أميركا تحتفل بمرور أربعين عاما على غزوها القمر

الرئيس باراك أوباما يكرم الرجال الثلاثة اليوم في البيت الأبيض

نيل أرمسترونغ الذي أصبح أول رجل تطأ قدماه سطح القمر، التقط هذه الصورة لباز الدرين الذي تلاه في النزول في حين بقي الرائد الثالث مايكل كولينز في مدار القمر (رويترز)
TT

بين الآثار الكثيرة التي خلفها برنامج أبولو على حياة البشر وقناعاتهم، كان التغيير للمألوف والمستمر والمربك بالنسبة للبعض في الطريقة التي ننظر بها إلى الكون وموقعنا منه. وقبل وصول الإنسان إلى القمر، كان هذا الجرم الصغير قصيا ومنعزلا ورمزا لكل ما هو بعيد المنال، رمز الأحلام والخرافات وموضع الهيبة.

وبعد اسكتشافه من قبل رحلة «أبولو 11» في يوليو (تموز) 1969، تلاشى لغز القمر. وتمكنت إرادة الإنسان ودقة العلم من الكشف عن حقيقته: قاحل، خال من الهواء.. مجرد صخرة غير مضيافة لا يمكن الإفادة منها بكثير.

هذا الاكتشاف الذي حصل قبل 40 عاما في هذا اليوم تحتفل به الولايات المتحدة بشعور من الاعتزاز عندما غزوا القمر في 20 يوليو (تموز). وتمتد الاحتفالات الرئيسية، التي ابتدأت قبل أسبوع، حتى الرابع والعشرين من الشهر الحالي.

وسيكرم الرئيس باراك أوباما الرجال الثلاثة اليوم الاثنين في البيت الأبيض. ويحتفل بالمناسبة كذلك في مركز كينيدي في فلوريدا (جنوب شرق) وفي مركز الفضاء في هيوستن في تكساس (جنوب)، حيث كانت قاعة الإشراف على المهمة، مرورا بمتحف الجو والفضاء الشهير في واشنطن والاوكسترا السمفونية الوطنية.

انطلقت أبولو 11 إلى القمر من كاب كانافيرال في فلوريدا، التي تحولت إلى مركز كينيدي الفضائي وعادت بنجاح بالرواد الثلاثة إلى الأرض، وهم نيل أرمسترونغ الذي أصبح أول رجل تطأ قدماه سطح القمر، والذي تلاه باز الدرين، في حين بقي الرائد الثالث مايكل كولينز في مدار القمر.

ويقول رودغير لاونيوس المشرف الأول على قسم تاريخ الفضاء في مؤسسة «سميثسونيان» في واشنطن «حين ذهبنا إلى هناك، كنا نوعا ما نخلع الأسطورة عن القمر ونبسطه».

والواقع أن رحلة «أبولو 11» لم تنزل القمر من عليائه وحسب، بل فتحت أيضا منظورا جديدا للفضاء والإنسانية يمكن أن يثير ويخيب ويعزل.

وبعد أن حقق الاتحاد السوفياتي انتصارا بإطلاق «سبوتنيك» أول مكوك يرسل إلى الفضاء في 1957 وإرسال أول رائد إلى الفضاء يوري غاغارين في 1961، لكنه اضطر للاعتراف بعد ذلك بتفوق خصمه الأميركي عندما أصبح نيل أرمسترونغ أول إنسان يطأ أرض القمر.

ويلفت إيغور ليسوف وهو صحافي في مجلة «نوفيل دو لاسترونوتيك» الروسية المتخصصة أن «هدف الأميركيين الأساسي كان التنافس مع السوفيات في برنامج القمر وشكل الانتصار في هذا السياق من دون شك حدثا ترك أثرا عميقا على المنافسة بين النظامين».

ويضيف «للأسف أسأنا تقدير الأميركيين، فقد بدأنا في مرحلة متأخرة وبقدرات غير كافية».

ويشير جاك بلامون، مستشار رئيس المركز الوطني لدراسات الفضاء في فرنسا إلى مجموعة من العوائق الأساسية اصطدم بها البرنامج، لا سيما البرنامج التقني غير الطموح وإدارة سيئة مارسها مقاولون من الباطن فضلا عن نزاع على السلطة لم تبت به السلطات السياسية.

ويفسر كيف استطاع الأميركيون ابتكار «برنامج متين» في حين افتقر الاتحاد السوفياتي إلى «توجيه استراتيجي وطني حقيق» ووجد نفسه مع مقاربتين متنافستين لبرنامج القمر، إحداها تتحدث عن هبوط على القمر، والأخرى تكتفي برحلة حوله.

ويضيف، في تصريحات نقلتها وكالة الصحافة الفرنسية، أن الأسوأ تمثل في حصول إخفاقات أخرى إلى هذا الفشل على مستوى برامج الاتحاد السوفياتي المخصصة للكواكب، أي المرصودة لاستكشاف الزهرة والمريخ. وقد توقف برنامج اكتشاف المريخ بعد سلسلة من الإخفاقات.

غير أن الجمهور السوفياتي الذي دغدغدته إنجازات «البطل» غاغارين ورواد الفضاء الآخرين الذي رفعوا إلى مصاف الأبطال الأسطوريين، لم يكن على علم بما يحصل فعلا. كان قسطنطين اندوكاييف، مدير البحث في مختبر صغير لعلم البصريات الدقيقة يبلغ السابعة والعشرين إبان غزو القمر.

وهو يذكر تماما أن هذا النبأ لم يخضع للرقابة، لكن المعلومات في خصوص خطوات نيل أرمسترونغ الأولى على سطح القمر كانت «نادرة جدا» في الاتحاد السوفياتي. ويقول إن «الحدث لم يتصدر الصحف ولم ينشر سوى في الصفحات الثانية». ويضيف «أدرك الناس الذين تابعوا دراسات عليا وكانوا يهتمون بأنباء الفضاء أن ما يجري حدث عظيم» غير أن هذه لم تكن حال الجزء الأكبر من الناس.

وعبأت وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) طاقاتها للاحتفال بالمناسبة على موقعها الإلكتروني. وقد عرضت شرائط فيديو تم ترميمها لمهمة أبولو 11 بفضل محطة «سي بي إس» التي احتفظت في أرشيفها بمشاهد من تلك الفترة ولا سيما أولى خطوات نيل أرمسترونغ على القمر والتي فقدت (ناسا) جزءا من الشريط الأصلي الخاص بها. بثت كذلك عبر الإنترنت تسجيلات اتصالات بين الرواد لم يسبق للجمهور أن استمع إليها.

وكشفت (ناسا) يوم الجمعة الماضي كذلك مشاهد لخمسة من ستة مواقع للهبوط على القمر لمهمات أبولو التقطها المسبار القمري الجديد «ال ار او» (لونار روكونيسانس أوروبيتر) الذي أطلق في 18 يونيو (حزيران) تحضيرا لعودة الأميركيين إلى القمر بحلول عام 2020 في حال استمر البرنامج الحالي.

وتمكن هذا المسبار من التقاط صور لركيزة المركبة القمرية التي تركها أرمسترونغ والدرين فضلا عن تفاصيل رائعة للموقع الذي هبطت فيه المركبة أبولو 14 في يناير (كانون الثاني) 1971. كما تظهر الصور معدات علمية تركها العلماء فضلا عن آثار خطى.

وكرس الوصول إلى القمر تفوق الولايات المتحدة على الاتحاد السوفياتي في مجال غزو الفضاء في خضم الحرب الباردة. ويأتي الاحتفال بالذكرى الأربعين في مرحلة حاسمة للطموحات الأميركية في مجال الفضاء.

وطلب الرئيس باراك أوباما مراجعة بالعمق لبرنامج «كونستليشن» الذي أطلقه سلفه جورج بوش في 2004 والهدف منه عودة الأميركيين إلى القمر بحلول 2020 كمرحلة أولى تمهد لرحلات مأهولة إلى المريخ وأبعد منذ ذلك.

ويتوقع أن ترفع لجنة خبراء مستقلين شكلها أوباما برئاسة نورمان أوغوستين الرئيس السابق لمجموعة صناعات الدفاع الأميركي ولوكهيد مارتن، توصياتها نهاية أغسطس (آب). وقال جون لوغدسن أحد المشرفين على متحف الجو والفضاء في واشنطن «في حين نحتفل بالذكرى الأربعين أظن أننا في مرحلة حساسة لا سيما في الولايات المتحدة في إطار عملية ستقرر (..) مصير البشر في الفضاء».

وأوضح في مقابلة مع وكالة فرانس برس «من دون أموال عامة لن يحصل شيء». وقال أخيرا نورمان أوغوستين «لدينا التكنولوجيا لإرسال البشر إلى المريخ، لكن السؤال الذي يطرح هو ما هي الوسائل المتاحة لنا؟».

واعتبر عضو البرلمان الديمقراطي النافذ بارني فرانك أخيرا أن «استكشاف الفضاء من قبل البشر مكلف جدا على صعيد المردود العلمي» مقارنة بالاستكشاف عبر المسبارات والآلات.

لكن يقول رودجير لاونيوس إن تلك الفترة، مثلت صورة «شروق الأرض» (ايرثرايز) التي التقطتها الرحلة «أبولو 8» من جوار القمر وبدا فيها كوكب الأرض عائما في ظلمة دامغة، صورة القرن العشرين من دون منازع. فللمرة الأولى، تمكننا من رؤية موطننا من الخارج في حلة جميلة تفطر القلب، أقرب إلى ملاذ للحياة وسط لانهائية الفضاء البارد.

وقد رأى البعض هذه الصورة على أنها إثبات على هبة الله للإنسانية، ودليل على أن الإنسان خص وحده بهذه البركة الإلهية. ومن هؤلاء رواد أبولو جيمس اروين وتشارلز ديوك. لكن البعض الآخر وجد في هذه الصورة إشارة محبطة على وحدتنا وبدائيتنا وتأخرنا الكبير في مضمار السفر في الفضاء.

واعتبر الفيزيائي والروائي البريطاني سي بي سنو أن أبولو «شكل أكبر عملية استكشاف.. إلا أنه كان آخر عملية تقريبا من هذا النوع»، متوقعا أن الحضارة الإنسانية سوف «تتقوقع على نفسها» من خلال هذا الحدث.

وإلى هؤلاء، كان أيضا من استنتج أن أملنا الوحيد يكمن في تنمية ملاذنا الخاص: كوكب الأرض الذي ليس من مكان آخره للذهاب إليه ببساطة، باعتقادهم.

ويتذكر القس ديفيد ولكنسون عالم اللاهوت في جامعة دورهام في شمال شرقي إنجلترا، رحلة «أبولو 11» قائلا «في سن السادسة، شاهدت إطلاق أبولو 11 ونيل أرمسترونغ يخطو خطوته الصغيرة تلك».

ويضيف ولكنسون الذي درس العلوم الفلكية قبل أن ينخرط في الكنيسة «كنت بنتيجة ذلك جزءا من جيل متحمس للعلوم. فإلى جانب الإنجاز العلمي، تمثل إرث الرحلة بالأثر الذي تركته في صفوف أبناء ذلك الجيل». وأوضح «لقد أثارت رحلة أبولو بعضا من أهم أسئلة الإنسان عن موقعه في الكون، من مسؤوليتنا البيئة إلى روحانيتنا».

ويقول جاك أرنولد الراهب الدومينيكاني الباحث في المركز الوطني لأبحاث الفضاء في فرنسا، إن مشاهد «أبولو» وفرت وعيا بيئيا في حين كانت حركة الدفاع عن البيئة في أواخر الستينات ما تزال مؤلفة من مجموعة صغيرة من نخبة أكاديميين وهيبيين. ويضيف أن «رواد أبولو لم ينبهروا بالنجوم من موقعهم البعيد عن الأرض، بل قالوا في المقابل إن كوكب الأرض كان جميلا وهشا أيضا، في كلمات حفزت الوعي البيئي. نحن اليوم ورثة هذا الوعي».

ويتابع الراهب الدومينيكاني «كانت تلك المرة الأولى في تاريخ البشرية التي نشعر فيها بحس المسافة حيال الأرض، بكل واقعيته ومن دون أدنى خيال». ويوضح «شعرنا فجأة بأننا جميعنا نعيش على هذه الرقعة الصغيرة من الكوكب الأزرق، إننا جميعنا على متن القارب نفسه».