تراجع الدولار ينعش الاقتصاد الأميركي ويهدد أوروبا واليابان

انخفاض العملة الأميركية .. المشكلة الوحيدة التي تريد واشنطن استمرارها

استمرار هبوط الدولار ممكن إذا ما قررت الدول الرئيسية الحاملة للدولار مثل الصين واليابان بيع ودائعها من العملة الأميركية («الشرق الأوسط»)
TT

في الوقت الذي يسهم انخفاض سعر صرف الدولار الأميركي في انتعاش الاقتصاد الأميركي، يدق ناقوس الخطر في العالم أجمع، حيث أشار مديرو الشركات والسياسيون والنقاد إلى أن ذلك أحد أكبر التهديدات التي تواجه الانتعاشة التي تشهدها أوروبا واليابان.

ويؤكد تنامي القلق في العالم بشأن انخفاض قيمة الدولار بروز سعر الصرف كمصدر للخلاف، خصوصا مع مسارعة الكثير من الدول لخفض قيمة عملاتها بصورة كبيرة لتعزيز صادراتها وحماية أسواقها من المنافسة الأجنبية.

وقد شهد الدولار انخفاضا كبيرا أمام اليورو ـ فقد انخفض بنسبة 18 في المائة مقابل اليورو خلال العام الماضي، وأكثر من 40 في المائة أمام عملة جنوب أفريقيا الراند والدولار الأسترالي ـ حيث خفض المسؤولون الأميركيون من قيمته بطبع المزيد منه وخفض معدلات الفائدة إلى ما يقارب الصفر، لمحاولة إنعاش الاقتصاد.

وقد حسنت تلك الخطوات من العجز التجاري الأميركي بصورة ملحوظة جعلت من كل ما صنع في الولايات المتحدة بدءا من الهواتف الجوالة وانتهاء بالأثاث يصبح أكثر تنافسية في كل من الداخل الأميركي والخارج، إضافة إلى تقديم المزيد من الحوافز للمصنعين الأجانب لتوفير المزيد من الوظائف في الولايات المتحدة. ويشير المحللون إلى أن وطأة الانهيار المالي في الولايات المتحدة، ناهيك عن معدلات البطالة، كانت من الممكن أن تزداد سوءا ما لم تضعف من قيمة الدولار.

بيد أن ذلك كان له تأثير معاكس على غسالات الملابس الألمانية والسيارات اليابانية، حيث جعلها أكثر تنافسية مع رخص أسعارها في السوق الأميركية التي تعد أضخم أسواق العالم. علاوة على ذلك باتت تلك السيارات اليابانية والغسالات الألمانية ذاتها أقل تنافسية في الصين، أكبر سوق نامية في العالم، وذلك لأن اليوان الصيني لا يزال مرتبطا بالدولار الأميركي، فقد انخفض اليوان بنفس قيمة الدولار في الأسواق العالمية، وهو ما أدى إلى كوارث مزدوجة للدول التي تعتمد على عملات مثل اليورو. كما يعني ذلك أيضا أن الصين، تلك الدولة التي تتمتع بأكبر فائض تجاري من جانب واحد مع الولايات المتحدة، قد شهدت نمو هذا الفائض خلال فترة الركود.

وفي السياق ذاته باتت الدول النامية الأخرى التي لا ترتبط عملتها بالدولار، مثل البرازيل، أكثر قلقا بشأن ارتفاع قيمة عملاتها، وهو ما دفعها إلى سن ضوابط استثمارية جديدة لمنع انخفاض قيمة الدولار الأميركي. وذكرت الشركات الأوروبية مثل «نسلة»، التي تتخذ من سويسرا مقرا لها، حيث ارتفع الفرنك السويسري أمام الدولار بنسبة 13 في المائة خلال الأشهر الاثني عشر الأخيرة، أن معدلات سعر الصرف كانت العامل الأكبر في تراجع عائداتها في الآونة الأخيرة، أكثر منه تراجعا في الطلب العالمي.

وشكا جوزيه مانويل رودريغز بورديلو، المدير العام لشركة «أغروسفيلا» الإسبانية، إحدى كبرى الشركات العالمية المصدرة للزيتون: «إننا نفقد مكانتنا التنافسية على مستوى العالم. ولا بد من الحيلولة دون استمرار ذلك، فقد خسرنا 15 في المائة من عائداتنا هذا العام نتيجة لسعر الصرف».

وقد تحول انخفاض الدولار الضعيف إلى مصدر توتر دولي، خصوصا بالنسبة للعلاقات الأوروبية، حيث أعرب مسؤولون من 16 دولة أوروبية عن أن استخدام اليورو يحذر من أن استمرار تراجع الدولار قد يفرض مشكلات بنيوية بعيدة المدى بالنسبة لأوروبا، وهو ما سيجبرها على خفض الأجور ويضر بالعمالة على مدى الشهور والأعوام القادمة. وخلال الأسبوع الجاري أشار أحد كبار مساعدي الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى أن انخفاض سعر الدولار يشكل كارثة بالنسبة لأوروبا. وحذر من العواقب الكارثية التي قد يشهدها الاقتصاد العالمي إذا ما ثبت الدولار على مستوياته الحالية. بيد أن بعض الدوائر ترى في انخفاض قيمة الدولار خطوة حمائية من قبل الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي نفاه المسؤولون الأميركيون بشدة.

وكتب المعلق الاقتصادي الفرنسي، إيف دي كارديل، في صحيفة «لو فيغارو» الفرنسية: «إذا ما واصل الدولار هبوطه بهذه الطريقة فلأن ذلك عائد إلى رغبة الأميركيين، ففي اقتصاد متعولم تسُده المصلحة الذاتية، وتكاد تختفي فيه الحواجز الجمركية، فإن أفضل وسيلة للحماية هي التلاعب في سعر الصرف».

بيد أن بعض المحللين يشيرون إلى أن انخفاض الدولار يعكس حقيقة اقتصادية أساسية، وهي أن الوضع المالي الأميركي لم يعد قويا كما كان من قبل، وقال الكثير من المحللين إن الدولار لا يزال أمامه مساحة لمزيد من الهبوط.

وقال ستيفن كنغ، كبير الاقتصاديين في بنك «إتش إس بي سي» في لندن: «ضعف الدولار لا يعود بصورة كبيرة إلى اتجاه الأفراد إلى شراء الين الياباني لأنهم يعتقدون أن اليابان ستنتفض فجأة مرة أخرى، وإنما للشعور بأن الولايات المتحدة والدولار يتخبطان، فقد اقترضت الحكومة الأميركية مبالغ ضخمة من الأجانب، كما أن لديهم ارتفاعا في عجز الميزانية ووسائل محدودة لكبح جماح هذا العجز يراها المستثمرون قابلة للتطبيق، وهي تلك الأشياء التي تؤثر على قيمة العملة».

من بين الأسباب الأخرى لانخفاض قيمة الدولار هي أن المستثمرين يشعرون بمزيد من الثقة تجاه الاقتصاد العالمي، وخلال ذروة الأزمة كان ينظر إلى الدولار الأميركي على أنه مرفأ آمن من العاصفة. ومع خفوت قوة العاصفة بدأ المستثمرون في تغيير المسار والسعي إلى الأسواق الناشئة لأنها لم تعد محفوفة بالمخاطر كما كانت من قبل، بالنظر إلى الموقف المالي السيئ والانتعاش الهش الذي تشهده الولايات المتحدة.

ومع انخفاض سعر الدولار بات أقل رغبة في الاحتفاظ به، لذلك لجأ المستثمرون إلى التخلص من الدولار والتحول إلى النفط والذهب والأسهم. وهو ما سيساعد في تغذية الانتعاش القوي في أسعار السلع والزيادة الأخيرة في سوق الأسهم.

ولا تزال هناك إمكانية بالمجازفة باستمرار هبوط الدولار، ما قد يدفع الاحتياطي الفيدرالي إلى رفع أسعار الفائدة ومواجهة ضربة قوية للانتعاش الأميركي. وقد يحدث ذلك إذا ما قررت الدول الرئيسية الحاملة للدولار مثل الصين واليابان بيع ودائعها الدولارية. وكانت الصين قد صرحت بضرورة الحاجة إلى الانتقال من الدولار كعملة احتياطية، على الرغم من قول المحللين إن الصين دعمت ذلك المطلب بخطوات ثانوية للتخلي عن ودائعها.

وهناك أيضا مخاوف متزايدة من أن تؤدي سياسة تعويم الاقتصاد الأميركي بعملة منخفضة إلى رفع العجز، وهو ما حدث بالفعل في بريطانيا التي انخفض فيها الجنيه الإسترليني الذي كان يحظى بمكانة مرموقة من قبل، مقابل اليورو، شأنه في ذلك شأن الدولار. وحتى الآن لا يزال انخفاض سعر الدولار المشكلة الوحيدة التي ترغب الولايات المتحدة في استمرارها. وقال سي فريد بيرغستن، مدير معهد بيترسون للاقتصاد الدولي في واشنطن: «إنك تحقق تقدما من خلاله، واستنتاجنا هو أن قيمة الدولار في المكان الذي ينبغي أن تكون فيه».

* شارك المراسل إدوار كودي في إعداد هذا التقرير من باريس.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»