السياسة غالبة على مهرجان فينيسيا

الشيوعية هاجس الأفلام الأميركية والإيرانية.. والأفلام المصرية دراما وتساؤلات

مشهد من فيلم «نساء بلا رجال» («الشرق الأوسط»)
TT

هل هناك علاقة بين تعرض النظام الرأسمالي الغربي لهزات ثقة ولاضطرابات اقتصادية جمة مع وجود عدد متزايد من الأفلام التي تدور حول الشيوعية؟ هل تحاول هذه الأفلام التذكير بزمن مضى أو أن تتنبأ بزمن مقبل؟

كما مر معنا في الأيام الأولى من المهرجان، انطلق فيلم الافتتاح «بيارا» لجوزيبي تورناتوري، ليتحدث عن الحزب الشيوعي ودوره في مناهضة الفاشية ومحاولة الوقوف مع الفلاحين في حقول باليرمو ضد المافيا والأحزاب اليمينية المختلفة، ثم جاء فيلم «أمير الدموع» التايواني ليتحدث عن الضحايا الذين سقطوا بسبب قيام تايوان (والفيلم إنتاج تايواني، ومن إخراج سينمائي يستخدم اسما واحدا للتوقيع هو «يونفان») بصيد من اعتبرتهم متعاطفين مع الشيوعية سواء كانوا ذلك فعلا أو لم يكونوا. وهذا قبل أن يعرض مايكل مور فيلمه «الرأسمالية: قصة حب» وهو، وإن كان لا يذكر كلمة الشيوعية (بل يأتي ذكر كلمة اشتراكية) فإنه معبأ بالأفكار المناوئة للنظام الرأسمالي الأميركي، ويدعو إلى إحكام جانبي الديمقراطية والحرية سبيلا للخروج من تحت وطأة جشع المصارف والمؤسسات المالية الكبرى.

ومع وجود فيلم أميركي لستيفن سودربيرغ بعنوان «المخبر» ينسج من واقع الأزمة الحالية إحدى القصص التي تعبر عن شراسة تلك الأزمة وانتشارها بين المؤسسات جميعا، ثم مع وجود فيلم أوليفر ستون حول الرئيس شافيز، والوضع الراهن بين الولايات المتحدة وفنزويللا والعلاقات المضطربة بينهما، كما بين الولايات المتحدة وعدد من الدول اللاتينية الأخرى، ثم بإضافة فيلم «الرجال الذين يحدقون في الماعز» الذي ينتقد الحل العسكري المعتمد أميركيا في شتى المواجهات والحروب، على حد قول الفيلم، يكون الاشتراك الأميركي في غالبه جنح للتعبير عن سياسة يسارية ووجد على شاشة المهرجان الإيطالي نافذة واسعة لعرض ما يتناوله جنبا إلى جنب ما يتناوله، في ذات الخصوص ومن ذات المنطلقات، أكثر من مخرج أوروبي وغير أوروبي آخر.

أما الفيلم الإيراني «نساء بلا رجال»، للمخرجة شيرين نزهت، الذي تم عرضه مؤخرا يتحدث أيضا، ولو في بعضه، عن الشيوعية. فأحداثه تدور في عام 1953 عندما قوض شاه إيران، بمساعدة بريطانية وأميركية، مساعي رئيس الوزراء محمد صادق الاستمرار في عمليات تأميم الموارد الوطنية وسلسلة من الإجراءات التي لقت صدى طيبا لدى الشعب الإيراني. أصدر الشاه محمد رضا بهلوي أمرا للجيش بأن يتحرك لإلقاء القبض على محمد صادق والسيطرة على الأمن المهتز في طهران، وكانت تلك الحركة المضادة هي مطلع سلسلة من الأفعال المضادة لأي حركة شبابية أو شعبية معادية للنظام قدر لها أن تنمو إلى حين قيام نظام الثورة الإسلامية، لكن سنوات طويلة قبل تلك الثورة كان الحزب الشيوعي في إيران من بين أكثر الأحزاب والجهات المعارضة للشاه نشاطا، وتم التعامل معه بحزم عن طريق جهاز السافاك المخابراتي.

تنتقل المخرجة المولودة في إيران سنة 1957 بين هذه الوقائع السياسية على الأرض مصورة حزبا قوامه من الشباب المتمرد. لا يوجد هنا أي حديث نظري أو تحليل سياسي (ولو أن خطبة عصماء تفيد بالمشاعر الملتهبة ضد الغرب وهو يحاول تقويض دعائم حكم محمد صادق) لأن المخرجة ليست في وارد البحث في الوضع السياسي بل تكتفي بتقديمه كأرضية لواقع أكبر من الصدامات. بالنسبة إليها فإن إيران أرض صدام بين التقاليد وبين ما هو حرية واستقلالية فردية، بين آثام يرتكبها مجتمع ذكوري ضد نسائه، وضحايا تتطلعن إلى التغيير وتتوجه كل منهن في وجهة تعتقد أنها الصحيحة لإنجاز هذا التغيير، ولو على الصعيد النفسي والشخصي الخاصين.

من دون ذكر الثورة الخمينية، لا من قريب ولا من بعيد، تحصر المخرجة موضوع فيلمها في ذلك العام وتحيط باتجاهات الشارع والنظام معا من دون أن تفقد، في الوقت ذاته، ذلك الخيط الإنساني والأنثوي الجامع بين شخصياتها الأربعة، امرأة بلغت الثلاثين وما زالت غير راغبة في الزواج بسبب ما يكتنف رأسها من عوامل تمرد على الوضع، وصديقتها التي لا تجد من يؤويها بعدما اغتصبها شابان ذات ليلة، وعاهرة تتمرد بدورها على وضعها، ثم زوجة كولونيل في الجيش الإيراني تنهار أحلامها في علاقة عاطفية وهي التي تشعر بأنها تعيش على هامش الحياة كونها لم تعد قادرة على تحمل زوجها المختلف والملتزم بشؤون عمله فوق واجباته الزوجية.

مصير ثلاثة من الأربعة إلى بيت غامض يكمن وسط بستان كبير تسكنه أشجار عالية ويمر به نهر جميل، ساكن ووديع ويسود أجواءه صمت مطبق باستثناء تغاريد الطيور على أنواعها، يتقدمه طريق طويل يبدو كما لو أنه يوصل السائر فيه ما بين الحياة الاجتماعية المرفوضة سياسيا واجتماعيا، وبين أمل في حياة أفضل، وما تلبث ساكنات المنزل أن يشعرن بالتآلف ويجدن بعض القوة النفسية في ذلك الجو المنعزل باستثناء أن المرض كان اشتد على العاهرة الشابة بعدما وجدت مغشيا عليها في النهر، فماتت في الليلة التي تدعو فيها زوجة الكولونيل إلى حفلة في القصر فيلبي الدعوة رجال ونساء الطبقة العسكرية ورجال الأعمال، أما المرأة الرابعة، التي عادت، بشكل رمزي ولكن غير مشبع، إلى الحياة بعد انتحارها، فتنضم إلى الحزب الشيوعي وتشهد انهيار قوائمه في غارات ليلية تضعها المخرجة متزامنة مع تلك الليلة التي تكتشف فيها أن الرجل الذي بالغ في لطفه معها لم يكن يحبها، كما اعتقدت، بل ها هو يجلب إلى الحفلة زوجة المستقبل، امرأة أميركية، زوجة الكولونيل تغني أغنية حزينة ينتهي الفيلم بها.

بالنسبة لمن يتطلع إلى فيلم إيراني فيه قوام العمل السينمائي الجيد تنفيذا، والنابذ للتجارب الإيرانية الحديثة في هذا الشأن، فإن «نساء بلا رجال» هو ضالته. الكاميرا تنتمي إلى سينما كلاسيكية، والموضوع معبر عنه بجماليات راقية، وحركة الكاميرا تنتمي إلى محاولة ترجمة الأحاسيس إلى صور وليس مجرد كاميرا محمولة على الكتف تهتز كيفما أريد لها أو لم يرد، كما في أفلام إيرانية حديثة كثيرة، بحجة أنها تنتمي إلى الواقع والرغبة في تسجيل الحياة كما هي.

فيلم شيرين نزهت مختلف من حيث إنه ليس مع أحد وليس ضد أحد في المطلق. موضوعها الأساسي الحديث عن نساء محرومات من حقوقهن يعشن واقعا يتمنين الخروج منه وكل منهن ترى طريق خلاص مختلف أو لا ترى طريقا على الإطلاق، لكن كون الفيلم مختلفا عن أترابه من أفلام اليوم لا يعني أنه يخلو من المشكلات بدوره، وفي مقدمتها غياب التنسيق بين الحكايات ذات الصدى الواقعي (الجانب السياسي من مظاهرات وفلتان أمني إلخ...)، وبين تلك ذات المستوى الشعري والرمزي، لذا يبدو الفيلم غير متحد في جانبيه وعدم تناسقه يؤدي إلى اختلال توازنه العام.