تجميع وثائق «ستاسي» جهاز أمن الدولة بألمانيا الشرقية سابقا

8 موظفين حكوميين يحاولون على مدار 14 عاما جمع 600 مليون قصاصة ورقية

TT

نظرت مارتينا ميتزلر إلى أكوام القصاصات الورقية المنتشرة عبر أربعة مكاتب داخل غرفة مكتبها. وعندما رأت قصاصتين تتماشيان مع بعضهما، لمعت عيناها وقامت بتثبيتهما معا. وقالت وهي ترسم على وجهها ابتسامة ساخرة: «رابط آخر، نجاح صغير آخر»، على الرغم من أن ثلثي الصفحة على الأقل لا يزال مفقودا.

تعمل ميتزلر، التي تبلغ من العمر 45 عاما، ضمن فريق يضم ثمانية موظفين حكوميين يحاولون على مدار الأربعة عشر عاما الماضية أن يستعيدوا الوثائق التي مزقها على عجل جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية في الأيام الأخيرة لأحد أشد الأنظمة القمعية في التكتل السوفياتي. وبعد مرور عقدين على الوقت الذي كانت ترقص فيه الجماهير على حائط برلين، وعادت الوحدة إلى ألمانيا انتقل الكثير من المواطنين الألمان. ولكن يقول المؤرخون إنه من المهم العثور على الحقائق الخاصة بالحقبة الشيوعية، وقد أدلى ما يقوم به «جامعو القصاصات» إلى الكشف عن الكثير من الشخصيات البارزة في ألمانيا الشرقية سابقا والذين كانوا يعملون كعملاء لجهاز أمن الدولة. وعلاوة على ذلك، يتقدم نحو 100,000 شخص كل عام بطلبات كي يروا الملفات الخاصة بهم. وتمكن جهاز أمن الدولة، الذي يقال إنه كان لديه أكثر من 170,000 مخبر، من تدمير الآلاف من الملفات عن طريق تمزيقها باستخدام آلات خاصة إلى أن تعطل الجهاز بسبب كثرة العمليات التي كان يقوم بها، وبعد ذلك عن طريق الإحراق وتحويل الأوراق إلى عجينة ورقية. (وتعرف المحتويات، التي يحتفظ بكميات كبيرة منها في الأرشيف، باسم «عصيدة أمن الدولة»). وفي النهاية، كان يقوم العملاء بتمزيقها بأيديهم بينما كانت الحشود المتزاحمة تدمر أبوابهم.

وتملأ هذه الملفات الممزقة نحو 16,000 كيس بريد تحتوي على نحو 45 مليون صفحة فردية، أو 600 مليون قصاصة ورقية. وباقي أمام من يشرفون على إعادة تجميع هذه الأوراق 440 كيسا. ويقول إرنست سكرودينغر، وهو ملاكم هاو سابق يبلغ من العمر 54 عاما ويقوم بالتوفيق بين القصاصات الورقية: «إذا استمر العمل بهذه الوتيرة، سيتم ذلك في 500 عام.» ويعمل سكرودينغر ورفاقه في مكتب سابق لتقديم طلبات اللجوء السياسي داخل زيرندورف، وهي مدينة صغيرة ببافاريا. ويتم الدخول إلى هذا المبنى عبر بوابة أمنية تتمتع بقدر عال من الحماية الأمنية. وبمجرد الدخول، يشم المرء الرائحة الحمضية المميزة للورق والغبار المنتشر. وتجعلك الأرضية التي يكسوها المشمع والأبواب الزجاجية ذات اللون الكريمي والخريطة الموجودة على الحائط التي تظهر الاتحاد السوفياتي والجمهورية الألمانية الديمقراطية، كما كانت تعرف ألمانيا الشرقية، تشعر بأنك عدت إلى الوراء. ويعمل سكرودينغر 41 ساعة في الأسبوع ويقوم باستعادة الوثائق الخاصة بمراقبة جهاز أمن الدولة للجيش والإعلام والسكة الحديد والكنيسة. وتعطي الملفات القليلة التي تم جمعها حتى الآن تفاصيل مثيرة عن الحياة داخل الجمهورية الألمانية الديمقراطية. ومن بينها، 1000 صفحة ضمن ملف عن الفنان ساسكا أندرسون، وهو فنان طليعي، كان يعمل في خدمة جهاز أمن الدولة ولكنه يقول إنه لم يكن مشاركا بدرجة كبيرة. ويظهر الملف إلى أي مدى خدع أندرسون زملاءه من الفنانين والمعارضين. وهناك أيضا ملف عن هينرتش فينك، أستاذ العلم الديني الذي عرف باسم الجاسوس «هينر» وكان يشي باستمرار عن الطلبة وزملائه في العمل. ومن الحالات البارزة الأخرى إرهابيو جماعة الجيش الأحمر الذين كان يرعاهم جهاز أمن الدولة وطبيب رياضي في برلين كان يحصل على معلومات عن رياضيي ألمانيا الشرقية. وفي الشهر الجاري، كانت ميتزلر تقوم بجمع وثائق تحكي حياة ستيفان هيم، وهو كاتب ألماني يهودي راحل اختار أن يعيش في الجمهورية الألمانية الديمقراطية ولكنه كان على خلاف مع النظام الحاكم وكان يتم التجسس عليه بصورة مستمرة. وتقول ميتزلر: «عثرت للتو على مخطط لغرفة نوم أطفاله رسمتها القائمة على شؤون النظافة بناء على طلب من البوليس السري، وكان اسمها الحركي ’فريدا‘.» ويظهر المخطط كل شيء بدءا من مكان الأبواب والنوافذ إلى الدولاب والسجاجيد. وتقول: «على الرغم من الكثير من الوثائق التي أجمعها، فإني أبقى مندهشة ومصدومة من المدى الذي ذهب إليه الأصدقاء والزملاء وحتى الأزواج والزوجات في خداع بعضهم بعضا. ويظهر ذلك إلى أي مدى كان النظام هداما» وتضيف أن ما تقوم به يجعل المواطنين لا ينسون كيف كان سوء النظام الذي كان يحكم ألمانيا الشرقية. «كنت أقول، لماذا يقومون بالتذكير بكل هذه الأشياء المرتبطة بنظام هتلر الذي حدث قبل أكثر من 60 عاما. وبعد العمل هنا أعرف مقدار أهمية إعادة التعمير وأننا لا ننسى وهذا ما يبعث الدافع لدي عندما يقول بعض الناس إن عملنا مستحيل ولا يفضي إلى نتيجة». يبدو عليها الغضب عندما سئلت كيف أنها ملتزمة كل يوم بهذا العمل الذي يحتمل ألا يكلل بالنجاح، وتقول: «لن تسأل خبازا عما يدفعه إلى الاستيقاظ كي يخبز العيش».

وربما يتفق مع ذلك الآلاف الذين يقدمون طلبات لرؤية ملفاتهم. وبالإضافة إلى كونها تقدم رصدا تاريخيا، يمكن أن تساعد هذه الملفات المواطنين على تبرئة أسمائهم. والبعض، على سبيل المثال، يقدم طلبا للحصول على دليل على أنهم تعرضوا للسجن ظلما على يد سلطات ألمانيا الشرقية وهو ما يمكن أن يساعدهم على محو أسمائهم من السجلات الجنائية التي تمنعهم من الحصول على وظائف معينة ويمكنهم طلب تعويض مقابل ما تعرضوا له من اضطهاد. وفي فترة ما، كان هناك نحو 45 شخصا يقومون بجمع هذه القصاصات، ولكن لم يتم استبدال هؤلاء الذين تركوا العمل أو تقاعدوا. ويحصل القائمون على هذا العمل على راتب يتراوح ما بين 29,600 دولار و37,000 دولار سنويا. وبمرور الوقت، تقوم شاحنة بإحضار كمية أكبر من الأكياس إلى المكان الذي يعمل فيه الموظفون ويعيدون الملفات التي تم استعادتها إلى برلين. ومن المقرر أن يستعين الموظفون بجهاز يعمل باستخدام الكومبيوتر يعرف باسم «إي بزلر»، أو جهاز جمع القصاصات إليكترونيا. وقام بتطويره علماء بمعهد فراونهوفر، وهو نفس المعمل الذي ابتكر القالب «إم بي 3» . ويعتقد أن جهاز «إي بزلر» هو الجهاز الأكثر تطورا في العالم الذي يقوم بالتعرف على الأشكال. وسوف يعمل عن طريق مسح القصاصات الورقية الصغيرة وتحويلها إلى ملف صورة على جهاز الكومبيوتر ويقوم بتحليل المادة التي صنعت منها القصاصة وشكلها ومقدار سمكها وطريقة تمزيقها ليصوغ في النهاية صورة ديجيتال عن الوثيقة بالكامل. ويشار إلى أنه كانت هناك انتقادات للمشروع من جانب المشرعين اليساريين الذين كانوا في السابق أعضاء في الحزب الشيوعي بألمانيا الشرقية، ويقول هؤلاء إن هذا المشروع مضيعة للمال. ويقول إغون كرنز، وهو الزعيم الشيوعي الأخير في ألمانيا الشرقية الذي قضى ستة أعوام ونصف في السجن للدور الذي لعبه في نظام الحكم: «أريد أن أقول إنه كان يمكنهم استخدام الأموال بصورة أكثر فاعلية في مكان آخر مثلما استثمروا في الطرق الواسعة في ألمانيا الشرقية في مطلع التسعينات وهو ما يمكن أن يستفيد منه الجميع». وقد خصص البرلمان الألماني حتى الآن 9 ملايين دولار لهذا المشروع، ولكن ستكون هناك حاجة إلى المزيد لتركيب وصيانة جهاز «إي بزلر».

* «لوس انجليس تايمز» خاص بـ «الشرق الأوسط»