القراءة على «مقام الحجاز».. نكهة خاصة تميز مقرئي أهل الحجاز وتثير دهشة الوافدين

تثير الخشوع في نفوس سامعيها.. وقراؤها يعرفونها بـ«السليقة»

مصلون في المسجد الحرام («الشرق الأوسط»)
TT

بالنسبة لزوار المنطقة الغربية في السعودية ربما يكون أبرز مظاهر الشهر الفضيل التي تميزه، أصوات الأذان وتلاوات القرآن، التي تملأ الفضاء في ليالي الشهر، والأكثر تمييزاً لهذا المظهر الديني والروحاني في منطقة الحجاز هو القراءة الرقيقة والمثيرة للعواطف التي يستخدمها الأئمة والمقرئون في تلاوتهم، هذه القراءة التي ترتكز إلى مقام موسيقي يختص بأهل الحجاز، باستخدامه في تلاوة القرآن الكريم ويسمى بالصدفة «مقام الحجاز».

الشيخ عبد المحسن نصير، إمام مسجد أبو الحسن بجدة، يؤكد أن القراءة الحجازية هي بصمة حجازية مميزة منذ مئات السنين، وإن كان لا يذكر على وجه الدقة متى بدأ الحجازيون باستخدامها، إلا أنه يؤكد أنها القراءة التي سمعها عن والده وجده، وأنها القراءة التي يفضل ترتيل القرآن الكريم بها، تماماً كما يفضل المصلون بمسجده الاستماع إليها، مشيراً إلى أن مزايا هذه القراءة وضوح مخارج حروفها وسهولة نطقها وبساطتها ووقعها المؤثر في النفس.

من جانبه أكد الشيخ توفيق الصائغ، القارئ وإمام مسجد اللامي بجدة، أن هناك بعداً موسيقياً يعرفه أهل الفن من حيث تقسيم المقامات، وبالنسبة للقراء في منطقة الغربية أو الحجاز فإن أداءهم وتلاوتهم على المقام الحجازي، أو ما يسمى القراءة الحجازية، هو بحكم السليقة وتعود الأذن على هذه القراءة العريقة أكثر من كونها نتيجة دراسة وتعمق في المقامات الموسيقية. ويرى الصائغ أن الحجازيين اشتهروا بهذه القراءة تماما كما يقرأ العراقيون على المقام العراقي الحزين، لكن ليس بالضرورة أن يكون كل القراء الذين يقرؤون على هذا المقام، قد درسوا الموسيقى والمقامات، بسبب الخلاف من الناحية الشرعية، فهناك من أهل العلم من يرى تحريم دراسة المقامات الموسيقية وتركيبها على الآيات القرآنية صيانة للقرآن من الموسيقى والطرب.

ويضيف «لكننا نستطيع القول إن هناك منطقة وسطى بين هذا وذاك، فهناك أشخاص موهوبون والمقامات الموسيقية مثل الأوزان الشعرية، وهناك أشخاص يمكنهم قرض الشعر من دون تعلم العروض».

ويضيف «هناك أشخاص لديهم اطلاع عميق بالمقامات عموما، ومنهم بعض الأئمة والمقرئين، الذين يدركون أن المقام الحجازي تتفرع منه عدة مقامات، ويميزون حينما يقرأ القارئ الحجاز بـ«الصدا، أو البنجكا، أو السيكا»، لكن الغالبية تقرأ بالطريقة التي سمعت عليها أسلافها، ويؤكد الصائغ على أن القراءة الحجازية أو المقام الحجازي ينسب إلى أهل الحجاز اسماً، لكنه ليس خاصاً بهم، فالمصريون مثلاً يعرفون هذا المقام ويستخدمونه، لكن ليس لقراءة القرآن».

تأثير القراءة الحجازية التي يسعى الكثيرون، وبالذات في المنطقة الغربية من السعودية، لجعلها مزية مهمة وشرطاً شبه لازم في اختيار المسجد والأمام، الذي يقضون فروضهم خلفه، تختلف باختلاف السامع، فهناك من تدفعه هذه القراءة لاستحضار خشوعه كاملاً وتستدر دموعه هذه التلاوة، وهناك من ارتبطت لديهم القراءة الحجازية بالطرب والأعراس، والمجسات، فلا يشعر بالخشوع قدر ما يشعر بالطرب، بحسب ما يقول الشيخ توفيق الصائغ.

ويتابع الصائغ مستحضراً مثلاً حياً على هذا الأثر المتفاوت بقوله «هذه مشكلة ملحوظة لدى البعض فصاحب النغم يطرب مع المقام الحجازي، لأنه يتميز بكثرة الطلوع والنزول، وتنوع نوتاته، وعلامة الطرب تمايل الرأس، وهذا الشعور لا يتناسب كثيراً مع موقف الإنسان في الصلاة بين يدي ربه الذي يتطلب الخشوع والانكسار، وفي إحدى المرات شهدت موقفاً يمكن تسميته بالطريف، حيث كنت أقرأ في الصلاة بالمقام الحجازي فما كان من أحد الأشخاص خلفي إلا أن استبد به الطرب وخرج تماما من جو الصلاة ورفع صوته قائلا «عظمة على عظمة». ويضيف «أنا شخصياً أعتقد أنه رتم طرب، وأعتقد أن من يود الخشوع يحتاج إلى ألحان حزينة، ولهذا أختار في صلاتي ومصحفي المسجل أن أقرأ على مقام النهاوند».

أبرز الأئمة الذين اشتهروا بالقراءة الحجازية، ولهم صيت كبير وما زالت إذاعة القرآن الكريم تتلقى الطلبات ببث تسجيلاتهم الصوتية، هم الشيخ علي عبد الله جابر، والشيخ عبد القادر عطية، والشيخ زكي داغستاني، والشيخ محمد أيوب، الذي يقول عنه الصائغ إنه من نشر هذا المقام في العالم الإسلامي بصوته العذب الذي لا يمله أحد، وهو الذي أعطاه طابعاً خاصاً ويمكن القول إنه يمكن تسجيل اسمه على القراءة الحجازية إلى جانب الشيخ الأشهر الشيخ عبد الله خياط الملقب بمنبر الحرم المكي.

وبالنسبة للقراء الذين لا يزالون على قيد الحياة، فإن الشيخ هاني عبد الرحيم، والشيخ نبيل الرفاعي، واستاذه عبد الوهاب الحضيري، الذي يتخصص بالقراءات في الملك ومناسبات العزاء - الذي كان بالمناسبة مطرباً قبل تحوله إلى قراءة القرآن – هم الأشهر والأكثر صيتاً كما يقول الشيخ توفيق الصائغ.

أصوات القراءات الندية التي تملأ ظلمة الليل نوراً ربما ترتبط في الكثير من مناطق العالم الإسلامي بشكل عام والسعودية بشكل خاص بشهر رمضان المبارك، على اعتبار أحياء صلاة القيام (التراويح والتهجد)، إلا أن عقد المجالس الخاصة بالاستماع إلى قراءات القرآن بأصوات مقرئين متميزين هي عادة قديمة وعريقة في عدد من مناطق العالم الإسلامي، وكانت عادة شائعة في الحجاز، لكنها تراجعت مع مرور الوقت.

ويرجع الشيخ توفيق الصائغ تراجع هذه العادة إلى وجهة نظر بعض أهل العلم، التي ترى بمخالفة هذه المجالس للسنة، بسبب ارتباطها في الخارج وفي المناطق التي تقام فيها عادة بعبارات الصياح التهليل والتكبير التي يطلقها السامعون عندما تستبد بهم الحالة الروحانية الناجمة عن الاستماع للتلاوة العطرة وهي حالة تتضمن الطرب تماماً كما تتضمن الخشوع والخوف والرحمة والرجاء في الله عز وجل، يقول الصائغ «لهذا غابت هذه المجالس جملة وتفصيلا عن المجتمع الحجازي والنجدي ومجتمع الجزيرة العربية، رغم أنها سنة حسنة كما نرى، فإحياء القراءة وسماع الصوت العذب الذي يتلوه ليس بالضرورة أن يرتبط بشهر رمضان فقط أو العزاء أو المأتم أو الولادة أو غيرها من المناسبات شديدة الخصوصية، لأن مثل هذه المناسبات تتضمن إبداعا خالصاً من ناحية عرض القراءات العشر ومن ناحية الصوت، وسماع القرآن غض كما أنزل وتصحيح القراءة والتلاوة على صوت القارئ المجيد للقرآن».

ويضيف «في مصر مثلاً هناك قارئ يقرأ قبل صلاة الجمعة، وفي المغرب العربي هناك سنة التحزيب، حيث يتم تقسيم القرآن إلى أثمان ليستمروا بالقراءة دائماً، وهي سنة بدأت من عصر يوسف بن تاشفين ولا تزال متبعة حتى الآن، وأحياناً تسن أشياء من أجل تعليم الناس ثم يدرجون عليها، فالحكم الشرعي هنا له فلسفته ومدرسته التي تتحدث عنه، لكن المظهر العام لمثل هذه المناسبات شرعي وله أصل وهدف يتلخص في تعليم الناس، والرسول، صلى الله عليه وسلم، كان يطلب من ابن مسعود أن يقرأ عليه القرآن في المجالس فيقول ابن مسعود: أأقرأه عليك وعليك أنزل؟ ليرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: أقرأ عليَّ فإني أحب أن أسمعه من غيري، وغيرها من القصص التي تؤكد هذا المنحى. وعليه فإن هناك أصل شرعي لمجالس السماع التي يتلى فيها القرآن الكريم، وإذا كانت المناسبات والمحاضرات تعقد لسماع آراء بعض الأشخاص فالأولى وعظ الناس بالقرآن».

الصوت الندي الجميل، بكل ميزاته التي تختلف من قارئ لآخر كالبحة الخفيفة الدافئة التي تتناسب كثيراً مع آيات التذكير بأفضال الله على عباده ومننه، التي لا تعد ولا تحصى، وتشعر السامع والمأموم بالألفة والتواصل الروحاني مع فحوى الآيات ومع خالق الأكوان، أو القوة والجزالة التي تميز أصوات البعض الآخر وتتناسب كثيراً مع الآيات التي تذكر بقوة الله وجبروته، هو الأداة الأساسية للقراء والأئمة في انجاز وظيفتهم الشريفة، وتختلف طرقهم في المحافظة عليه وصيانته.

وبالنسبة للشيخ توفيق الصائغ تعد العناية بصوت المقرئ مشكلة عامة لدى القراء في السعودية والسبب - كما يقول – غياب هذه الثقافة التي ترتبط بمجالس القراءة الشائعة في بقية الدول الإسلامية.

ويضيف «هذه أحد محاسن مجالس الإقراء، فالقارئ لا يكاد يمر عليه أسبوع إلا وهو يقرأ ويمرن صوته، أما بالنسبة إلينا كأئمة مساجد لا نعاني من الضغط إلا في شهر رمضان بحكم أداء صلوات القيام، ووصفتي الخاصة هي تناول المشروبات الدافئة، اليانسون والعسل، وعدم التعرض لتيارات الهواء القوية والتكييف، وأخذ حقنة الإنفلونزا قبل بداية الشهر الفضيل».

أما بالنسبة للمحافظة على الخشوع والحضور الروحي في أعلى درجاته طوال أيام الشهر الفضيل فالطريقة التي يتبعها الصائغ هي استشعار الشهر الفضيل يقول «أستحضر دائماً أنني الوسيلة لتذكير الناس بكلام الله عز وجل الصادر عنه، وهو ما يدخلني هذه الأجواء بغض النظر عن الجهد والوقت، ففي صلاة التهجد مثلاً تصل قراءتنا في الركعة الواحدة إلى نصف ساعة وهو أمر مجهد، لكن شعورنا بهذا الجهد والوقت يكاد ينعدم تماماً مع تركيزنا على فحوى الآيات الكريمة وإحساسنا بجلال الموقف ورهبته».

أما بالنسبة للشيخ عبد المحسن نصير، فإن الامتناع عن تناول أي وجبة تحتوي على الدهون قبل أداء الصلاة أمر في غاية الأهمية، والابتعاد عن المنبهات والمشروبات الحارة جداً أو الباردة جداً وتناول العسل على الريق في الأيام العادية هي الوصفة التي أثبتت نجاحها في صيانة صوته. ويزيد نصير على بقية الأئمة والمقرئين بقوله «من المهم أيضاً أن يحافظ القارئ على حاسة السمع لديه ليتمكن من القراءة بشكل صحيح».