هل هناك اسباب منعت ظهور الأدب الساخر في ثقافتنا المعاصرة كظاهرة أدبية، كما ظهرت او ازدهرت بعض الانواع الأدبية الاخرى؟
في الحلقة السابقة نشرنا إجابات عدد من النقاد والكتاب الساخرين. وهنا إجابات أخرى:
أسد: سخرية مبتذلة وليس أدبا ساخرا يرى الروائي والكاتب ماجد اسد ان مشكلة الأدب الساخر، منذ اقدم العصور، تخص المفارقة. والكشف عن خلل ما في البنية الاجتماعية، وان هذا النوع من انواع الأدب، يعد، سيكولوجيا، احد مفاتيح التفريغ او التنفيس. كما يتضمن، من جانب آخر، الاعتراف بقوة المجتمع وعدم تردده في قبول السخرية او (النكتة السوداء) او الأدب الساخر اجمالا، في تشخصياته النقدية. في الحالات كلها يكشف المجتمع العربي، منذ قرن في الاقل، عن مرحلة استيقاظ مملة ومزرية، لا لأنها كانت تواجه بالقمع فحسب، بل لأن ذكريات العهود السوداء كادت تشكل سمة من سماته. وفي مقدمتها الحزن في اشكاله كلها، ومنها الحزن المبتذل لدرجة السخرية السلبية لا الايجابية او النقدية. فالحزن، بحد ذاته احد حالات النفس البشرية، الا ان تحول الحزن الى حياة شبه دائمة يعد احد الامراض المزمنة في بنية المجتمع العربي. فالشعور بالهزيمة والاغتراب والفزع من المسرات والافراح والاحساس بالفراق والوداع، هو الشكل العام للشعر والاغاني على وجه التحديد. هذه الخلفية المعتمة، لم تمنع ظهور الأدب الساخر، الا ان هذا الأدب، في الغالب، لم يرتق للعوامل التي ظهرت في الآداب الاخرى. فالسخرية شعبية لدرجة الابتذال. وان عوامل القهر، هي الاخرى، لم تكن ازلية، ربما لأن الشعب لم يكن يمتلك ذاكرة. لقد طمست ذاكرته، ووضعت في كهف افلاطون. لكن بداية القرن الماضي، اختلفت نسبيا عن القرون السابقة. وهذا الاختلاف دفع بالأدب الى معالجات سياسية بالدرجة الاولى.. فالمجتمع لم يكن يقدر على تحمل النقد. انه يبحث عن الخبز. وبتطور الوعي الاجتماعي تطور هذا الأدب، الا ان تطوره لم يأخذ مداه المطلوب، وبالتالي سنلاحظ، مقارنة بأدبنا العربي القديم، بل بالجذور الاولى لحضارتنا العربية، ان شيوع هذا الجنس كان واهنا ايضا. ان الاسئلة التي تخص هذا الأدب، هي في الواقع ذات فعالية ايجابية بمعنى الكلمة. انها تقوي النفس مثلما تقوي البنية الاجتماعية، وبالتالي فان عملية ازدهاره ستكشف عن طاقات كامنة وقدرات غير محددة لهدم الخيالات المعتمة والدخول في دائرة الضوء. فالأدب الساخر ان كان في المسرح او في الرواية، يكشف عن وعي جاد، وعن رؤية ابعد، وذات خيال خصب. فالنقد البناء في الأدب والمنفذ باحكام، يشكل جزءاً من الأدب، بل من الثقافة النابضة بالحياة. فالمفارقة في الأدب، سمة تخص الأدب من ناحية ابعد، مثلما ان المفارقة مبنية على ادراك لطبيعة الحياة وما ينبغي ان تكون فيه. فهل هناك سخرية، غالبا، اكثر من انتشار الأدب الرديء، من دون ان تواجه بمقارنة أدبية ترتقي الى الأدب العربي الاصيل، والى جذوره في التراث العظيم؟
خلوصي: فن لا يتوفر إلا للقلة ويرى الروائي والناقد ناطق خلوصي ان الأدب الساخر فن حساس وصعب، لا تتيسر ممارسته لمن يشاء، شأنه في ذلك شأن الكاريكاتير بين الفنون التشكيلية، والكوميديا بين فنون الدراما المسرحية والسينمائية والاذاعية والتلفزيونية. انه يستلزم حساً نقدياً استثنائياً، وقدرة عالية على التعبير والتوصيل المؤثر، فضلاً عن الجرأة، وضرورة توفر الاسلوب والثروة اللغوية، والقدرة على تحسس النبض الجماهيري، والتماس مع هموم الناس. وهذه الشروط قد لا تتوفر مجتمعة لدى كثيرين ممن يمارسون كتابة الأدب. الحس الساخر جزء من الموهبة، لا يكتسب بالتعلم، وانما قد يتطور به. وفضلاً عن ذلك فان جمهور الأدب الساخر هو جمهور الصحافة بشكل خاص، وغالباً ما ينشر هذا النمط من الأدب في الصحف او المجلات، قبل ان يأخذ طريقه الى النشر في الكتب «هذا اذا ما وجد مثل هذه الفرصة». ربما يظن بعض الأدباء بأن الأدب الساخر انما هو أدب استهلاكي، وذو بعدٍ آني، قد لا يخلد كتابه، وهذا محض ظنٍ بالتأكيد. والى جانب ذلك فان في المنحى النقدي للأدب الساخر، ما يجعل بعض الأدباء يحجمون عن الاقتراب منه، تحاشياً للوقوع في اشكالات قد تنشأ عمّا يمكن ان يثيره هذا الأدب من حساسية ومتاعب. لهذه الاسباب ظلت رقعة الأدب العربي الساخر محدودة حتى الآن. عناد: طبيعة المجتمع العربي لا تسمح بظهور السخرية ويتسائل الناقد والكاتب الصحافي عبد الرحمن عناد، بداية، أين هو الادب الساخر في الرواية والقصة القصيرة اللتين تكادان تفتقدان مسحة المزاح، بالقدر الذي يتعين فيه على النقاد ان يتوقفوا عنده بالتحليل، وقد تكون «محاولتكم» خطوة على هذا الطريق. ولا يعني ذلك عدم وجود حوارات ساخرة، او نكات وطرف، او وصف ساخر وما شابه، في الرواية والقصة العربيتين، ومنها العراقية، لكنها كانت محكومة اساساً بضرورات النسيج الروائي والقصصي حين يتم تناول موضوعة ما، سواء كانت محور الرواية او شيئاً هامشياً فيها، من دون ان تطلب لنفسها او يخطط قصدياً لاعتمادها. وثمة حالات يغلب فيها التكوين الشخصي للروائي والقاص، فيظهر مزاجه الفكه واسلوبه الساخر في التعامل اليومي في نصوصه الابداعية، وغالبا ما يكون ذلك من دون قصد او تخطيط مسبق. ان رسم الشخصية، واقعها، سلوكها، حواراتها، تفكيرها، ضمن اشتراطات الموضوع، او الفكرة الاساسية، التقاء بمجموعة الابطال الاخرى، قد يتطلب ان تكون ساخرة كلية لأسباب متعددة، او ساخرة في مواقف وحالات. لكن ما مر بنا ـ على حد اطلاعنا ـ لا يدل على وجود شخصية ساخرة تماماً، عدا حالات مسرحية قليلة. انما قد توجد هذه الشخصية لتكون مدعاة لسخرية القارئ ذاتها، او لتبديل ثقل الاحداث، وهكذا نجد مثلا ملامح ساخرة في شخصية اللا ابالي، او المتسول، او الأبله، او عامل الخدمات، وغيرهم.. ليست هي من صنعهم الارادي، لكن نتاج تكوينهم الشخصي او اللاشعوري.
ما تقدم قد يقودنا الى تأكيد حقيقة، وهي ان الأدب الساخر في ثقافتنا المعاصرة، كما تتساءلون، ليس موجوداً بالمواصفات التي نعرفها، او تحددها مدارس النقد ونظريات الأدب، ربما لبعض الاسباب التي ذكرناها، ولكن ذلك يدفعنا للسؤال ايضاً، وهو سؤال لاحق للسؤال الاساسي: وهل هذا الأدب ضروري؟ وهل ان مواصفات وملامح الشعر العربي، خاصة القديم، في الهجاء والمدح، وما يتضمنه من نقد لاذع وسخرية حادة، من شخصية البخيل او الجبان او الدعي، تفرض نفسها على ثقافتنا المعاصرة؟ والاجابة قد تختلف هنا او هناك، أي في هذا البعد او ذاك، وحسب تفكير ومنطلقات المجيب، وطبيعة المجتمع، ومناخ الكتابة المتوفر. هنا لا بد للعودة الى السؤال الاساسي، وهو البحث عن الاسباب، رغم ان بعضها قد يكون واردا في ما تقدم. ان طبيعة المجتمع العربي المتسمة بالجدية والتشدد الاخلاقي، وصرامة التقاليد، بل حتى طابع الحزن المتأتي من معاناة اجيال كاملة، والمحاذير الاخرى التي يضعها الكاتب امام عينيه، ربما تكون من اسباب عدم ظهور الأدب الساخر، وتجنب «وجع الرأس»، ففي حالات وجوده تكون التفسيرات كثيرة ومختلفة، وغالباً ما يطغى عليها التفسير السلبي، خاصة ان لدينا موروثاً لا يستهان به من الحذر والخوف من الطابع الرسمي لتلقي النص الابداعي، الذي قد يدخل صاحبه في دوامة هو في غنى عنها، وربما لا يسمح «الواقع» بنص ابداعي مثل «البخلاء» او «دون كيشوت»، الا في دراسات اكاديمية حسب. واذا كانت «هناك الف وسيلة لاستخدام صورة الذات» كما يقول كولن ولسن، فان الوسيلة الساخرة لا ترد في البال ضمن مشهدنا الثقافي حالياً، ربما اعتقاداً من البعض انها غير لائقة او ان الصور الاخرى، المكملة، كفيلة بتحقيق الغرض، ساخراً في جوهره، فاقتحام الموت او عدم اللامبالاة تجاه احتمالاته، في قصص وروايات، هو في حد ذاته سخرية منه، بدون ان تنطبق المواصفات المعروفة للسخرية عليه. وعلى اية حال، اذا كانت الرواية جزءاً من ثقافتنا المعاصرة فانها، وباعتبارها «عملاً قابلاً للتكيف مع المجتمع» حسب رولان بارت، مدعوة للتعامل بكل الوسائل، ومنها الأدب الساخر، مع القصة القصيرة، والاعمال الدرامية الاخرى. عبد الحر: الكتاب الساخرون قليلون الشاعر منذر عبد الحر يعتقد، عكس كثيرين، أن لدينا أدبا ساخرا وجيدا أيضاً، لكنه لا يمثل ظاهرة أدبية، لأنه بطبيعته ليس كذلك، أي ليس له توجه بعينه، بل انه اسلوب تعبيري خاص يلجأ اليه عادة كاتب او اثنان او اكثر، لأنه يتعلق بطبيعة الكاتب ازاء ظرفه الذي يعيش. وهو يعتقد أن الكتاب الساخرين قليلون جداً، ليس في العالم العربي فقط، وإنما في العالم كله. أبو جليل: منهم خاطئ لفن السخرية عن مأزق من يكتبون الكتابة الساخرة الآن يشير الكاتب حمدي أبو جليل الى ان الاجيال الجديدة من الكتاب تتجه الآن الى الكتابة الساخرة، لكن المشكلة انها تتخذها كوسيلة أو مهرب، ليس من الرقابة، ولكن كوسيلة جميلة ناجحة لفهم المتناقضات التي تدور حولنا في العالم العربي والعالم بشكل عام، والتعامل مع هذه المتناقضات والتصالح معها أحياناً حتى يمكن للانسان أن يؤمن بالنقيضين في وقت واحد، والمشكلة هنا ان السخرية لا يجب ان تكون وسيلة، أو أن تصبح مجرد «نية» في الكتابة، لكن السخرية هي تركيبة خاصة في الكاتب، وهي قليلة بشكل عام، وقلتها ليست حكماً قيمياً عليها، بأنها جيدة أو سيئة، لان الكتابة الساخرة شكل من أشكال النظرة الموضوعية للأشياء، وليست بالضرورة من أجل النقد، ولهذا ارتبطت بفن الرواية، فرواية دونخوته لسرفنتيس جاءت ساخرة ليس لنقد عصر الفرسان، ولكن لرؤية هذا العصر بشكل موضوعي، وكان من أهم الروايات التي كتبت عن القضية الفلسطينية رواية اميل حبيبي الساخرة «أبي النحس المتشائل» والتي صورت بطلها بأنه شخص يرضخ للاحتلال الاسرائيلي أو عميل للاسرائيليين، وقد جسدت الرواية القضية بشكل أكثر فداحة مما كتبه المناضلون، واظهرت المأساة كما هي بدون عواطف. ويتابع ابو جليل: «وربما الشيء الذي أضر بالكتابة الساخرة في مجتمعنا العربي هو أن الكاتب الساخر اعتبر وكأنه يقوم بدور الملطف لأجواء كتابة الأدباء الجادين، واقتصرت النظرة الى الأدب الساخر إما على انه انتقاد، أو انه نوع من الفكاهة التي لا يعول عليها، فأصبح الكتاب الساخرون مصابين بالخجل من استهانة المتلقي بكتاباتهم، واعتبارهم يقومون بدور «المنولوجوست» الذي يظهر في الحفلات الغنائية ليرفه عن الناس، يغني بعض الأغنيات لكن لا أحد ينتبه لأغانيه قدر اهتمامهم بما يقوله من نكت وفكاهات، ولهذا فالكتابة الساخرة لا تصادر في العادة لأنها تقدم أفكاراً عميقة أو على انها تكشف المستور، لكن تصادر لأن فيها ما قد يهين حاكماً، أو يعري وضعا اجتماعيا فاسدا أو غير ذلك، وأحياناً يساهم الكتاب الساخرون أنفسهم في ذلك، حينما يحولون الكتابة الساخرة الى نوع من النكت التافهة». صادق: نعيش حالة من الركود العقلي ويعلق الدكتور عادل صادق استاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة قائلا: «الكتابة الساخرة تحتاج لأديب من نوع خاص، أديب اجتماعي ـ إن صح التعبير ـ لديه قدرة على النقد اللاذع وصياغته في قالب أدبي، وهؤلاء قليلون في العالم كله، ويختفي هذا النوع من الأدب لأحد سببين في الغالب، إما لوجود حالة من الركود أو الخمول العقلي، أو لوجود استقرار سياسي، وما يحدث الآن يؤكد ان العالم العربي يعيش حالة من الركود العقلي، ولذلك أصبحت الشخصية العربية شخصية باهتة، وهذا لا يكفي لاستفزاز الكاتب الساخر، والأمل في استعادة هذا النوع من الكتابة مرتبط بأن يسترد الناس وعيهم».