رجال الدين الحاكمة.

لكن المفاجأة الحقيقية التي ستواجه الزائر هي التنوع الواسع في التعبير، مع سيادة روح تعبيرية قادرة على إثارة التساؤلات، مرحة أحيانا وجادة أحيانا أخرى، إضافة إلى الميل إلى التجريب واستخدام وسائط فنية مختلفة تمتد من التصوير إلى الحياكة إلى الكولاج إلى الرسم والخط والطباعة.

المفاجأة الأخرى هي أنه من بين الفنانين الاثني عشر هناك واحد منهم فقط يعيش في الخارج، وهو الفنان غاس روزخوش المقيم في باريس. وهو يعد من المتقدمين في السن ضمن المجموعة المشاركة، على الرغم من أنه لا يتجاوز السادسة والأربعين، لكن مواليد منتصف الستينات من القرن الماضي مستهم نار الحرب العراقية الإيرانية، فهو سيق إليها مثل حال الكثير من الفنانين في البلدين. وكان لتجربة الحرب الفظيعة تأثير كبير عليه، وتأثير على تطوره الفني، إذ جعلته ـ كما يقول ـ حريصا على منح «صوت لأولئك الذين لا يستطيعون التكلم، لأن المعاناة تنتمي إلى كل شخص». وفي لوحتيه اللتين شارك بهما هناك ثلاثة ألوان صافية فقط: الأسود والأحمر والأبيض، لكننا نستطيع تلمس ذلك الجرح بطريقة بارعة. ففي لوحته «سكِينة 2» Tranquillity يستخدم وسائط مختلفة، حيث يسكن مستطيل مائل أسود اللون داخل طبقة كثيفة من اللون الأحمر الذي يبدو كأنه دم جامد، وبالمقابل انتشرت بقع بيضاء وسوداء وحمراء على حدود المستطيلين، خالقة كسرا لحدودها ومثيرة قدرا من الاضطراب في نفس المتلقي. هذه المعادلة ما بين الفكرة والمتطلبات الجمالية مدهشة هنا، خصوصا مع صغر مساحة اللوحة، لكن توزيع المستطيلين اللذين يذكّران بمستطيلات الفنان الهولندي موندريان مع الكسر الحاد للتركيب الهندسي عبر البقع المبثوثة فوق سطح اللوحة يعكس حالتين متعارضتين: السكون والاضطراب في آن واحد.

لكن هذه الجدية المفرطة يكسرها جيل الفنانين الذين ولدوا في ما بعد عام 1970. ففي أعمال الفنان بويا أريانبور نتلمس تجريبية عالية في ابتكار ما يمكن تسميته بفن فكرة الخط، وفي عمله «بلا عنوان» الذي يستخدم فيه مادة الأكريليك على قماش القنب، تندلع حروف وكلمات بشكل تجريدي، ككتلة مشعثة بيضاء، بينما تولد الانحناءات المعتمة بجانبها عمقا للوحة، وكلما تبتعد الظلال تتعمق العتمة حتى تنتهي بخلفية سوداء تماما. هذا التعارض بين اللونين الأبيض والأسود والتدرج بينهما منح تلك الكتلة المشعثة من الحروف العربية حركة جعلها تبدو وكأنها تتقدم صوب المشاهد. وفي لوحات أخرى يعالج أريانبور بدرجات مختلفة من النجاح فكرة الخط المجرد، لكن الأعمال بعضها مع بعض تشكل وحدة في تجريب القدرات الخفية في الحروف على التمدد والحركة. لعل هذه المعالجة الجمالية الخالية من تأثير ما جلبته ثورة عام 1979 من زعزعة للمجتمع، وما خلفته الحرب العراقية الإيرانية من كوارث قليلة في نفس هذا الفنان، تعود إلى صغر سنه، فهو من مواليد 1971، ومع انتهاء الحرب لم يكن قد وصل إلى سن الثامنة عشرة.

في المعرض هناك مساهمة نسائية متواضعة لفنانتين، هما: سميرة علي خازنده وغولناز فتحي. مع الأولى ندخل في لعبة التجريب واستخدام مواد مختلفة من كولاج ورسم وفوتوغراف، لكن الفكرة التي تنقلها سميرة إلينا تمتاز بطبقات من التأويل وتبتعد عن المباشرة. ففي لوحتها «بلا عنوان ـ كولاج ومرآة وفوتوغراف» تستخدم صورا قديمة لأشخاص من زمن بعيد، هم على الأكثر ينتمون إلى ما قبل الثورة الإيرانية، وهذا يتضح من خلال ملابسهم. لكن الفنانة سميرة علي خازنده جعلتهم يبدون وكأنهم غارقون في ضباب، مما جعلهم بملامح باهتة عسيرة على التمييز، وبالمقابل أدخلت رسوما لنباتات وشجيرات كخلفية لهم، مع تلوينهم بألوان هلامية الملامح. بالمقابل هناك امرأة تجلس أمامهم ضمن وسط أكثر اتضاحا وكأنها من هذا الزمن، بينما يتوسط الصورة خط من المرايا الصغيرة الدائرية، التي تمكننا من رؤية أنفسنا فيها أكثر من رؤية الآخرين. هل هو استبطان للزمن العابر الذي يمر بحياة الإنسان؟ هل تلك الزاوية المنسية من الزمن التي جمعت كل تلك الشخصيات الهلامية هي نفسها التي تنتظرنا أيضا؟ أم أن الصورة تحاول إمساك ذلك الشعور العميق الذي قد تتقاسمه الفنانة مع عدد كبير من الإيرانيين: الحنين إلى ماض أصبح موشكا على الاختفاء حتى من الذاكرة، وكل ما يمكن فعله هو الإشارة إليه مثلما تفعل هذه اللوحة؟ أما غولناز فتحي فقدمت عملين في المعرض، وفي كليهما رسمت كتلتين باللونين الأسود والأحمر على خلفية بيضاء، وما يكسر سكونية اللوحة هو تشظي الكلمات المنتشرة ضمن السطح الأبيض. وبذلك تكون فتحي حريصة على استخدام الحرف، لكن يبدو وكأن الخط لم يتمكن من التكامل مع أجزاء اللوحة، فهو أقرب إلى نثار يخلو من وظيفة واضحة. هناك فنان آخر من مواليد 1979، أي في سنة اندلاع الثورة وبروز الحكم الثيوقراطي في إيران، وهو شهريار أحمدي. وفي أعماله المرسومة عام 2008 نتلمس تلك الفجوات التي تقترب من أن تكون ورودا أو ربما منافذ مزهرة وسط سطح صقيعي يميل إلى ألوان تبنية وبيضاء وصفراء، وبالمقابل برزت على الحاشية خطوط مبعثرة لكنها متكاملة مع المشهد. وهنا استثمار للتجريد مع مواصلة تقاليد الرسم الفارسي الكلاسيكي القديم لكن باستثمار ما تحقق من إرث في فن الرسم خلال القرن العشرين عالميا، ويمكن تلمس العمق في اللوحة بفضل توزيع الألوان أكثر من استخدام المنظور. هذه اللوحة حسب الملاحظة المرفقة بها ضمن مجموعة «الرومي في كأسي».

أطرف مقارنة هي ما بين أكبر الفنانين المشاركين وأصغرهم سنا، فالفنان رضا دركشاني (المولود في 1952) يقدم عالما آخر ضمن مسلسل «ورد وعندليب»، لا يمت بصلة إلى الحاضر، فهو معني أكثر بالتزيين مما يجعل لوحاته أقرب للتطريز على الأقمشة أو تلك النقوش التي تتميز بها السجادات الإيرانية. رسوم محكومة بالتقليد والانغلاق، بينما نجد في لوحتي علي رضا دياني المولود في عام 1982 (بعد عامين على بدء الحرب) جرأة كبيرة واستعدادا لتلقي أكثر المؤثرات الفنية غرابة، ففي لوحته «بلا عنوان» التي يستخدم فيها الحبر الأسود وقلم الرولر، نجد أصابع الفنان الإسباني الراحل سلفادور دالي وأسلوبه السريالي طاغيا عليه، ممزوجا بأسلوب خوان ميرو الغنائي بأشكاله الغرائبية، لكن من دون ألوانه الصاخبة.

للاتصال بالمعرض:

[email protected]