البحرين: آثار تاريخية تتعرض للهدم في وضح النهار.. وعجز عن محاسبة المقصرين

نائب: 5 آلاف تل أثري هي ما تبقى من مجموع 170 ألفا

وزيرة الإعلام البحرينية خلال زيارتها لتفقد الانتهاك الذي تم على قنوات الري الإسلامية («الشرق الأوسط»)
TT

تستمر معاناة آثار البحرين بتاريخها العريق الذي يمتد لآلاف السنين، في ظل تعديات لا تتوقف على مواقع أثرية ربما كانت فريدة من نوعها في العالم. إلا أن هذه الآثار لا تزال تنزف وتدمر شيئا فشيئا، مما تسبب في غضب عارم من قبل وزيرة الثقافة والإعلام البحرينية الشيخة مي آل خليفة، التي زارت أخيرا على نحو عاجل موقع قنوات الري القديمة بعد اكتشافها أن هذا الموقع الأثري التاريخي تعرض وببساطة لانتهاك وتعد في وضح النهار، وعلى مرأى ومسمع من الناس أجمعين، لكن المراقبين في البحرين يعلمون أن هذا الانتهاك لم يكن الأول، وبالتأكيد لن يكون الأخير.

ولعل الطريقة التي تم بها تخريب موقع أثري تحلم دول كثيرة بامتلاك جزء منه تنبئ بالطريقة التي يتم التعاطي بها مع الآثار التاريخية في البحرين، فما حدث أن الجرافات والشاحنات دخلت عنوة إلى موقع قنوات الري الإسلامية دون إذن مسبق، مع أن المكان مسور بالخرسانة، وقامت الشاحنات باستخراج كميات كبيرة من الأتربة الأثرية إلى خارج الموقع على نحو أدى إلى تخريب جزء كبير من هذا الموقع الأثري والقضاء على معالمه التاريخية، وهو عمل بالتأكيد لم يراع حرمة المنطقة الأثرية، ولا يجوز تنفيذه دون اللجوء إلى الجهة المختصة بالموافقات على أي استحداث أو توسع أو صيانة في المناطق الأثرية. وهو متعارض مع المادة (6) من قانون حماية الآثار.

وقد شكلت ظاهرة قنوات الري القديمة، والتي كانت تعرف قديما بمسمى (المثاقيب)، عنصرا متميزا ومكانة مهمة على الخريطة الأثرية في مملكة البحرين، وهي تنفرد بنظام معماري فريد في هندسة شبكات الري التاريخية القديمة، ليس في البحرين فحسب، بل في المنطقة بشكل عام، وقل أن يوجد لها نظير في العالم. وهي بالتالي معلم من أبرز المعالم الأثرية التي تمثل المرحلة الإسلامية المبكرة في المملكة.

وزيرة الثقافة والإعلام البحرينية (الثقافة والتراث والآثار مسؤولية وزارة الإعلام في البحرين)، تساءلت باستغراب «هل يعقل أن نحصل على ثقة المجتمع العالمي بحمايتنا للآثار وتقدير أهميتها وصونها، في حين يجهل بعض المواطنين والمسؤولين أهمية الآثار في بلدنا؟»، معتبرة ما حدث «تعديا صريحا وواضحا على ما تحتويه البحرين من كنوز تراثية، هذا بالإضافة إلى التعرض المعنوي لهذا الموقع والمساس بهوية هذا الوطن التي نتمسك بها»، مضيفة «ربما تكون ثروتنا الحقيقية في البحرين هي هذه المواقع، والمحافظة على هويتها وحمايتها هي واجب على الجميع».

وتقول مصادر رسمية إن الأعمال التي تمت في هذا الموقع الأثري تمت بتوجيهات من قبل رئيس أحد المجالس البلدية التابعة لها المنطقة، ومن أصدر هذه التعليمات هو عضو تابع لجمعية الوفاق الوطني الإسلامية، كبرى جمعيات المعارضة في البحرين، حيث كان العضو البلدي ينوي إقامة مشروع خدمي لأهالي المنطقة. وفي الوقت ذاته اعترف المجلس البلدي للمنطقة الشمالية بانتهاكه للموقع الأثري، لكنه قال أيضا إن الأرض تابعة للبلدية ولا يوجد ما يشير إلى أنها آثار.

وفقا للكتابات التاريخية فإن أهمية البحرين المستمرة كمركز تجاري يعود الفضل فيها إلى وجود المياه العذبة بها بكثرة، ففي الماضي كان ري الأراضي يتم عن طريق آبار سطحية وقنوات تحت سطح الأرض. وهاتان الطريقتان اللتان كانتا من صنع الإنسان سهلتا عملية توزيع الماء بشكل واسع إلى مناطق من الجزيرة، وهو ما سمح للزراعة وتخضير المسطحات بأن يتما ويكسبا البحرين جانبا من طبيعتها وهويتها، وهو ما لم يكن ليحدث لولا وصول المياه بواسطة هذه القنوات.

ويعتقد أن نظام القنوات في البحرين يرجع إلى فترة ما قبل الإسلام، لأنه ورد ذكر لمعركة جرت في القرن السابع الميلادي بالقرب من قرية الدراز، حيث تم خلالها استخدام القنوات الجوفية، مما يدل بشكل واضح على أن الإشارة كانت إلى تلك القنوات.

والقنوات الإسلامية للري عبارة عن طرق مائية جوفية أو شبكية من الأنفاق التي يعتقد أنها واحد من أقدم وأكثر الاختراعات الإنسانية نفعا، وحيث إنها محفورة بأكملها وليست مبنية فوق الأرض لذلك لا نستطيع أن نطلق عليها بناء.

والقنوات عبارة عن أنفاق للماء تحت الأرض, تم حفرها باليد وغالبا ما تجري على عمق عشرين قدما وأكثر تحت سطح الأرض، وتمتد لأميال كثيرة، وذلك من المنحدرات السفلى لتلال البحرين الوسطى، إلى الأراضي المنخفضة على الساحل الغربي.

غير أن النائب عن كتلة الوفاق وعضو لجنة المرافق العامة والبيئة بمجلس النواب عبد الله العالي، رد سريعا على تصريحات الوزيرة البحرينية، عندما قال أمس «إن المتنفذين الذين اعتدوا ويعتدون على تلال عالي الأثرية وآثار البحرين الأخرى ودمروها يستدعون محاكمتهم هم والمتورطين معهم، وليس فقط من تعدى على إحدى قنوات الري القديمة ربما عن غير معرفة، في ظل عدم الاهتمام بقيمة وأهمية التراث»، وذلك في إشارة إلى عملية التعدي التي تعرضت لها القنوات الإسلامية للري.

وكان لافتا ما قاله النائب البحريني الذي كشف أن «ما بقي من أكبر مقبرة في العالم (مقبرة عالي) والتي تحتضنها البحرين لا يزيد على 5 في المائة من مساحتها، وقد بحت أصواتنا من ضرورة تحديد مساحة منها وإقامة متاحف مفتوحة تحكي تراث وحضارة المنطقة، لكننا لم نجد إلا الوعود، ومع إيماننا وقناعتنا بتحرك الوزيرة للحفاظ على ما تبقى، فإننا نخشى أن تضعف أمام قوة المتنفذين الذين استطاعوا إزالة أكثر من 170 ألف تل أثري، لتبقى 5 آلاف تل تصارع التعديات للحفاظ على آثار البحرين وحضارتها».

وهدد العالي بالتصعيد وطالب الأجهزة القضائية بتحمل مسؤولياتها في حفظ تراث البحرين وهويتها، مطالبا وزارة الثقافة والإعلام باستصدار القرارات المناسبة والقوانين التي تحفظ ما تبقى من تلال عالي وغيرها من الآثار في مناطق المملكة المختلفة.

وتابع العالي: «ليس مستغربا أن تتعرض إحدى قنوات الري الإسلامية في مدينة حمد للانتهاك والتجريف، في الوقت الذي لم تنقطع فيه الجرافات عن تدمير ما تبقى من تلال ومواقع أثرية في مختلف أنحاء المملكة».

وأشار العالي إلى أن «الحكومة في ردها على مقترح مجلس النواب الذي قدمته مع بعض الأراضي الأثرية في البحرين، وتسجيلها وتطويرها واستثمارها ومنع التعدي عليها واستعادة ما يمكن من آثار ثابتة ومنقولة للدولة، جاءت لتؤكد ما هو حاصل قبل السؤال»، مؤكدا أن هدف الرغبة متحقق على أرض الواقع، فليس هناك من حاجة إلى عمل إضافي في هذا الشأن، فلا داعي للحجز أو الحراسة أو الحماية والاستثمار مع ما تتم معاينته من تدمير.

وأردف العالي: «يبدو أن حماية هذه الآثار تحتاج إلى ثقافة وإيمان بأهميتها التاريخية والحضارية وكونها عنصرا من عناصر التنمية المستهدفة، وما نلمسه اليوم من ممارسات على أرض الواقع تؤكد خلاف ذلك، فالأصوات تتعالى لهدم ما تبقى من تراث وآثار، والجرافات لم يمنعها مانع، والمتنفذون لم يردعهم رادع».

ولفت إلى أن «ما تشهده البحرين من تدمير لآثارها والسكوت عليه جريمة، فلا الآثار ولا التلال ولا المدافن ولا المعابد والمساجد وقنوات الري سلمت، ولا الأهالي استفادوا من تجريفها، وعبارة الأرض أثرية صادرت فقط حقوق الأهالي في الحصول على قسيمة لا تتعدى مساحتها 3000 قدم مربع، في حين أزيلت مئات التلال والمواقع والآثار من أجل عين متنفذ أو أكثر».

وشدد النائب البحريني على ضرورة «الإسراع بعمل المتاحف المقترحة وتطوير المناطق الأثرية لإقناع الناس بأهميتها وفائدتها وقيمتها التنموية، ولا مانع من تخصيص ما تبقى من أراض لتوزيعها قسائم على المواطنين أو إقامة مبان سكنية تتواءم مع مشروع تطوير المناطق الأثرية لتكون جزءا منها».

من جهته، يقول وكيل وزارة الثقافة والإعلام البحرينية محمد أحمد البنكي، إن ما وقع هو شكل من أشكال الانتهاك الصارخ لموقع من المواقع الأثرية في البحرين وهو تحت ملكية وزارة الثقافة والإعلام «ولكن، للأسف، تم تجاوز التسوير والإجراءات والاستئذان من الجهة صاحبة الاختصاص في الموضوع وتم تجريف المكان.. إنه مكان فريد من العالم وينبغي كشف كل أبعاد القضية، فهناك دور للسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، فهذه القنوات الإسلامية أثر فريد في دول العالم، وهي قليلة بالنسبة لنظيراتها الموجودة في الدول الأخرى، ولا يمكن إرجاعها وتعويضها أو إعادتها، مما يعد رأس مال رمزيا لهوية البلد، وها هو اليوم يدمر».

خبير الآثار بمنظمة اليونسكو بوزارة الثقافة والإعلام كريم هندلي، يشير إلى أن هذا الموقع، وهو القنوات الإسلامية، هو موقع مهم من تراث البحرين، وله علاقة بالهوية «وهو ما يبقى للشعب البحريني عبر الزمن، وأن له دورا مهما جدا للتعريف بفترة مهمة من التطورات التي شهدتها البحرين والتحكم بموارد المياه فيها، وما ذهب لن يعود»، مضيفا «منذ وجودي في البحرين منذ سنتين ونصف السنة كمستشار لمنظمة اليونسكو للتراث العالمي والثقافة أسمع كثيرا أن هناك تعارضا بين التطور والآثار، ولكنني أؤكد أنه ليس هناك تعارض، فالآثار موجودة بوجود التطور، وبالإمكان وجود حل لانسجام التطور العمراني والإسكاني، لكن يحتاج الأمر إلى تنسيق وتعاون».

وليس هناك ثمة أي صعوبة في تتبع تلك القنوات الجارية تحت سطح الأرض. فعلى بعد كل خمسين مترا يقوم ثقب أو مدخنة حجرية تصل ما بين السطح وتلك القنوات، وتقف رؤوس تلك الأعمدة المجوفة ناتئة فوق الأرض بارتفاع يتراوح ما بين قدم وأربعة أقدام. وبذلك تتشكل خطوط طويلة تتقدم بعناد عبر المسافات.

وتنتشر القنوات المائية بشكل ملحوظ في المناطق الشمالية والشمالية الغربية من المملكة البحرينية، حيث يوجد الحزام الأخضر. وما زالت بقايا الأبراج الدائرية (المثاقيب) والتي تمثل ما يطلق عليه (المداخن) ظاهرة للعيان، ومنتشرة في مناطق مختلفة منها سار والجنبية ومدينة حمد وكرزكان وصدد ودار كليب وغيرها. وتقول وزارة الثقافة والإعلام إنها بذلت جهدا متواصلا في حماية تلك القنوات عن طريق استملاك الكثير منها من أجل المحافظة عليها وعمل الصيانة الدورية لها، كما تم وضع السياج (الإسمنتي والحديدي) اللازم لحمايتها من العبث والتدمير الذي يلحق بها نتيجة الزحف العمراني تارة، والتخريب المتعمد تارة أخرى (كما حدث أخيرا). وتؤكد الوزارة أن الاعتداء الأخير على أحد هذه المواقع التي تضم مجموعة من القنوات هو خرق لقانون الآثار، وسبب في خسارة موقع مهم من المواقع الأثرية ومعلم بارز من المعالم السياحية.

وكانت هذه القنوات قديما تمثل الشريان الحيوي الذي يغذي الإنسان والزراعة على حد سواء، وقد كان المزارعون في الماضي يروون مزارعهم على الساحل الغربي بواسطة مجموعة من القنوات الأرضية، وما زال بعض هذه القنوات صالحا للاستعمال، غير أن معظمها قد أهمل فجف وأصبح في حالة لا تصلح لذلك.

ويعتقد أن كلمة قناة هي كلمة مشتقة من السامية والتي تعني (يحفر)، وتنتشر القنوات في كل من إيران وأفغانستان ومصر وعمان، ويعتقد أن مدينة نينوى في العراق هي أقدم المواقع التي كانت تحصل على الماء بطريقة هذا النظام.

وتشكل قنوات الري تجسيدا حيا للماضي الذي شكل عراقة البحرين في العصور الإسلامية، ومنحها طبيعتها الزراعية الخضراء. وهي شواهد عن أيام مضت لها أهمية حيوية في التعبير عن الإنسان في البحرين، وأساليب معيشته اليومية، وطريقة حياته، وتعامله مع الظروف الطبيعية. وهي لذلك أثر فريد ونادر لا يعوض.

وما بين عجز السلطات الثلاث عن التدخل لإيقاف نزيف العبث بكنوز أثرية تاريخية، والتجاذب بين الحكومة والمعارضة حول من هو المسؤول، تستمر آثار البحرين في التلاشي شيئا فشيئا، وأكثر ما يخشى سكان مملكة دلمون أن يصحوا يوما ليجدوا أن تاريخهم وآثارهم انتهت بلا رجعة، فأكبر مقبرة في العالم، وهي مقبرة عالي، تعد أكبر شاهد على أن الآثار مهما كانت قيمتها قد تتلاشى، أو على الأقل تختفي قيمتها التاريخية.