إندونيسيا في مواجهة ماليزيا: حرب الثقافة والتقاليد

البلدان الجاران يتشاركان في سمات كثيرة ولكن الصراع الثقافي بينهما يحتدم مؤخراً

TT

على امتداد عقود، كانت أوني هيستايانتي تؤدي حركات مبهمة في رقصة تقليدية في بلادها تعرف باسم «بنديت بنديت». وقد تعلمت إيقاع هذه الرقصة في طفولتها، وافتتحت منذ عدة سنوات مطعما في العاصمة الاندونيسية جاكرتا يتضمن تقديم عروض فنية. واعتادت ارتداء أزياء تقليدية تخص وطنها أثناء العروض التي تؤديها كل ليلة. وفي الأوقات التي كانت ترفرف بذراعيها مثل الطيور، وتطلق عيناها نظرات حادة وتميل رأسها بزوايا غريبة، كانت تعكس بذلك الروح الودودة المميزة لجزيرة بالي ذات الأغلبية الهندوسية، موطن الرقصة. ولذلك، فقد انتابها غضب شديد عندما سمعت أن ماليزيا جارتها، تحاول الاستيلاء على رقصة «بنديت» باعتبارها تخصها. وقالت هيستايانتي، إن «هذا الأمر يعتبر قرصنة ثقافية محضة». وقالت وهي تضع مساحيق التجميل، داخل غرفة الملابس الواقعة خلف خشبة المسرح القائم في مطعمها، إن «الرقصة تشكل رمزا لتراثنا، وليس تراثهم. إذا كنت تملك شيئا وحاول شخص سرقته منك، تعمل على استعادته». الواضح أن هاتين الدولتين المتجاورتين واللتين تنتمي غالبية سكانهما إلى المسلمين، وتتشاركان في سمات ثقافية وجغرافية، يحتدم بينهما صراع في الوقت الراهن على النفوذ والتفوق. والملاحظ أن الصدع بينهما يتسع هذه الأيام على نحو خاص. يحمل الصراع طابعا ثقافيا وسياسيا، وبات مؤخرا شخصيا. ينظر الكثير من الماليزيين إلى الأرخبيل الإندونيسي كمصدر للخادمات العاملات في المنازل من المرتبة الدنيا، والعاملين بباحات الانتظار المخصصة للسيارات والمطاعم ممن يعملون في كوالالمبور والمدن الماليزية الأخرى. من جانبهم، يرفض الإندونيسيون ادعاءات الماليزيين، متهمين ماليزيا بالسعي بدأب نحو ادعاء أي ثقافة لنفسها، لدرجة تجعلها على استعداد للقيام بأي شيء، حتى لو كانت سرقة صريحة. تشكل رقصة «بنديت» آخر المعارك الثقافية بين البلدين. وقد اشتعلت شرارة هذه الحرب هذا الصيف، عندما انتشرت شائعات حول أن ماليزيا مسؤولة عن إعلانات تلفزيونية تزعم ابتكارها رقصة «بنديت». في غضون أيام، اعترفت شركة خاصة تتولى إنتاج برنامج لصالح «قناة ديسكفري» أنها تقف وراء الإعلانات، وأن اختيارها وقع على رقصة خاطئة في إطار جهودها للترويج لبرنامج قادم. وأوضحت الشركة أن الحكومة الماليزية لا علاقة لها بهذا الخطأ. لكن فات الأوان، حيث جاء الاعتذار في وقت ثار بركان غضب اندونيسيا بالفعل. من جهته، طالب وزير السياحة الاندونيسي تقديم اعتذار كتابي لبلاده، الأمر الذي أكد أنه ضروري من أجل التسجيل التاريخي. في تلك الأثناء، شن الإندونيسيون الغاضبون حملة «اسحقوا ماليزيا»، التي تستقي جذورها من خطبة وطنية حماسية في الستينات. هذه المرة، أضرمت الجماهير الغاضبة النار في العلم الماليزي، الذي يحمل صورة هلال وشمس، وألقوا ببيض فاسد على السفارة الماليزية في جاكرتا. وطوال أيام، عمد متظاهرون يحملون عصي حادة مصنوعة من خشب البامبو إلى تعطيل حركة المرور بحثا عن سائقين ومشاة ماليزيين. وأسفر ذلك عن إلقاء القبض على ستة اندونيسيين. لم تسفر أعمال الشغب عن أي إصابات، لكن السفارة الماليزية اشتكت بشأن سلامة مواطنيها. وإضافة إلى ذلك، هاجم قراصنة على شبكة الانترنت مواقع تخص الحكومة الماليزية. وبدأت مجموعة من الشباب الوطني جمع توقيعات عبر شبكة الانترنت لمتطوعين على استعداد لخوض حرب ضد ماليزيا. ومع أن قادة هذه المجموعة من الشباب أعربت عن اعتقادها بأن مثل هذه المواجهة تعد أمرا غير محتمل بدرجة بالغة، فإنهم عمدوا إلى تخزين طعام وأدوية وأسلحة، مثل أسياف الساموراي والنجوم الخاصة بمقاتلي النينجا. الواضح أن مثل هذه الإجراءات تثير ضيق الماليزيين، ناهيك عن الاندونيسيين. وقال أونغ هوك تشوان، مستشار في مجال العلاقات العامة، ماليزي المولد ويعيش حاليا في جاكرتا: «هؤلاء الأشخاص يحملون عصي مستدقة وينتمون إلى تيار اليسار المخبول. لو لم تكن ماليزيا، كانوا سيصبون غضبهم على أي دولة أخرى». إلا أن الكثيرين هنا يؤكدون أن مشاعر السخط سائدة على نطاق واسع وتضرب بجذورها إلى أعماق بعيدة. على سبيل المثال، تحمل الصحف قصصا حول تعرض قرابة 2 مليون عامل اندونيسي في ماليزيا لمعاملة سيئة على أيدي رؤسائهم الماليزيين. وتوقفت اندونيسيا العام الماضي مؤقتا عن إرسال خادمات بالمنازل إلى ماليزيا، حتى يجري توفير مستوى أفضل من الأمن لعامليها هناك. وقال ألكسيس جيمادو، بروفيسور العلوم السياسية بجامعة بيليتا هارابان في اندونيسيا: «الكثير ممن يرغبون في غزو ماليزيا من العمال المهاجرين سابقا إلى هناك أو على معرفة بأحد هؤلاء العمال. هناك شعور بأن الماليزيين ينظرون إلينا بازدراء، وأنهم يهينوننا. وكي أكون صادقا معك، يحسد الكثير من الاندونيسيين سرا جيرانهم، لأنهم يرون أن غالبية الماليزيين يتمتعون بأوضاع اقتصادية أفضل منهم». ويمتد الخلاف إلى حكومتي الدولتين، حيث أشار جيمادو إلى أن «كل منهما ترغب في النظر إليها كزعيمة إقليمية في جنوب شرقي آسيا. وتزعم كل منهما أنها الدولة الرائدة على مستوى العالم المسلم». ومن حين لآخر، تندلع مناوشات جديدة في إطار الحرب الثقافية الدائرة بين الجانبين من حين لآخر عندما تتصاعد ادعاءات الاندونيسيين، بأن الماليزيين سطوا مجددا على عنصر من تراثهم الفني والموسيقي. تشير بعض الأقاويل إلى أن الماليزيين زعموا ابتكارهم حفلات «ريوغ» الاندونيسية، وهي مزيج من الرقص والسحر، علاوة على «أنكلونغ»، وهي أداة موسيقية تصنع من خشب البامبو، حسبما أوضح عدد من النشطاء. وفي عام 2007 هددت اندونيسيا باتخاذ إجراءات قانونية ضد ماليزيا لاستيلائها على أغاني ورقصات اندونيسية في إطار حملة وطنية لتشجيع السياحة. وأدى ذلك إلى تشكيل لجنة رفيعة المستوى لتسوية الخلاف. ويدعي الكثير من الاندونيسيين أنه حتى النشيد الوطني الماليزي يستمد جذوره من أغنية اندونيسية. وقد توصل عدد من الخبراء جرت الاستعانة بهم لحسم الخلاف إلى أن كلا من النشيد والأغنية يعتمدان على لحن فرنسي ينتمي إلى القرن التاسع عشر. على الصعيد الداخلي، يقول الكثير من الاندونيسيين، إن الماليزيين يعمدون إلى فرض حماية شديدة على ثقافتهم. عندما لاقت موجة من الأغاني الشعبية الاندونيسية رواجا هناك عبر محطات الراديو منذ عام مضى، فرضت السلطات الماليزية حصة صارمة نصت على تقسيم هذه المحطات الأغاني التي تقدمها بين 90% ماليزية و10% اندونيسية. الواضح أن المشاعر المحتدمة بين الطرفين تمتد إلى الصعيد السياسي. يذكر أن العداء بين الجانبين اشتعل هذا الصيف عندما تعرض فندقان في جاكرتا لتفجيرات، في هجوم جرى التخطيط له على ما يبدو على يد مواطن ماليزي على صلة بتنظيم «القاعدة»، يدعى نور الدين محمد توب، الذي قتل لاحقا. وكتب أونغ في مدونته إن الاندونيسيين ينبغي أن يشعروا بالغضب حيال حكومتهم «لبذلها جهودا ضئيلة للغاية للاستفادة من تراثهم الثقافي، المتميز بالثراء والتنوع على نحو يفوق الوصف، وبالتالي السماح بإهدار فرص ثمينة». لكن أونغ أشار إلى أن دائرة اللوم واسعة النطاق وتشمل الحكومة الماليزية، التي يتعين عليها «النزول من برجها العاجي» والتعامل مع المسؤولين الاندونيسيين كنظراء. حاليا، تقول هيستايانتي، إنها ستستمر في أداء رقصاتها لجميع العملاء ـ بمن في ذلك الماليزيون. وقالت: «أشعر بالأسف تجاههم. إنهم يحسدوننا فحسب».

* خدمة «لوس أنجليس تايمز» خاص بالـ«الشرق الأوسط»