إنها العاشرة مساء بمدينة «فييلا» كبرى مدن وادي آران النائي بجبال البرانس، وذلك هو الوقت الذي تبدأ فيه المطاعم تقديم وجبة العشاء؛ حيث يبدأ الزبائن الفارون من ضجيج المطاعم التي تقدم مقبلات التاباس في التدفق عليها. ولا تفتح أي من الملاهي الليلية في فييلا أبوابها قبل منتصف الليل، فذلك هو نمط الحياة في إسبانيا الذي يحمل إيقاعا مختلفا للحياة ويعكس فن الاستمتاع بها.
هنا في الولايات المتحدة، تركز رحلات التزلج في العادة على الاستمتاع بالجليد وبالتزلج كرياضة، ولكن الأمر مختلف تماما في إسبانيا، حيث يقتصر التزلج على برهات قصيرة تتخلل فترات الاستمتاع بتناول الطعام؛ حيث يماثل الطعام الشهي وتناول الغذاء الشهي والسهر حتى منتصف الليل وتناول العشاء مع الأصدقاء، ممارسة رياضة التزلج على الجليد في أهميتها بل ربما يتجاوزها كذلك.
دعنا نقر أولا أن الشخص الذي يرغب في قضاء عطلة لن ينفق ذلك القدر الطائل من المال، ويواجه عائق اللغة ويعاني من اضطرابات الرحلات الجوية الطويلة، التي يضطر بعدها لقيادة السيارة لمدة أربع ساعات ونصف حتى يصل إلى مدينة بوادٍ جبلي ناءٍ لمجرد البحث عن المنخفضات المثالية لممارسة رياضة التزلج. بل إن الرغبة في استكشاف أماكن جديدة هي ما تدفع هؤلاء الأشخاص لعبور الأطلنطي. فأنا أسافر لاستكشاف آفاق جديدة، ولكي تطأ قدمي ذلك الطريق الملتف حول حظائر الماشية التي تنبعث منها رائحة الأبقار الحقيقية، بالإضافة إلى الاستمتاع بتناول أطباق «غامبا أجيلو»(الجمبري بالثوم) ببطء في إحدى تلك البارات التي يملأها صخب الحوارات المتبادلة بين الزبائن بثلاث أو أربع لغات مختلفة أو لتناول وجبة الغداء بأحد المطاعم الصغيرة التي يقدم فيها طبق «الفواغرا» (كبد البط أو الأوز) يليه مكعبات لحم الحمل التي تم طهيها على الفحم.
ربما تستطيع التزلج على الجليد أو الوصول إلى إحدى القمم الثلجية في العديد من المنتجعات الأخرى الموجودة في الألب أو الغرب الأميركي ولكن نظام الحياة المختلف، ومقبلات التاباس، وذلك المزيج من المطبخ الفرنسي - الإسباني، واللغة الآرانية، والينابيع الدافئة والسهر طوال الليل؛ كل هذه الأشياء لا يمكن أن تجدها إلا في هذا الوادي المتفرد الذي يختبئ خلف القمم الوعرة: إنه ذلك المكان الخيالي الخلاب بين إسبانيا وفرنسا.
يمتد «وادي آران» من الشرق إلى الغرب، وهو الوادي الوحيد في البرانس؛ الذي يشكل حده الشمالي جزءا من حدود إسبانيا الحديثة مع فرنسا. كما أن ذلك الوادي المنعزل ذا الشتاء القارص هو المكان الوحيد الذي لم يخضع أبدا للتقسيم الإقطاعي سواء لصالح فرنسا أو إسبانيا، كما أنه شكل واحدا من أوائل المجتمعات في أوروبا. ونظرا لحصوله على شكل من أشكال الحكم الذاتي، فقد شكل الأرانيز نموذجا للحكم يسمح بالمشاركة في المنتجعات والغابات والأراضي القابلة للزراعة.
ويعكس اسم الوادي دوره كنقطة التقاء بين ثقافة البحر المتوسطة الكاتالونية وتأثير الباسك الأطلسي؛ حيث إن «فال» هي المعنى الكاتالوني لكلمة «وادي»، و«آران» هي المعنى الباسكي لكلمة «وادي» أيضا، وبالتالي فإن الترجمة المثالية لاسم الوادي هي «وادي الوادي».
في أعقاب الحرب الأهلية الإسبانية، اختبأ الجمهوريون الخاسرون هنا عدة سنوات، حتى تمكنت قوات فرانسيسكو فرانكو من أن تحفر في النهاية نفقا يمر عبر الجبال لكي تصل لآخر معاقل التمرد. وذلك حيث تم شق أول طريق للسيارات عبر بونيغا باس في 1925، وتم الانتهاء من إنشاء النفق الذي يصل الوادي بالجنوب في 1948.
ويظهر الوادي المعاصر خليطا من الطرز المعمارية، فيما تنتشر رافعات البناء من بدايته إلى نهايته. المجمعات السكنية، الأبنية الإدارية العتيقة، الأثاث الخشبي التقليدي، القرى المصنوعة من الحجر وصخور الأردواز، والقرى الصغيرة التي أنشئت لكي تبدو وكأن القرى التقليدية تتصل جميعها عبر الوادي من خلال الطريق الذي يتبع مسار نهر غارونا. وفي الجهة الشرقية من الوادي، تنتشر مصاعد التلفريك في سلسلة كبيرة من الممرات التي تمنح المتزلجين فرصة التزلج في المنحدرات الثلجية غير الممهدة، يذكر أن قرية باكويرا الأصلية تم إنشاؤها كمنتجع للتزلج عام 1964، وتتسم هذه القرية بأنها قرية معاصرة للغاية ولكن عمليات التطوير الحديثة التي تمت بها تحاكي الطراز المعماري التقليدي لجبال البرانس الذي يعتمد على الأحجار. وفي عام 1985، تم تزويد القرية بتلفريك جديد أو ما يسمى بمصاعد التزلج لنقل المتزلجين في وادي بيريت. حيث تلتقي باكويرا وبيريت ويشكلان معا ما يعرف باسم باكويرا - بيريت. ومنذ العام الذي تم توحيد الواديين فيه، تم توسيع المنتجع وإضافة المزيد من مصاعد التلفريك به، بالإضافة إلى الفنادق الجديدة. ومن مميزات السهر حتى الساعات الأخيرة من الليل في إسبانيا هي أنك تستطيع أن تجد ملجأ من زحام ساعات الصباح المبكرة؛ حيث يتمكن من يصل إلى منطقة الفنادق مبكرا أن يجد مكانا لركن سيارته، ونظرا لأنك تحتاج وقتا حتى تصل إلى المنحدرات العليا، تظل الطرق خالية حتى الساعات الأخيرة من الصباح.
وبتناول وجبة الغداء الملائمة التي تبدأ في حوالي الثانية ظهرا فإن أي متزلج متحمس سوف يجد وقتا كافيا للتزلج على الجليد قبل بدء حفلات ما بعد التزلج. في البداية يمكنك تناول الغذاء على المرتفعات، تنزل بعدها من الجبال. وبعد أن يغتسل المتزلج سريعا ويحصل على قيلولة قصيرة، يتوجه إلى شوارع القرية لتناول مقبلات التاباس.
في العادة كنت أعتبر تناول مقبلات التاباس هو وجبة العشاء بالنسبة لي خاصة إذا كنت تناولت وجبة غداء مشبعة. وعلى الرغم من أنني قضيت سنوات من السفر إلى إسبانيا، وعلى الرغم من أنني أحب وجبات العشاء المتأخرة، فإنني وصلت إلى السن التي أصبح فيها تناول العشاء في منتصف الليل ثم التوجه مباشرة إلى السرير ليس هو الوصف الصحيح دائما للنوم الصحي. ولكن بالطبع، إذا كنت سوف أخرج للسهر في الملاهي الليلية ولن أعود إلى الفندق قبل الثانية صباحا، سيكون هناك ما يكفي من الوقت لهضم العشاء المتأخر.
على أي حال، فلكل شخص إيقاعه الخاص وهناك دائما طريقة للاستمتاع بالحياة والحصول على ما يكفي من الوقت على الجليد.
وكما قال أحد أصحاب منتجعات التزلج في الإعلان الذي نشره قبل عدة أعوام: «إنه الثلج الغبي» وبالطبع هو كذلك. والذي من دونه ما كانت تلك المنتجعات لتعج بالسائحين الذين يتحدون قسوة الشتاء. ويكسو الجليد كل متر من باكويرا - بيريت، وحتى في السنوات التي انخفضت فيها معدلات تساقط الجليد، اكتست المراعي بطبقات كثيفة من الجليد الصناعي وكانت جميع مصاعد التلفريك تعمل. وبالطبع لا بأس من وجود عدة أقدام من الزغب الجليدي الطبيعي؛ حيث تشهد قمم جبال البرانس تساقط الزغب الجليدي الشاذ بالنسبة لموقعها على البحر المتوسط.
ويوجد حاليا بالوادي 32 تلفريكا لخدمة مساحة تقدر بحوالي 4749 أكرة، مما يفوق أي منتجع آخر في أميركا الشمالية ومنتجع أولمبياد 2010، بالإضافة إلى أنه يفوق كذلك كلا من فيل أو كلينغتون. وفي معظم الأحوال، تتساقط الثلوج بكثافة وعمق، حيث تتراوح ما بين 500 إلى 650 في الشتاء وهو ما يشبه معدلات تساقط الجليد في منتجعات يوتا. وبالإضافة إلى شمس إسبانيا التي تسطع لنصف الوقت تقريبا؛ يمثل باكويرا - بيريت المكان الملائم للتزلج. وبالفعل كانت الأجزاء المرتفعة من المنتجع تكتسي بقاعدة جليدية تصل إلى ثلاثة أقدام تقريبا.
وتعد الأراضي الممتدة بين القطاعات الرئيسية الثلاثة (بيريت، إلى أقصى الغرب، وباكويرا التي تشتمل على منطقة الفنادق والتلفريك، وبونيغوا إلى الشرق عند قمة الجبل) هي نقطة الوصل بين الوادي وكاتالونيا. في البداية،، ولكن في الوقت الراهن يخدم الجندول منطقة الفنادق الرئيسية بالإضافة إلى التلفريك الذي يمكنه نقل ستة راكبين وبسرعة عالية.
ولكي تقضي يوما بتلك المرتفعات عليك الاختيار بين البقاء في قطاع الباسك الذي يقع إلى اليمين والذي يمكنك التنقل منه بالجندول أو بالتلفريك الذي يقل الركاب من منطقة الفنادق الرئيسية - أو تتجه غربا إلى منطقة بيريت بواسطة التلفريك الذي لا يقل سوى راكبين أو تستقل التلفريك الذي يقل 3 ركاب إلى بونيغا.
يختار كثير من المبتدئين ومتوسطي المستوى قضاء اليوم في قطاع الباسك؛ حيث يمكنهم البقاء تحت عيون مدربيهم اليقظة. حيث يرتقي هؤلاء المتزلجون المبتدئون المرتفعات من خلال ما يعرف بالسجادة السحرية (مصاعد مخصصة لنقل المتزلجين إلى قمم الجبال) ولا يتمكنون من النهوض إذا ما تعثروا. وينتصب مرتفع «كاب دي باكويرا» الوعر إلى جانب مدرسة التزلج، والكافتيريا والمطعم، ويتوج مرتفعاته ذلك النثار الثلجي.
وإلى الغرب منه، تغطي الحقول الشاسعة لبيريت الوادي الممتد المشمس. فيما تمر الطرق المتعرجة إلى الشرق منه حتى الجبال التي تصل الوادي بمنطقة كاتالونيا المجاورة. ومن جهة أخرى، أنصح الذين يخططون للتزلج في ذلك المنتجع ببيريت أن يصلوا بسيارتهم حتى المنطقة المخصصة لركن السيارات نظرا لأن نقطة الالتقاء بين الباسك وبيريت يمكن أن تكون صعبة على المتزلجين المبتدئين كما أنها تمثل نقطة انطلاق بالنسبة للمتزلجين باللوح. وبالنسبة لهؤلاء المتوجهين إلى الشرق يمكنهم الاختيار بين ثلاثة أنواع من التلفريك عالي السرعة الذي يسير على ارتفاع قدرة 8115 قدما ثم يتجه إلى الشرق من وادي أرغولس. ويصل التلفريك من ذلك الوادي المجعد وحتى أقصى شرق منطقة بونيغوا التي تصل هذه الجبال بكاتالونيا.
يهبط بعد ذلك طريق المتزلجين إلى الشرق من «كاب دي باكويرا» والذي يعتبر ممرا صعبا مثل كافة الممرات الموجودة على ذلك الطريق. وربما يرغب المتزلجون البارعون في اتخاذ طريق ميرادور للقيام برحلة مميزة. بينما يجب على المتزلجين متوسطي المستوى الذهاب إلى طريق بلا دي باكويرا الذي يصل حتى أرغولس.
ووفقا لإيقاعك فإن الجانب الرياضي سوف ينتهي عندما تذهب لتناول وجبة الغذاء أو تستقل التلفريك نزولا للالتقاء ببعض الأصدقاء لتناول مقبلات التاباس أو العشاء المتأخر. وينضوي القرار الذي سوف تتخذه هنا في إسبانيا على شكل من أشكال الإحساس الفني؛ حيث إنه سيحدد ماهية العطلة التي سوف تقضيها هنا.
* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»