محمود الدوادي: نحن نمتلك التأشيرة الخضراء للحوار مع الآخر

الباحث الاجتماعي التونسي: لا بد من الاستعانة بالبراديغم الإسلامي في مقاربة الإشكاليات

جانب من مؤتمر حوار أتباع الديانات في مدريد (أ.ب)
TT

هو أستا ذ تعليم عال في جامعة تونس. نال شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع بكتابة أطروحة حول مفهوم الحداثة في علم الاجتماع الأميركي من جامعة مونتريال بكندا، 1979. درس في جامعات بكندا والجزائر والسعودية وماليزيا وعمان. لقد نشر أكثر من 150 دراسة ومقالة في مجلا ت محكمة باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية. ألف وشارك في تأليف 18 كتابا باللغات الثلاث، ذكر أربعة منها من تأليفه، صدرت بالعربية :

الثقافة بين تأصيل الرؤية الإسلامية واغترا ب منظور العلوم الاجتماعية ـ الوجه الآخر للمجتمع التونسي الحديث ـ التخلف الآخر: عولمة أزما ت الهويات الثقافية في الوطن العربي والعالم الثالث . ـ أضواء جديدة على محددا ت العقل العمرا ني الخلدوني ـ الابتكارات في العلوم الاجتماعية.

في هده المقابلة محاولة للتعرف إلى آراء محمود الدوادي في إشكاليات راهنة لصيقة باهتماماته.

* في إطار اهتمامك بالحركات الإسلامية كيف تُقارب حاضرها وهل لها مستقبل في ظل الأفكار التي تقترحها؟

- الحركات الإسلامية كحركة اجتماعية هي في مساق متغير. لو أردنا أن ننظر إلى الحركات الإسلامية، فهي الآن في تراجع أو في تردد، وهذا يرجع إلى عدة عوامل. الأمور التي تدعو إليها هذه الحركات، ربما في الكثير من الحالات هي أمور لا ترتبط بواقع المجتمع بطريقة إيجابية. مثلا الخطاب الحركي الإسلامي يمكن أن يكون له مستقبل لو أنه يركز على أهمية العلم والمعرفة بالنسبة إلى الشعوب الإسلامية. فالشباب المسلم يعطي اليوم أهمية إلى الزواج والإنجاب على حساب الترقي العلمي وكسب المعرفة، اللذين يعدان من صلب الفكر الإسلامي من ناحية علم النفس الاجتماعي، باعتبار أن أول كلمة في القرآن هي «اقرأ» وهو أمر مقصود وليس اعتباطيا. إن العلم والمعرفة أهم شيء للجنس البشري، ونص القرآن عبر عن هذا بشكل واضح. أول لقاء بين السماء والأرض قد تم في غار حراء، حيث شهد الدعوة للقراءة. وعلى هذا الأساس لو تركز الحركات الإسلامية على العلم والمعرفة سيكون لها مستقبل.

* في أحدث كتاباتك قدمت نظرية ثقافية عربية ميسرة بمنهجية الجمع بين العقل والنقل، أي حاجة معرفية تلبيها هده النظرية ذات الجذور الضاربة في فكر التراث النقلي الإسلامي؟

- أول شيء في النظرية هو أنها إنشاء فكري في نظرية الرموز الثقافية، وجدت أن الإنسان هو في الصميم كائن ثقافي بالطبع، وأعني بالكائن الثقافي ما يمز الجنس البشري: اللغة المنطوقة والمكتوبة، والفكر بمعناه الإنساني الواسع والتدين والعلم والمعرفة. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي له المهارات المعرفية، ووحده يمتلك الأعراف والتقاليد والقيم الثقافية. هذا جعلني أقول، إن الإنسان كائن ثقافي، بمعنى أهم شيء في الإنسان الرموز الثقافية التي يحتضنها عقله. ولقد برهنت على هذا من خلال التوقف عند قضية النمو عند الكائنات غير البشرية هو نمو بيولوجي، بينما فيما يتعلق بالإنسان فإنه هناك جبهتان للنمو، جبهة الجسد وجبهة الرموز الثقافية، الشيء الذي يجعل كل جبهة تُبطئ في نمو الجبهة الثانية. هذه النظرية وجدت ما يساندها في النقل في الآية «فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فوقعوا له ساجدين»، معظم المفسرين يفسرون بمن فيهم الشعراوي كلمة «روحي» بمعنى بث الحياة في الإنسان، بينما في الحقيقة مسار مساق هذه الآية لا يتناسب مع هذا التأويل؛ لأن الخطاب هنا للملائكة ولو كان بث الروح يعني مجرد بث الحياة لدعيت الملائكة للسجود حتى للكائنات الأخرى الحية، لذلك فإن خص السجود من طرف الملائكة للإنسان، فهو يعني أنه يمتلك أكثر من الكائنات الحية الأخرى. هذه الميزة بالتحليل العقلي لم أجد شيئا يميز الإنسان بطريقة واضحة ما عدا الرموز الثقافية. أنا أقول إن «روحي» في هذه الآية تعني الرموز الثقافية، التي أهلت الإنسان كي يكون فعلا خليفة الله في الأرض. في هذا السياق تأتي فكرة الجمع بين العقل والنقل، المنهج الأصيل عند علماء المسلمين السابقين، تأتي هذه الفكرة لتصبح لها مشروعية.

* كعالم اجتماع، كيف تقارب مظاهر التدين الجديدة لدى الشباب؟

- انطلاقا من نظرية الرموز الثقافية فإن الشباب المسلم لديه ثقافة جديدة، أو على الأقل جانب مهم جديد، ويتعلق بالأمور الدينية التي تأتي عبر الفضائيات والكتب وغيرها. هذه الأشياء تؤثر، خاصة عندما يتم ربطها في العالم العربي بمستويات الفشل في السياسيات العربية الرسمية. تصبح هناك مشروعية، لأن الإسلام هو الخلاص لهؤلاء الشباب، وحتى في الصور المتزمتة والتقليدية، تصبح مقبولة سواء كان في فرنسا أو في مصر أو في غيرهما. أنا لست ضد التأصيل الديني، ولكني أدعو إلى التأصيل الديني النير التقدمي، الذي يستعمل العقل والاجتهاد، والذي يرفع علم المعرفة وراية العلم الخفاقة، ويغذي فضوله نحو الآخر. هناك عنصران رئيسيان يحددان هوية الشعوب في مجال العلوم الاجتماعية: اللغة والدين. نحن في العالم العربي، نجد أن الجانب الديني أصبح قويا، ولكن هناك ميلا للإسلام التقليدي، الذي يقتصر على الشعارات البعيدة عن جوهر الإسلام القائم على العلم والمعرفة.

* تقول إن الهجوم على الإسلام في الغرب على قدم وساق، وأن ذلك شديد الخطورة على المجتمعات العربية الإسلامية. ما هو الرد الأنسب على هدا الهجوم؟ - بالنسبة إلى الهجوم على المسلمين، هذه مسألة موجودة عبر التاريخ ومنطقية؛ لأن الحضارة الوحيدة التي هددت أوروبا في عقر دارها هي حضارة العرب، وليس الهنود ولا اليابانيون ولا الصينيون، ومن ثمة فإن الغرب يتوجسوننا، وبالتالي فإن الجانب المتوتر بين العالم الإسلامي والعالم الغربي قائم بالذات، والهجوم على الدين الإسلامي واضح: الدعوة إلى تغيير المناهج والمضمون بالنسبة إلى التفكير الإسلامي هو في الحقيقة هجوم ثقافي، يقصد إلى إرباك المسلمين في عقائدهم، رغم أنه في نفس الوقت نلحظ أن القراءة حول الإسلام ازدادت في الغرب.

ولكن هل أن هذه القراءة جعلت أغلبية الغربيين متعاطفين مع الإسلام؟ الجانب الثاني يمس البعد اللغوي: في الخليج العربي ومصر والأردن اللغة العربية ليست اللغة الأم في تدريس العلوم، وفي المغرب العربي أعتقد أن توطن اللغة العربية بالمعنى الكامل للتوطين لم يقع إنجازه، وذلك بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال.

الخلاصة: ما يحصل حاليا هو أخطر هجوم يمكن أن تتعرض له الشعوب؛ لأنه ينصب على قطبي الهوية: اللغة العربية والإسلام.

* يمكن القول إنك من المفكرين القلائل المقتنعين بمشروعية أطروحة صموئيل هنتغتون حول صدام الحضارة الغربية مع الحضارة الإسلامية، وتختلف في نفس الوقت مع فرد هاليداي، الذي يعتبر مسألة المواجهة بين الغرب والعالم الإسلامي مجرد أسطورة ووهم؟

- بالنسبة إلى نظرية هنتغتون، هو يقول إن العرب والمسلمين في مسألة صراع الحضارات هم قوم لهم العداء الكثير نحو الغرب، ومن ثم فهو يدعو إلى الحذر من المسلمين، وتوقع الصدام معهم. أنا ناقشت نظرية الصراع فوجدت أن العكس هو الصحيح. عداء الغرب لنا أكثر من عدائنا له، وشرحت هذا في منظور الرموز الثقافية. قلت إن الإنسان والمجتمعات والحضارات عندما يعرف بعضها بعضا ثقافة الآخر لغة ودينا وثقافة، فإن الحوار يكون ممكنا أكثر والعكس صحيح.

نحن مؤهلون للحوار مع الغرب بسبب معرفتنا لغاتهم كثيرا أو قليلا، وبالتالي نمتلك ما أسميه بـ«التأشيرة» الخضراء للحوار مع الآخر. الجانب الثاني للحوار هو الجانب الديني، نحن نعترف بالدين المسيحي والديانة اليهودية، بينما الغربيون المسيحيون واليهود لا يعترفون بـالنبي محمد ومن ثم بالدين الإسلامي، من هنا أقول إن مصدر الصراع في الحقيقة هو الغرب.

* دعوتكم إلى أسلمة علم الاجتماع تم تلقيها بفتور، كيف تدافعون عنها؟

- يمتلك الإسلام إطارا فكريا كي يناقش الأشياء ويفهمها، ما المانع في أن يكون للماركسية والبنيوية والرأسمالية إطار فكري وللإسلام إطاره الفكري أيضا؟ ـ إن علماء الاجتماع والأنثربولوجيا لم يدرسوا شيئا في الثقافة والرموز الثقافية، كمحاولة لإبراز تحليلات الثقافة وأبعادها الأخرى، التي تتمثل في ما أسميه بالرموز الثقافية ذات الأبعاد المتعالية: وهي أشياء غير مادية وتنضوي في سلة الروحانيات.

من ناحية جدلية من المهم الاستعانة بالبراديغم الإسلامي في مقاربة الإشكاليات.

* قريبا سيصدر لك في المجلة العالمية للعلوم الاجتماعية، التي تنشرها منظمة اليونسكو بست لغات مقالة بعنوان: «الثقافة» من منظور إسلامي مختلف.

ـ الأطروحة الأساسية في هذه الدراسة هي التالية: قمت بتحديد الكثير من المعاني أو التجليات المتعالية في الثقافة، والمقولة الرئيسية مفادها إن الإنسان ثقافي بالطبع. فالثقافة غير منفصلة عن الجانب الإسلامي والجانب الروحي من الإنسان، وبالتالي فإن الثقافة هي بيت القصيد في الإنسان. كما يجعل المنظور الإسلامي من الرموز الثقافية كل الإنسان أو على الأقل أهم ما فيه.

* نحن في شهر رمضان ونعرف أن لك قراءة لمزايا هذا الشهر على الإنسان لو نلخصها في أهم مزية.

ـ في صلب علم النفس الاجتماعي، الذي ينظر إلى الجوانب النفسية والاجتماعية، أنا نظرت إلى الفرد والجماعة والمنافع المتحققة من صوم رمضان، فوجدت أن هناك مجموعة من الأشياء هي منافع للفرد: بالنسبة إلى الفرد في رمضان يكتسب مهارة الانضباط أمام ما يسميه فرويد بالغرائز الأولية: الأكل والشرب والجنس. فيه تدريب للنفس.