في قبضة طالبان الحلقة الأولى 7 أشهر و10 أيام في الأسر لدى طالبان

مراسل «نيويورك تايمز» يروي ليلة الهروب من الشريط القبلي

الصحافي الأميركي ديفيد رود خلال حديثه مع أفغان قبل اختطافه خارج العاصمة كابل في نوفمبر الماضي («نيويورك تايمز»)
TT

تمكن ديفيد رود، مراسل صحيفة «نيويورك تايمز»، الذي اختطفته جماعة طالبان، من الهرب نهاية شهر يونيو (حزيران) الماضي، وحصل على حريته بعدما يزيد على سبعة أشهر من الأسر في قبضة طالبان بجبال أفغانستان وباكستان. وكان رود وصحافي أفغاني آخر، هو طاهر لودين، وسائقهما، أسد الله مانغال، قد اختطفوا خارج العاصمة الأفغانية كابل في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) خلال إجرائهم بحثا ضمن كتاب. ويأتي رود كواحد من بين فريق «نيويورك تايمز» الذي فاز بجائزة بوليتزر هذا الربيع على تغطيتهم أحداث أفغانستان وباكستان العام الماضي. ويروي رود في سلسة مقالات تنشرها «نيويورك تايمز» أيامه الصعبة في أسر الحركة الأصولية، التي نقلته بعد اختطافه من لوغر داخل أفغانستان إلى الشريط القبلي قبل أن يقضي أياما رهن الأسر في عهدة رجال سراج الدين حقاني المرتبطة بـ«القاعدة». وقال رود، إن طاهر لودين كان بصحبته خلال تسلق جدار المكان الذي احتجزا فيه في شمال وزيرستان في باكستان، وتمكنا من الوصول إلى قاعدة عسكرية باكستانية حدودية، ثم تم نقلهما جوا إلى القاعدة العسكرية الأميركية في باغرام بأفغانستان. ويتحدث عن الشروط الصعبة التي وضعتها طالبان للإفراج عنه وهي فدية تقدر بـ25 مليون دولار، والإفراج عن سجناء أفغان محتجزين في غوانتانامو . وقال: «لقد نجحنا في تسلق جدار المنزل». ولم يهرب السائق مانغال مع الرجلين. وقد تعاملت «التايمز» والمنظمات الإعلامية الأخرى مع عملية الخطف بهدوء تام لحرصها على سلامة الرجال. ومنذ واقعة اختطاف الرجال الثلاثة كان هناك عدد من الاتصالات المتفرقة من الرجال وخاطفيهم. ارتفع صوت محرك السيارة بعد أن ضغط المسلّح على دواسة البنزين وعبرنا إلى الصحراء الأفغانية الرحبة. أجلستُ في الخلف بين زميلين أفغانيين كانا يصطحبانني في رحلة صحافية عندما أحاط بسيارتنا مسلحون ليأخذونا رهائن. والتفت مسلح آخر كان يجلس في مقعد الراكب الأمامي ونظر إلينا وهو يقبض بيديه على رشاش كلاشنكوف، ولم يتحدث أحد. نظرتُ سريعا إلى الأرض المنبسطة في الخارج، حيث كانت للتربة لون أحمر وانتشرت صخور ضخمة لها شكل دائري ولون أسود في مرمى البصر، وكنا نخشى من أن يتم قتلنا خلال دقائق. كان ذلك في العاشر من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وكنت ذاهبا إلى لقاء مع قائد بحركة طالبان مع صحافي أفغاني يدعى طاهر لودن وسائق يدعى أسعد مانغال. دعانا القائد إلى إجراء مقابلة معه خارج كابل حيث كنت أتقصى الأخبار عن أفغانستان وباكستان. كلما نظرت إلى الرجل المسلح الجالس في مقعد الراكب كنت أشعر بالتوتر، فلم تكن تبدو على وجهه أي مشاعر وكانت عيناه مظلمتين وباردتين. وفكرت في زوجتي وعائلتي، وبعد ذلك غلبني شعور بخيبة الأمل، فالمقابلة التي كانت تبدو أنها ستكون ساعات عصيبة تبدو حاليا وكأنها خطوة عبثية ومحاولة طائشة. لقد عرضت حياة طاهر وأسعد للخطر، ومعهم حياتي. وبعد وصولنا إلى مجرى نهر جاف، وقفت السيارة وهمس طاهر: «سوف يقتلوننا، سوف يقتلوننا».

طُلب من طاهر وأسعد الخروج من السيارة. وأخذ مسلحون كانوا في سيارة أخرى يضربونهما بأعقاب الرشاشات وأخذوهما بعيدا. وطُلب مني الخروج من السيارة والتحرك خطوات قليلة تجاه منحدر تلي تعلوه الرمال. وبينما كان أحد الحراس يصوب رشاش كلاشنكوف ناحيتي، أخذ الآخر نظارتي ودفتر ملحوظاتي وقلمي وكاميراتي. وعُصبت عيناي ورُبطت يداي من خلف ظهري وتسارعت نبضات قلبي وأخذ جسدي يتصبب عرقا.

قلت: «صحافيا»، نطقتها بلغة الداري، ثم أردفت بكلمة «سلام» ونطقتها بالعربية. وانتظرت أن يعلو صوت الطلق الناري فقد كنت أعرف أنني قد أقتل. ومع ذلك تمكنت من المحافظة على هدوئي وكانت هذه مفارقة غريبة. وبعد لحظات، شعرت بيد تدفعني من الخلف صوب سيارة، ودفعت كي أرقد على المقعد الخلفي. وبعدها ركب مسلحان اثنان وأغلقا الباب بدفعة قوية وتحركت السيارة للأمام. كان طاهر وأسعد قد ذهبا، وقدرت أنهما قتلا. وتوقفت السيارة بعد نحو ساعتين من القيادة، ورفع الحرس العصابة من على عيني واقتادوني عبر باب أمامي لمنزل بسيط من الطمي والقرميد وسط واد صغير. ووضعت في مكان أشبه بالمرحاض، ولكنه كان صغيرا. وبعد دقائق قليلة فتح الحرس الباب ودفعا طاهر وأسعد إلى الداخل. نظرنا إلى بعضنا بعضا وشعرنا بارتياح، وبعد نحو 20 دقيقة أخرى، فتح أحد الحراس الباب وأشار إلينا كي نمشي في الرواق. وقال: «لن أطلق النار... لن أطلق النار».

وللمرة الأولى في ذلك اليوم، فكرتُ أنه يمكن ألا نقتل. واقتادنا الحارس إلى غرفة معيشة تزينها سجاجيد لها لون أحمر داكن، ووسائد حمراء أيضا. وكان يجلس ستة من الرجال مستندين إلى حائطين من حوائط الغرفة، وكانت رشاشات كلاشنكوف إلى جانبهم. وجلست أمام رجل بدين يرتدي الباتو ـ وهو شال معروف لدى الأفغان، وأحاط الشال بوجهه، وكان يضع على عينيه نظارة شمسية، وكان يرتدي غطاء رأس شتويا أسود اللون، وكان مطرزا في مقدمته كلمة «روك» باللغة الإنجليزية. وقال الرجل: «أنا قائد في حركة طالبان، واسمي هو الملا عتيق الله».

وعلى مدار السبعة أشهر وعشرة أيام تلت، أبقى عتيق الله ورجاله على ثلاثتنا رهائن. أبقي علينا داخل أفغانستان لمدة أسبوع، وبعد ذلك نقلنا إلى منطقة القبائل الباكستانية، وهي المنطقة التي يعتقد بأن أسامة بن لادن مختبئ فيها. ويعمل عتيق الله مع سراج الدين حقاني، وهو قائد أحد أكثر الفصائل تشددا في حركة طالبان. وكان أتباع حقاني وحلفاؤهم يبقون علينا في المنطقة التي يسيطرون عليها في شمال وجنوب وزيرستان. وخلال الفترة التي كنا فيها رهائن، حاولت أن أتناقش مع آسرينا، وقلت لهم إننا صحافيون وكنا قد أتينا كي نسمع رأي حركة طالبان فيما يحدث. وقلت لهم إنني تزوجت أخيرا وإنه لدى طاهر وأسعد تسعة أطفال صغار. وبكيت، آملا في أن يثير ذلك مشاعرهم وتوسلت إليهم كي يطلقوا سراحنا. ولكن، باءت جميع المحاولات بالفشل. وخلال هذه الأشهر، وصلت إلى قناعة وهي أنه على الرغم من قضاء سبعة أعوام من كتابة تقارير صحافية عن المنطقة لا زلت لا أفهم بصورة كاملة مدى التطرف الذي وصل إليه الكثيرون من حركة طالبان. قبل عملية الخطف، كنت أنظر إلى الحركة على أنها تابع لتنظيم القاعدة، وأنها تتحرك بدافع ديني وتركز بالأساس على السيطرة على أفغانستان. وبعد أن عشت جنبا إلى جنب مع عائلة حقاني، علمت أن هدف طالبان المتشددة أكثر طموحا. وبدا أن التواصل مع المسلحين الأجانب في منطقة القبائل كان له أثر على عدد كبير من المقاتلين الشباب التابعين لحركة طالبان. وكانوا يريدون أن يؤسسوا لإمارة إسلامية أصولية مع تنظيم القاعدة. كنتُ قد كتبت عن العلاقات بين الهيئات الاستخباراتية الباكستانية وحركة طالبان عندما كنت أتابع أخبار المنطقة لصالح «نيويورك تايمز». وعرفت أن باكستان غضت الطرف عن الكثير من نشاطاتهم. ولكني فوجئت بما واجهته للمرة الأولى: دولة صغرى لحركة طالبان تزدهر بصورة واضحة ودون مواراة. إن حكومة حركة طالبان التي يفترض أنه تم القضاء عليها عام 2001 بعد غزو أفغانستان لا زالت باقية وتزدهر. ووجدت أنه على امتداد الطرق الرئيسية في شمال وجنوب وزيرستان لا يوجد أحد في نقاط التفتيش التابعة للحكومة الباكستانية ولكن حلت محلها نقاط تفتيش تتبع حركة طالبان يوجد فيها مسلحون شباب يعتقلون أي شخص لا يوجد معه رشاش كلاشنكوف ولا يحمل كلمة السر الصحيحة. وسمعنا صدى تفجيرات شمال وزيرستان حيث تعلّم من يقومون بحراستي ومقاتلون آخرون تابعون لحركة طالبان كيف يمكنهم صنع قنابل تزرع في جانب الطريق ويمكنها قتل جنود أميركيين وتابعين للناتو. ووجدت أن منطقة القبائل، التي ينظر إليها على أنها منطقة فقيرة ومنعزلة، بها طرق وكهرباء وبنية تحتية تضاهي ما يوجد في الكثير من أفغانستان. وفي البداية، ترك من يقومون بحراستي أثرا قويا فيّ، حيث تعهدوا بأن يتبعوا تعاليم الإسلام التي تلزم بمعاملة السجناء بصورة جيدة. وبالنسبة لي، قاموا بذلك بصورة واضحة، فقد أعطوني زجاجة مياه وتركوني أتمشى في فناء صغير كل صباح ولم يضربوني مطلقا. ولكنهم كانوا ينظرون إليّ ـ وأنا مسيحي غير ملتزم ـ على أنّي نجس دينيا وطلبوا منّي أن استخدم زجاجة مياه شرب مستقلة كي يقوا أنفسهم من الأمراض التي يعتقدون بأنها تكون موجودة لدى الملحدين. وكان لدى من أسروني الكثير من الأفكار الخاطئة عن الغربيين. ولكني رأيت أيضا كيف أن بعض سياسات مكافحة الإرهاب التي اتبعتها واشنطن كان لها نتائج ساعدت على تعزيز حركة طالبان، فقد ركز قادة الحركة على مقتل مدنيين أفغان وعراقيين وفلسطينيين في الهجمات الجوية العسكرية، واعتقال الأميركيين لسجناء مسلمين لمدة أعوام دون توجيه تهم لهم. وقالوا إن أميركا وأوروبا وإسرائيل يروجون للديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة في العالم الإسلامي ولكنهم لا يطبقون هذه المبادئ على أنفسهم. وخلال فترة الأسر ارتكبت أخطاء عدة، ففي محاولة من أجل إنقاذ حياتنا في الأيام الأولى بالغت فيما يمكن أن تحصل عليه حركة طالبان كفدية مقابلنا. وفي رد فعلهم، قدموا مطالبا غير معقول، حيث طلبوا في إحدى المرات 25 مليون دولار وإطلاق سراح سجناء أفغان من معتقل غوانتانامو بكوبا. وعندما رفضت عائلتي وجهة عملي ذلك قالوا إنه «لا قيمة» لي. وكان طاهر وأسعد في منزلة أقل، فقد كان الحراس يوبخونهما بصورة مستمرة للعمل مع صحافيين أجانب، وهددوهم بالقتل أكثر من مرة. ولم يكن ذلك جديدا، ففي عملية خطف سابقة لصحافي إيطالي وزملاء أفغان، قامت حركة طالبان بإعدام السائق الأفغاني للضغط على الحكومة الإيطالية كي تلبي مطالبهم. وعلى الرغم من الخطر المحدق، حارب طاهر كأسد جسور، وتحدث للمختطفين ساعات وهدد بانتقام قبيلته الأفغانية التي تتمتع بالقوة في محاولة لمنع حركة طالبان من إيذائنا. وأصبحنا أصدقاء مقربين، وكنا نشجع بعضنا بعضا. وقاتلنا معا من حين لآخر. ولكن في جميع الأوقات، كانت هناك حقيقة كئيبة يعلمها ثلاثتنا وهي أن أسعد وطاهر سوف يكونان أول من يموتا ففي أفغانستان وباكستان ما بعد 11 سبتمبر (أيلول) لا تتساوى الأرواح. ومع مرور الأشهر، أصبحت أكره آسرينا بدرجة كبيرة، وكنت أنظر إلى عائلة حقاني على أنها عصابة مجرمة تتظاهر بأنها حركة دينية تقية. وكانوا يصفون أنفسهم بأنهم أتباع الإسلام الحق ومع ذلك ظهرت عليهم أمارات الطمع والخيانة. وكانت الخيانة الأكبر من عتيق الله نفسه. وفيما يلي قصة أسري، لم أدون ملاحظات عندما كنت سجينا، وجميع ما أصفه يأتي من ذاكرتي وبعض ما احتفظت به عائلتي وزملائي. والاقتباسات المباشرة ممن أسرونا تعتمد على ترجمة طاهر. وبالطبع، فإن لملمتنا لأطراف الموضوع غير مكتملة، وربما كان لعامل الوقت أثره. وسوف يتم الاحتفاظ بتفاصيل وأسماء معينة لأسباب أمنية. كان الوقت الذي قضيناه كسجناء فترة محيرة، ومما ربط على قلبي مكالمتان تليفونيتان وخطاب من زوجتي. ودائما ما كنت أحث نفسي وطاهر وأسعد على التريث والتحلي بالصبر. وبحلول يونيو (حزيران)، وهو الشهر السابع الذي نقضيه في الأسر، أصبح واضحا بالنسبة لنا أن آسرينا لا يتفاوضون بجدية من أجل إطلاق سراحنا. فقد كان كبرياؤهم ونفاقهم لا حدود له، وكانت الخيانة في طبعهم. وكنا ننظر إلى محاولة الهرب على أنها الخيار الأخير الذي لا يحتمل نجاحه وأنها محاولة طائشة لا يحيط بها سوى مقدار قليل من النجاح. ومع ذلك كنا نبغي المحاولة. ولدهشتنا، نجحت محاولتنا هذه. كنت قد وصلت في 26 أكتوبر (تشرين الأول) 2008 إلى أفغانستان في رحلة صحافيين تستغرق 3 أسابيع من أجل كتاب كنت أكتبه عن فرص تحقيق استقرار في المنطقة. وكنت قد قمت بتغطية أخبار أفغانستان وباكستان منذ عام 2001، وكانت شجاعة وكبرياء شعبي هاتين الدولتين مصدر إلهام بالنسبة لي وبدا أن لديهم رغبة في تكوين مجتمعات معتدلة عصرية. وكان الجزء الأول من زياتي محبطا، فقد قضيت أسبوعين في محافظة هلمند جنوب أفغانستان وفوجئت بالدعم الشعبي المتنامي لحركة طالبان، فقد كانت توقفت جهود التنمية الاقتصادية على مدار سبعة أعوام وكان وجود القوات الأجنبية وأخطاء عسكرية أدت إلى مقتل مدنيين سبب حالة غضب واسعة النطاق من القوات الأميركية وقوات الناتو. وكي يتميز الكتاب بالموضوعية والدقة، رأيت أني في حاجة إلى الحصول على رأي حركة طالبان في الوضع. وعرفت أن ذلك يعني الدخول في مخاطرة محسوبة، وهو قرار يتخذه صحافيون في وقت ما لجعل التقرير الصحافي أكثر دقة. وكنت على علم بالمخاطر المحتملة، ففي عام 1995 سجنت لمدة 10 أيام عندما كنت أغطي الحرب داخل البوسنة، حيث ألقت السلطات الصربية القبض علي بعد أن اكتشفت مقابر جماعية لأكثر من 7000 رجل مسلم تم إعدامهم في مدينة سربرنيتشا. وكان اعتقالي عذابا لعائلتي. وبعد وعد بعدم تعريضهم لمثل هذه المحنة مرة أخرى توخيت الحذر خلال الثلاث عشرة عاما التي تلت. وسافرت من هلمند إلى كابل يوم الأحد 9 نوفمبر (تشرين الثاني) لمقابلة طاهر لودن الذي عمل لصالح «تايمز أوف لندن» وكان معروفا بأنه يمكن أن يرتب مقابلات مع حركة طالبان. وبعد إجراء بعض الاستفسارات، قال طاهر لي إن هناك قياديا في حركة طالبان يدعى أبو طيب يوافق على إجراء مقابلة في اليوم الذي يلي داخل محافظة لوغار. ويمكن أن نقابله بعد قيادة السيارة لمدة ساعة في طرق ممهدة في قرية قريبة من قاعدة عسكرية أميركية. وكان طاهر قد أجرى مقابلة بالفعل مع أبي طيب بصحبة صحافيين أجنبيين آخرين وقال إنه يثق فيه. وقال إن أبا طيب يتحالف مع فصيل معتدل من حركة طالبان يتخذ من مدينة قوتا الباكستانية مقرا له. وقال إن الخطر يكمن في المسافة التي سوف تقطع بالسيارة. وأضاف لي: «لا يوجد شيء مضمون 100 في المائة. سوف تموت مرة واحدة فقط».

وشعرت بالقلق، ولكن إذا أجريت المقابلة فإن الجزء الأكثر خطورة في الكتاب قد انتهى. ويمكن أن أعود إلى وطني ولدي شعور بأنني قمت بكل شيء يمكن أن أقوم به من أجل فهم هذه الدولة. قلت لطاهر: «موافق. أخبره بالموافقة».

وفي تلك الليلة، تناولت العشاء مع كارلوتا غال، وهي صديقة عزيزة ورئيسة لمكتب «نيويورك تايمز» في كابل وسألتها عن رأيها في المقابلة وهل ترى أنها فكرة مجنونة. وقالت كارلوتا إنها لم تشعر يوما بالحاجة إلى إجراء مقابلة مع أعضاء حركة طالبان وجها لوجه وأنها تفضل المحادثات عبر الهاتف. وأوصت بأن نستعمل سائقا أفغانيا كي يكون حارسا وألا تتجاوز المقابلة ساعة من الزمن. وقابلت أيضا صحافية فرنسية كانت أجرت مقابلتين مع أبي طيب بصحبة طاهر، ففي خريف عام 2007 قضت يومين تصوره ورجاله وهم يتدربون. وفي صيف عام 2008، قضت الصحافية ليلة أحد الأيام معه وصورت هجوما على مركز للشرطة. وأشارت إلى أن الأمر سوف يكون فيه خطورة أكبر حيث إني أميركي، ولكنها قالت إنها لا تعتقد بأن أبي طيب سوف يخطفنا، وأضافت أنها ترى أنه يحاول استخدام وسائل الإعلام كي يوصل رسالة حركة طالبان. ونمت قليلا في الليلة التي سبقت موعد المقابلة، وقمت من فراشي باكرا وارتديت سروالا داخليا أعطته زوجتي لي في عيد الحب كتب عليه «أحبك»، آملا في أن يجلب لي ذلك حظا سعيدا. وتركت رسالتين، إحداهما تطلع كارلوتا على مكان المقابلة وتطلب منها الاتصال بالسفارة الأميركية إذا لم أعد قبل العصر. وكانت الرسالة الأخرى إلى زوجتي كريستن في حال وقع شيء ما.

وبعد ذلك، خرجت وقابلت طاهر وأسعد مانغال، وهو صديق استأجره طاهر للعمل كسائق وحارس. وبينما كنا نقود السيارة، اقترح طاهر الدعاء بأن يحفظنا الله آمنين في رحلتنا هذه. وقمنا بذلك. وارتديت ملابس أفغانية وجلست في المقعد الخلفي، ووضعت وشاحا على وجهي كي لا يتعرف عليّ اللصوص ويعرفوا أني أجنبي حيث إن معظم عمليات الخطف في كابل وحولها تقوم بها عصابات مجرمة وليست حركة طالبان. ومن السيارة، أرسلت إلى كارلوتا رسالة نصية بها رقم تليفون أبي الطيب، وطلبت منها الاتصال به إذا لم اتصل بها. وقدرت أنه إذا وقع شيء ما في الرحلة، سوف يقوم أبو الطيب ورجاله بإنقاذنا، فطبقا للتقاليد الأفغانية يتم التعامل مع الضيوف بكرم لا نظير له، وإذا تعرض ضيف لتهديد فواجب على المضيف أن يحميه وينقذه. ووصلنا إلى مكان اللقاء في قرية كان يهيم فيها المزارعون والحمير في الطرقات، ولكن لم يكن أي من رجال أبي الطيب هناك. واتصل طاهر بأبي الطيب الذي طلب منا أن نمضي إلى نهاية الطريق. وبعد لحظات، شعرت أن السيارة تنحرف يمينا وتقف. واتجه مسلحان اثنان ناحية سيارتنا وقالا أوامر بلغة البشتو، وهي اللغة المحلية. وقام المسلحان بفتح البابين الأماميين وطلبا من طاهر وأسعد التحرك إلى المقعد الخلفي. وصرخ طاهر في الرجلين بلغة البشتو بينما كانت السيارة تمضي إلى أسفل الطريق. وتعرفت على كلمتين فقط وهي «صحافيين» و«أبي الطيب». ولكن صرخ الرجل الجالس في مقعد الراكب الأمامي ولوح بمسدسه متوعدا. كان صغير الجسم له شعر أسود ولحية قصيرة، وبدا عليه التوتر.

كنت آمل أن يكون هناك خطأ ما، وأملت في أن يتصل المسلحون بأبي الطيب الذي سيشهد لصالحنا ويأمر بإطلاق سراحنا. بيد أنه بدلا من ذلك استمرت سيارتنا في السير على الطريق تتبع السيارة الصفراء التي تسير أمامنا. وصاح المسلح الجالس على مقعد المسافر بمزيد من الأوامر. أخبرني طاهر أنهم يريدون هواتفنا الجوالة ومتعلقاتنا الأخرى وقال لي طاهر: «إذا اكتشفوا أننا أخفينا هاتفا فسوف يقتلوننا». قلت لطاهر أخبره «أننا صحافيان، وأننا هنا لإجراء مقابلة مع أبي الطيب».

نقل لهم طاهر ما قلته لكن ما لبث السائق، ضخم الجثة وصاحب اللحية الكثة، أن بدءا في الضحك وقال: «من هو أبو الطيب؟ أنا لا أعرف أحد بهذا الاسم. فأنا القائد هنا». اعتقدت بأنهم ربما يكونون إما لصوصا أو فصيلا آخر من طالبان، فأنا أعلم أن طالبان تتحالف مع بعض القادة المحليين الذين يقومون بعمليات مستقلة.

نظرت إلى المسلحين في المقعد الأمامي، وفكرت أننا إذا ما تمكنا من السيطرة عليهما فإن الرجال في السيارة الأمامية سيطلقون علينا الرصاص، لذا لم أرغب في التسبب في قتل أسد وطاهر، فقد انتهى اعتقالي في البوسنة بصورة سلمية بعد عشرة أيام، وفكرت بأن ذات الأمر يمكن أن يحدث هنا. وقال أحد المسلحين شيئا فقال لي طاهر: «إنهم يرغبون في أن يعرفوا هويتي». ترددت وسألت نفسي عما إذا كان يجب أن أقول لهم أنني كندي، فالكشف عن هويتي الأميركية كان كارثيا، لكني فكرت في أن الكذب ربما يكون أسوأ، فإذا ما علموا لاحقا أنني أميركي فسوف يعلنون في الحال أنني جاسوس. فقلت لطاهر: «قل لهم الحقيقة. أخبرهم أنني أميركي». نقل طاهر ردي وابتسم السائق الضخم ولوح بقبضته وقال في نبرة غاضبة باللغة البشتونية ترجمها لي طاهر: «إنهم يقولون إنهم سيبعثون برسالة دموية إلى أوباما». وفي نهاية اليوم التقيت وجها لوجه بزعيم خاطفينا عتيق الله، لكني لا أذكر حتى اليوم اسم فصيل طالبان الذي خطفنا. كان عتيق الله رجلا ضخم الجثة ذا شعر أسود قصير يتدلى من تحت قبعته، وكان واثقا من نفسه ومن رجاله، لكنه كان متشككا تجاهنا وهو الأمر الذي أثار قلقي، فأنا اعلم أن جميع فصائل طالبان يعتقدون بأن الصحافيين جواسيس.

ومن خلال قيام طاهر بالترجمة لنا قلت لهم إنني تلقيت دعوة من إقليم لوغار لإجراء مقابلة مع أبي الطيب القائد في طالبان. وقلت أيضا إنني عملت كمراسل لـ«التايمز» في جنوب آسيا في الفترة من 2002 إلى 2005 وتحدثت معهم عن المقالات التي كتبتها خلال حرب البوسنة وأخبرته أن الصرب الأرثوذوكس اعتقلوني هناك بعد أن نشرت المذابح التي تعرض لها المسلمون هناك.

لم تفلح تلك المحاولات في التأثير في عتيق الله ورفض طلبنا باستدعاء أبي الطيب أو المتحدث باسم طالبان. وسلمني المفكرة والقلم اللذين أخدهما مني المسلحون وأمرني بأن أبدأ بالكتابة.

وقال لي إن الجنود الأميركيين دأبوا على إهانة الرجال والنساء الأفغان، وقد أجبروا النساء على الوقوف أمامهن دون البراقع، وفتشوا المنازل دون إذن من أحد، وأجبروا الرجال الأفغان على الرقود على الأرض ووجوههم في التراب ووضعوا أحذيتهم على رؤوسهم ليمرغوا وجوههم في الوحل. ونظر إلى الولايات المتحدة على أنها محتل حاقد.

التقط عتيق الله بعد ذلك أحد هواتفنا الجوالة قائلا إنه يرغب في إجراء مكالمة مع مكتب «التايمز» في كابل. أعطيته الرقم وتحدث بصورة موجزة مع أحد الصحافيين الأفغان هناك. وسلمني الهاتف كان على الطرف الآخر كارلوتا مدير مكتب كابل وقلت له إننا أخذنا كرهائن لدى طالبان.

سأل كارلوتا: «ما الذي يمكن أن نفعله»، لكن عتيق الله جذب الهاتف مني قبل أن أجيب. ولم يبد كارلوتا ـ أشجع صحافي قابلته ـ غير متوتر على الإطلاق. أغلق عتيق الله الهاتف ونزع بطاريته وقال إننا سننتقل تلك الليلة لأسباب أمنية. خفق قلبي بشدة وتمنيت أن يسمح لي بصورة ما بالاتصال بأبي الطيب وأن يحررونا قبل دخول الليل. وخلال فترة انتظارنا في المنزل اعتقدت بأن كارلوتا سيتصل بعائلتي والمدير في أي لحظة ليخبرهم بأنني اختطفت. استيقظت قبيل الفجر على أصوات الحراس وهم يقيمون الليل ومعهم طاهر وأسد، ثم انتقلنا بعد ذلك إلى منزل صغير قذر قضينا فيه النهار في غرفة واحدة مع ثلاثة من الحراس وكان اتساع الحجرة حوالي 20 قدما في 20 قدما كان الأثاث الوحيد بها سجادة على الأرض وأكثر من عشرة بطاطين.

قدم لنا أحد الحراس نفسه قائلا إن اسمه قارئ، وهو ترجمة للاسم العربي الذي يعني حافظ القرآن الكريم، وقال فيما بعد إنه أحد الفدائيين، وهو مصطلح عربي بالنسبة لطالبان يعني الانتحاريين. كان الطعام يصل في أوقات الوجبات ولم يتعرض أحد للضرب، غير أن طاهر بدا واضح القلق، فقال لي: «إن هؤلاء الأشخاص متدينون جدا، إنهم يصلون كثيرا».

ونظرا لمكوثي بالغرفة غالبية اليوم وجدت الأمر مثيرا للاختناق، وعندئذ تأكدت من أن عائلتي قد علمت بالخبر. بعد عدة ساعات من غروب الشمس دفعنا إلى ركوب السيارة. وقال عتيق الله، الذي كان يجلس في مقعد السائق، ولا يزال يخفي وجهه خلف وشاح: «يجب أن نتحرك لأسباب أمنية، فالمقاتلون العرب وطاقم قناة الجزيرة في طريقهم إلى هنا. إنهم سيفصلون رؤوسكم عن أجسادكم، لذا يجب أن أخرجكم من هنا».

وبينما كنا نمضي في طريقنا طلبت منه الإذن بالحديث، فوافق وأخبرته أننا قيمتنا كأحياء تفوق قيمتنا كأموات، وسألني عما يمكنه أن يفعل بنا. ترددت وكنت غير متأكد مما سأقوله، فقد كنت متشككا في إمكانية بقائنا أحياء.

علمت أنه في عام 2007 قامت الحكومة الأفغانية بمبادلة خمسة من مقاتلي طالبان بخمسة صحافيين إيطاليين بعد أن أعدموا سائقهم وأعقبوه بقتل مترجمهم أيضا. لكن ذاكرتي بشأن التبادل كانت غامضة، لكني اعتقدت بأن المال كان يمكن أن يدخل ضمن الصفقة، ففي أغسطس (آب) من عام 2007 قالت حكومة كوريا الجنوبية إنها دفعت 20 مليون دولار مقابل إطلاق سراح 21 من موظفي إرسالية كورية بعد أن قتلت طالبان اثنين من بين أفراد المجموعة.

وقلت: «مال وسجناء». فسأل عتيق الله: «كم من المال؟» ترددت مرة ثانية. وقلت في الحال معتقدا بأنني سأندم على تلك العبارة: «ملايين». نظر عتيق الله وأحد قادته إلى بعضهما بعضا. واستمرت المحادثة على مدار الساعة التالية ووعد عتيق الله بأن يبذل جل جهده لأن يحمينا ووعدته بالمال والسجناء. وبينما نشق طريقنا عبر الممرات الجبلية المنحدرة سأل عتيق الله عن أسماء ومهنة والدي وإخوتي وأخبرته الحقيقة واعتقدت بأن بمقدوره الوصول بسهولة إلى أقاربي عبر الإنترنت. قلت له إن والدي بائع وثائق تأمين متقاعد وأن أحد إخوتي يعمل لدى شركة استشارات طيران، وأخ غير شقيق يعمل في بنك. واعتقدت بأن إخباره بالحقيقة كان السبيل الأمثل للمساعدة في إقناعه بأنني صحافي ولست جاسوسا.

على مدار الأيام الأربعة التالية عشت مع قارئ، الاستشهادي في غرفة صغيرة قذرة. وفي ظهيرة أحد الأيام سمح لنا بالجلوس خارج الغرفة في الساحة الصغيرة.

* خدمة «نيويورك تايمز»