رئيس قلم المحكمة الدولية: أدعو اللبنانيين للصبر

قال لـ«الشرق الأوسط» إن المدعي العام سيقدم مطالعته الاتهامية عندما يكون جاهزا

رئيس قلم المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ديفيد تولبرت
TT

في الأول من مارس(آذار) الماضي، بدأت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان عملها في المبنى الذي استؤجر لها في محلة ليدشندام القريبة من مدينة لاهاي في هولندا.

وبعد استقالة البريطاني روبن فنست من رئاسة قلم المحكمة في الربيع الماضي، عيين الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الأميركي ديفيد تولبرت خليفة له. وقد شغل تولبرت طيلة خمس سنوات (2004 ـ 2008) منصب نائب رئيس المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا بعد أن بقي لعامين في منصب نائب رئيس قلم المحكمة. فضلا عن ذلك، احتل القانوني الأميركي الحائز على دكتوراه في القانون الدولي من جامعة كارولينا الشمالية منصب مستشار الأمين العام للأمم المتحدة في بعثة المنظمة الدولية لمحاكمة قادة الخمير الحمر في كمبوديا.

وفي المقابلة المطولة التي أجرتها «الشرق الأوسط» معه في مقر المحكمة الدولية في محلة ليدشندام شدد رئيس قلم المحكمة على أهمية التوصل إلى الحقيقة كأحد الشروط الأساسية لتوفير الأمن والتوافق والاستقرار في لبنان. واعتبر تولبرت أن لا مناص أمام أية حكومة في لبنان من التعاون مع المحكمة الدولية بسبب الالتزامات والتعهدات التي قطعتها الدولة اللبنانية على نفسها. غير أن تولبرت رأى أنه رغم أن المحكمة الخاصة بلبنان قد أقرت بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، فإنه يعتبر أنه ليست للمحكمة الأدوات التي تمكنها من إجبار الدول على التعاون معها كما أنه استبعد اللجوء إلى استصدار قرارات في مجلس الأمن لتحقيق هذا الهدف. وكشف تولبرت أن التدابير العملية والمادية للمحكمة قد شارفت على الانتهاء وسوف تنجز نهائيا في فبراير (شباط) أو مارس (آذار) المقبلين لكنه أصر على أن المحكمة جاهزة عندما يكون المدعي العام جاهزا. وبالطبع رفض القول متى سيتقدم المدعي العام بلمار بمطالعته الاتهامية ليؤكد أنه سيقوم بذلك عندما يعتبر أنه سيكون جاهزا. ووصف تولبرت علاقته بالمدعي العام الدولي بأنها «ممتازة». وفي ما يلي نص الحديث:

* بعد سنوات على تشكيلها، ليس للمحكمة الخاصة بلبنان لا متهمون ولا موقوفون ولا قرار اتهامي كما ليس هناك أي تاريخ مؤكد لبدء عملها أو لصدور المضبطة الاتهامية. هل ثمة توضيحات يمكن أن تعطينا إياها؟

ـ من المفيد في هذه المرحلة أن ندرك أن التحقيق هو الخطوة الأولى وبمجرد أن يشرف التحقيق على الانتهاء يتعين على المحكمة أن تكون جاهزة لمباشرة كافة الأنشطة التي يجب أن تضطلع بها بعد انتهاء عملية التحقيق.

وإذا أردنا أن نقارن بين هذه المحكمة والمحاكم الدولية الأخرى، التي أعرفها ـ وكما تعلمون أنا أعرف المحكمة الخاصة بيوغوسلافيا السابقة أكثر من غيرها لأنني عملت فيها ـ كان هناك التحقيق أولا وبعد التحقيق الإجراءات القضائية. ولكن قبل ذلك كان من المهم إقرار الترتيبات لاعتماد هذه الإجراءات وهذا ما نفعله في هذه المحكمة في الوقت الحاضر.

* اللبنانيون متشوقون لمعرفة متى ينتهي التحقيق ومتى ستصدر المضبطة الاتهامية وتبدأ المحاكمات عمليا.

ـ أنا أفهم توق اللبنانيين للحقيقة واستعجالهم الوصول إليها. ولكن هناك مثل إنجليزي يقول: دواليبب القضاء بطيئة في السير. ولهذا أسباب منها الحرص على ضمان حقوق الإنسان والأشخاص الذين قد يكونون على علاقة بما يجري في هذه المحكمة. كذلك للضحايا حقوق وعلينا المحافظة عليها، وبالتالي ما ننصح به هو التحلي بالصبر وفهم العملية القضائية على المستوى الدولي والمقارنة بين ما تقوم به هذه المحكمة بالمحاكم الدولية الأخرى في الأنشطة التي اضطلعت بها.

* ما هو برأيكم تأثير عمل هذه المحكمة على السلم والأمن في لبنان؟

ـ أفهم من خلال خبرتي أهمية عمل هذا النوع من المحاكم وأثرها على الأمن والاستقرار في أي مكان من العالم. ولكن لكي يتحقق الأمن والاستقرار يتعين توافر التوافق والتفاهم بين الأطراف المختلفة. غير أن كل هذا مرهون بتحقيق العدالة ومن دونها لا يمكن تحقيق التوافق بين الأطراف المختلفة. العدالة والوصول إليها العنصر المركزي في الأمن والسلام. بالتأكيد الوصول إلى الحقيقة جزء من إحقاق العدالة. وجزء من عملية إحلال السلام والتوافق بين الأطراف المختلفة. وأريد التوقف عند تجربة أخرى وهي محاكم نورمبورغ في ألمانيا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية. حصلت عملية توعية لجهة التأكيد على أهمية القانون والتعريف بأهمية ذلك. ولهذا السبب نرى أن ألمانيا، بعد أكثر من نصف قرن لم تدخل حربا أخرى مع دول الجوار: هذا جانب مما يمكن للعدالة الدولية أن تحققه. هي قادرة على حفظ الأمن والسلام بين الدول. هناك أمثلة أخرى عبر العالم: إسبانيا، أرمينيا.. الخلاصة التي يمكن أن نصل إليها أنه من غير الحقيقة لا يمكن تحقيق السلام والوفاق ونعتبر أن ذلك ينطبق على لبنان وعلى حالات كثيرة أخرى.

* ولكن أليس البحث عن الحقيقة والوصول إليها يمكن أن يكون سببا لانقسام المجتمع؟

ـ أنا أفهم المنطلق الذي يصدر عنه سؤالك: هو مفهوم السلام في مواجهة العدالة. في رأيي، من غير العدالة لا يمكن للسلام أن يتحقق. لكن هذا لا يعني أنه يجب أن يكون ثمة صراع بين الحقيقة والعدالة من جهة وبين السلام من جهة أخرى. الموضوع أثير وكان موضع جدل ونقاش طويلين بين المهتمين بالأمر. ولكن في نهاية المطاف، من غير إحقاق العدالة، لا يتحقق أي شيء آخر.

* هل المصالحة داخل المجتمع اللبناني يمكن أن تأتي من المحكمة والعدالة؟

ـ الأمر ليس بهذه البساطة. العدالة تبقى عنصرا واحدا من أسباب استقرار الأمن، وتحقيق الوفاق جراء محاكمة واحدة أو محاكمتين لا يعني بالضرورة أن العدالة المطلوبة سوف تتحقق وبالتالي تكون جزءا من عملية تحقيق السلام.

* ما الذي تقوله للبنانيين الذين ينتظرون أن تبدأ المحكمة أعمالها وأن تصل إلى الحقيقة؟

ـ نحن نريد أن نشرح للشعب اللبناني ما نقوم به. نحن نريد منه بكافة فئاته أن يفهم ما نقوم به وما هو دور المحكمة. نريد أن نترجم ما نقوم به هنا إلى خطوات عملية يمكن للبنان أن يستفيد منها، أي السلم والاستقرار. نحن نريد أن ندفع باتجاه سيادة القانون والانتهاء من غياب المساءلة، وبالتالي فإن كل محكمة من هذا النوع تترك أثرا كهذا على كل بلد جاءت من أجله، وهذا يعني أننا ملتزمون التزاما كاملا بإيصال هذه الرسالة للشعب اللبناني. أقول له: «عليك أن تكون صبورا، أن تترك للعملية القضائية أن تأخذ مجراها الصحيح، وهذا سوف يتحقق لأن المحكمة تضم أشخاصا على درجة عالية من الكفاءة وهم يعملون على ضمان سيادة القانون.

* هل ستصل المحكمة يوما إلى الحقيقة؟

ـ يجب أن نترك الأمور تأخذ مجراها، وللمدعي العام أن يقوم بعمله بالشكل الأكمل. وفي العملية القضائية لا يمكن أن ندفع باتجاه الاستعجال.

* هل علينا استبعاد أي ضغوط أو مساومة أو تسوية مع هذه المحكمة كما حصل مع محاكم أخرى مثل لوكيربي مثلا؟

ـ محكمة لوكيربي كانت محكمة اسكوتلندية تعمل على الأراضي الهولندية ولم تكن محكمة دولية. لا أريد أن أكون نذير شؤم. مبدئي أن نترك العملية القضائية تأخذ مجراها ونرى ما ستفضي إليه.

* ما هو التعاون المطلوب بين المحكمة والحكومة اللبنانية؟

ـ الدولة اللبنانية لديها التزامات قانونية دولية إزاء المحكمة وذلك بغض النظر عن الحكومة التي ستتولى إدارة شؤون البلاد، إذ إنها ستكون ملزمة بالوفاء بالتزاماتها لأنها التزامات أخذت باسم الدولة اللبنانية أمام المجتمع الدولي.

* ولكن إذا رفضت هذه الحكومة أو أية حكومة لبنانية أخرى التعاون، ما هي الوسائل القانونية التي تملكها المحكمة لإلزام الحكومة اللبنانية بالتعاون؟

ـ أنا لا أريد الدخول في التكهنات. الحكومة اللبنانية ملزمة أمام المجتمع الدولي بالوفاء بالتزاماتها. وأتوقع من الدولة اللبنانية مهما تكن الحكومة القائمة فيها أن تفي بتعهداتها والتزاماتها، إذ إن هناك قواعد قانونية واتفاقيات تحدد هذه الالتزامات. حتى الآن، التعاون مع الحكومة اللبنانية جيد جدا ولا أريد الدخول في متاهات التكهنات بشأن ما قد يحدث.

* عمليا، ما الذي تحتاجونه من الحكومة اللبنانية؟

ـ علينا أن نميز نشاطين مختلفين: هناك الادعاء الذي يقوم بالعملية التحقيقية ويطلب مساعدة الحكومة اللبنانية في إجراء التحقيقات واستدعاء الشهود ليمثلوا أمام المحكمة. هذا عمل الادعاء ولا أتدخل فيه. بالمقابل، أستطيع أن أعلق على الجانب الخاص بقلم المحكمة. وفي هذا الخصوص، لدينا مكتب بيروت التابع للمحكمة وهو يوفر التسهيلات الخاصة بموظفي المحكمة للعمل في لبنان. وفي هذه الحالة، نحن نحتاج لتعاون ودعم الحكومة اللبنانية في مهمات مثل استدعاء الشهود وحمايتهم وكذلك حماية ذوي الضحايا وتسهيل حرية حركتهم واتصالهم بالمحكمة، وبالتأكيد هناك المسألة الأخرى المهمة وهي الدعم المالي، حيث إن لبنان تعهد بتوفير 49 في المائة من ميزانية المحكمة.

لا نستطيع إلزام الدول على التعاون رغم الفصل السابع وأستبعد اللجوء إلى مجلس الأمن

* هل من وسائل قانونية تتيح للمحكمة أن تلزم الدول غير الدولة اللبنانية بالتعاون؟

ـ المحكمة لديها قواعد للتصرف ورئيس المحكمة يضع ترتيبات تسمح للمحكمة بالاتصال بالحكومات المختلفة. ولكن في نهاية المطاف بوجود أو بغياب هذه القواعد القانونية، وهو ما رأيناه في تجارب أخرى مثل يوغوسلافيا، وعلى الرغم من عدم وجود جهاز شرطة في المحكمة أو أدوات تمكن من إجبار الدول المختلفة على التعاون مع المحكمة، كنا نبعث بمذكرات تعاون لهذه الدول وكنا نرى أن هذه المذكرات كانت تلاقي ردودا إيجابية من هذه الدول.

* هل يمكن مثلا اللجوء إلى مجلس الأمن لإصدار قرار معين لإجبار دولة ما على التعاون مع المحكمة؟

ـ لا أتوقع أن هذا سيحدث، وعلى حد علمي ليس هناك ما يشير في قرار إنشاء المحكمة إلى الطلب من مجلس الأمن لإصدار قرار يجبر دولة عضو في المنظمة للامتثال لطلب من هذا النوع. صحيح أن مجلس الأمن أقر إنشاء المحكمة بموجب الفصل السابع ولكن لا أعتقد أن آلية الإجبار هي الآلية المناسبة للتعاون مع الدول الأعضاء. مثلا: محكمة يوغوسلافيا السابقة؛ إذ من أصل 161 متهما، 159 سلموا أنفسهم للمحكمة. اثنان فقط، أحدهما اعتقل والآخر لا يزال فارا. إذن المسألة تتطلب الصبر والتعامل مع هذه الدول بعيدا عن الإجبار. الإجبار وفق ما أعتقد ليس الآلية المناسبة. الصحيح أن مجلس الأمن هو الذي يصدر القرارات بموجب الفصل السابع كما كان الحال في موضوع يوغوسلافيا. ولكن حتى في الحالات التي حاول فيها مجلس الأمن أن يلجأ إلى هذا النوع من التعاطي، ثبت أنه ليس الوسيلة المثلى للحصول على نتائج.

* لو افترضنا أن المحكمة طلبت تسليم مواطن من دولة ما وهذه الدولة رفضت بحجة أنها ستحاكمه أمام محاكمها. كيف سيكون تصرف المحكمة؟

ـ فهمي وتجربتي أن الدول تتعاون مع المحكمة الدولية. لقد واجهنا صعوبات من هذا النوع ولكن استطعنا التوصل إلى حل لها. صربيا كانت ترفض تسليم مواطنيها. ولكن مع الصبر والاستراتيجية، نجحنا في تسلم هؤلاء الأشخاص. نحن لا نستطيع أن نتحدث عن هكذا حالات في المطلق. لكن علينا أن نتذكر باستمرار أن هذه المحاكم ليست لديها صلاحيات ملزمة كما هو الحال مع المحاكم الوطنية عندما تصدر أوامر إلى السلطات المحلية. هذا هو الاختلاف الرئيسي.

* هل يمكن أن نقول إن المحكمة أصبحت جاهزة من الناحية المادية لبدء المحاكمات؟ ـ كما تعرفون، لبنان يمول 49 في المائة من نفقات المحكمة و51 في المائة تأتي من مصادر دولية. التمويل متوافر بالكامل للعام 2009، والمحكمة بصدد إعداد ميزانية عام 2010 وهناك التزامات تم التعهد بها وهي موجودة أصلا. أما في ما يخص استعداد المحكمة لمباشرة عملها، لقد وصلنا تقريبا إلى مرحلة الاكتمال في عملنا. معظم الكوادر الرئيسية اكتملت وبعضها ما زال قيد الدراسة وقاعة المحكمة سيتم الانتهاء منها في الربع الأول من العام المقبل. جهزنا زنزانات الاحتجاز وكل المستلزمات الأساسية ستكون جاهزة عندما يحين الوقت المناسب لانطلاق عمل المحكمة.

* لكن السؤال هو: متى الوقت المناسب؟

ـ أعتقد أن هذا السؤال يجب أن يوجه إلى المدعي العام لأن الكثير من المسائل مرهونة بما يقوم هو به.

* إذن لن يصدر أي قرار اتهامي قبل مارس (آذار) المقبل؟

ـ أنا لم أوح بأي شيء وهذا ليس من اختصاصي. المحكمة جاهزة للشروع بعملها في أي وقت تدعو الحاجة. مسألة تجهيز القاعة شيء آخر. عندما يكون المدعي العام جاهزا فنحن سنكون جاهزين.

* كيف يمكن توصيف علاقاتكم بالمدعي العام؟ ـ قبل أن أبدأ مهامي، التقيت المدعي العام في أوتاوا وناقشت معه موضوع التعاون لساعات. بلمار شخصية ممتازة وعلاقتي معه طيبة وأنا شخصيا مدع عام سابق وعلى اطلاع على كيفية عمل المدعي العام.

* البعض في لبنان وخارج لبنان يتحدث عن تسييس المحكمة. ما هو ردكم؟

ـ القضاة وكبار الموظفين اختيروا وفق طريقة تنطبق عليها الشفافية الكاملة ووفق معايير الكفاءة. المحكمة مستقلة وأستطيع أن أؤكد أن كافة أجهزتها تستند في عملها إلى الاستقلالية الكاملة.

* ما هو التأثير المترتب على الاتفاقية المرتقبة بينكم وبين الإنتربول؟ ـ الأنتربول منظمة حكومية دولية ودورها تمكين الدول من تبادل المعلومات بخصوص القانون الجنائي أو تطبيق العدالة وبالتالي ليس للإنتربول صلاحيات لممارسة نشاط له علاقة بدور الشرطة في الدول المختلفة.

* ما الذي تحتاجه المحكمة الخاصة بلبنان للإنتربول؟ ـ المسألة مرهونة بوضع الدولة ومعرفة ما إذا كانت عضوا في الإنتربول أم لا. إذا كانت عضوا، فهي تتقاسم المعلومات مع الإنتربول.