ثورة «النانو» تنطلق.. ومنتوجاتها السحرية تعرض في طوكيو

كتاب يبشر بملابس مكيفة بوزن الريشة.. وطائرات فردية للتنقل اليومي

النانو حلم المستقبل («الشرق الأوسط»)
TT

أن يصبح رداؤك بسُمك شعرة حريرية غير مرئية، ويزن ما يوازي ملعقتين من الماء، مع أنه يغطي كامل جسدك كالجلد الذي يلتصق به. هذا كله لم يعد مجرد خيال علمي، بل أمر يحتاج إنجازه إلى بعض الوقت فقط.

ما نتحدث عنه هنا هو لباس سيؤهلك إلى أن «تلعب التنس في صقيع ألاسكا دون أن تشعر بالبرد. وهو مذهل في رقته، ومع ذلك يتكون من طبقتين، أو أكثر، تنزلق الواحدة فوق الأخرى مثل حراشف الأسماك. وكل صفيحة مجوفة بداخلها فراغ، وعليها غشاء عاكس لمنع انتقال الحرارة بالإشعاع. والرداء مزود بمضخات حرارية متناهية الصغر. فعندما تكون البيئة حارة جدا تقوم المضخات بضخ الحرارة لإبعادها عن جسمك، أما إذا كان الجو باردا فإنها تعمل كآلات حرارية تلتقط تسرب الحرارة من جسمك إلى الخارج».

هذا غيض من فيض الوعود العلمية التي ستجد طريقها إلى التحقق بفضل تكنولوجيا «النانو»، التي بدأت تحدث انقلابات جذرية في حياة البشر. وعلى الرغم من أن «الثورة النانوية» المنتظرة باتت معروفة لدى البعض، فإن القارئ العربي العادي، ربما لا يزال يجهل التحولات العاصفة التي تنتظره في غضون السنوات المقبلة بفضل هذه التكنولوجيا الجديدة. ويكشف كتاب «المستقبل النانوي» للباحث جون ستورس هول الذي جرت ترجمته حديثا إلى العربية، عن التغيرات التي ستلحق بتفاصيل حياتنا وتطال المأكل والملبس والمشرب، كما الأثاث المنزلي، والسيارات، والطبابة، وكذلك الحواسيب والتلفونات.

وباختصار، فإن تقنية «النانو» ستغير كل شيء، وقد بدأت بالفعل. إذ نزل إلى الأسواق ما يزيد على 700 منتج جديد كلها من نتاجات هذه التقنية أو استفادت منها.

الـ«نانومتر» هو وحدة قياس تستخدم لقياس الأطوال المتناهية في الصغر. وهو جزء من مليار جزء من المتر. ولتشبيه ذلك يقال إن سُمك الشعرة الواحدة للإنسان يساوي 50000 نانومتر. وأن يتوصل العلماء إلى العمل على مواد بهذا المقياس، يعني أنهم سيتمكنون من تفتيت ذرات أي مادة، وإعادة جمع هذه الذرات أو خلطها بذرات مادة أخرى، للحصول على مواد ذات تركيبات فولاذية، ومختلفة جوهريا عن المادة الأصل.

وصدور كتاب «المستقبل النانوي» عن «المنظمة العربية للترجمة»، وبدعم من «مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم»، يترافق مع مجموعة أحداث تؤكد أن تكنولوجيا «النانو» بدأت تصبح جزءا من واقعنا. فقد أعلن قبل نهاية السنة الماضية في العاصمة البريطانية، لندن، عن التوصل إلى عمل شريان صناعي، بواسطة تقنية «النانو» المتناهية الدقة، من «البوليميرات» يشبه القنوات الدموية البشرية، يحتمل الضغط الدموي ويقاوم الانفجار. وهذا الشريان سيمكن الجراحين من استخدامه كمعبر جانبي بدلا من أحد الشرايين المصابة أثناء العمليات الجراحية. ومنذ أيام فقط تم الإعلان عن جهاز «نانوي» بمقدوره أن يكشف عن وجود سرطان في الجسم، أو أعراض ذبحة قلبية، بسهولة متناهية، وحتى دون نقل المريض إلى المستشفى. وقال الخبر الذي نقلته «ذي غازيت» الكندية إن بمقدور الجهاز القيام بهذه المهمة التي كانت تحتاج تجهيزات ضخمة في سيارة الإسعاف أو عيادة الطبيب أو أي قرية أفريقية نائية. فالجهاز يقوم بعمله بطريقة أوتوماتيكية بسيطة للغاية.

ويقربنا هذا الخبر مما تحدث عنه طويلا، علماء تكنولوجيا «النانو» بخصوص التطورات الطبية المنتظرة، التي ستتوصل إلى صناعة روبوت بحجم متناهي الصغير يستطيع التجول في شرايين الإنسان، وأوعيته للقيام بأعمال جراحية، أو ضرب خلايا سرطانية والقضاء عليها دون جراحة.

وما كان يعتقد أنه ضرب من الخيال يبدو أنه بات واقعا. وعلى الرغم من الأخبار السعيدة التي تزفها تقنية «النانو» للبشر، فإن ثمة من يتخوف من بعض العواقب التي قد تكون وخيمة. فالنتاجات «النانوية» بدأت تنزل إلى الأسواق دون أن ينتبه المستهلك أغلب الأحيان إلى أنها مختلفة عن غيرها. ولقد حذرت منظمة «غرين بيس» لحماية البيئة منذ سنوات، من أن مئات المنتوجات التي يستخدمها الإنسان اليوم، صنعت بفضل التكنولوجيا «النانوية» مثل بعض أنواع دهانات السيارات والماكياج وحتى بعض أنواع الملابس التي لم تشهد بعد انتشارا واسعا. لكن لا توجد أي دراسات تؤكد أنها لن تؤثر سلبا على مستخدميها أو على البيئة، مما يستدعي الحذر والتمهل.

وإذا كان البعض يطلق صيحات الفرح احتفاء بتقنية ستتمكن من تصغير المواد والمعدات بحيث تتمكن من صنع المعجزات، فإن ثمة من يتخوف من هذه القدرة على التصغير التي قد تحرك كوامن الشر عند بني البشر. صحيح أنه بفضل تقنية «النانو» يعدنا مؤلف كتاب «المستقبل النانوي»، ببدلة للمستقبل، هي نفسها شاشة كومبيوترية، فيما يصبح الجوال، مثل كل المعدات التقنية الأخرى التي يحتاجها الإنسان في يومياته، جزءا من هذه البدلة التي بوزن الريشة. لكن ثمة من يحذر أيضا من أن التوصل إلى تصنيع أدوات صغيرة شديدة الفعالية، سيجعل من قنبلة لا ترى بالعين المجردة - توضع في أي مكان - مثلا، قادرة على تدمير مساحة هائلة. والمخاوف الكبرى تأتي من أن تفتح تكنولوجيا «النانو» بمعداتها الصغيرة وشبه المرئية شهية العسكريين على سباق محموم لتسلح من نوع مبتكر للغاية.

يكاد لا يمر أسبوع إلا ونقرأ جديدا عن اختراع «نانوي» في الصحف الغربية، مما يعني أن الباحثين يعملون بجهد كبير في هذا المجال، وترى الدول النامية أن فرصتها كبيرة في اللحاق بالثورة النانوية بعد أن فاتتها الثورات السابقة. ففي شهر يونيو (حزيران) من العام الفائت وافق مجلس جامعة القاهرة على تمويل «مركز لبحوث النانوتكنولوجي» تقدر قيمته بنحو 150 مليون جنيه، على ثلاث سنوات، بهدف نشر هذه التكنولوجيا في مصر، وتنفيذ عدد من المشروعات في مجال الطاقة وتحلية المياه. وقد جرى التعاقد مع 10 علماء مصريين يعملون في الولايات المتحدة للعمل في المركز، كما سيصار إلى ابتعاث باحثين مصريين إلى أوروبا وأميركا للتدرب على أبحاث «النانو». والمملكة العربية السعودية ليست بعيده عن الاهتمام بتكنولوجيا «النانو»، إذ ثمة تعاون بين جامعة الملك فهد ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي) الأميركي - إحدى أرقى وأهم الجامعات الرائدة في العلوم التطبيقية والهندسة في العالم - للعمل على 11 مشروعا في مجال الطاقة وتحلية المياه وتكنولوجيا «النانو» (أو النانوتكنولوجي).

إلى ذلك، شهدت، وتشهد، منطقة شرق آسيا حدثين كبيرين، يجمعان الباحثين والخبراء في مجال تكنولوجيا «النانو»، الأول هو مؤتمر بدأ أعماله في الثالث من الشهر الحالي في هونغ كونغ، بهدف تبادل المعلومات وتنسيق الخبرات في ما يتعلق بالابتكارات التكنولوجية، ومدى استفادتها من تقنيات «النانو». أما الحدث الثاني فتشهده العاصمة اليابانية، طوكيو، بدءا من 17 فبراير (شباط) المقبل، ويستمر حتى 19 منه، وهو معرض كبير يشارك فيه 500 عارض من 20 دولة يقدمون آخر ابتكاراتهم في مجال تكنولوجيا «النانو»، وهو ما ينتظر منه أن يكشف عن المزيد من المفاجآت السحرية، التي بقيت في ذهن الإنسان مجرد خيالات علمية، وتمنيات وهمية.

وإذا كان موضوع تكنولوجيا «النانو»، لا يزال غير واضح بشكل كاف للقارئ العربي، بينما تتسابق المختبرات العالمية على تسجيل الاختراعات العجائبية التي يمكن أن تحققها بفضل هذه التقنيات الجديدة، فإن كتاب «المستقبل النانوي» بمقدوره أن يقدم فكرة وافية لقارئه بلغة سهلة وشيقة.

ومن طرائف ما يذكره الكتاب أن تكنولوجيا «النانو» ستتوصل في القريب إلى اكتشاف وسائل لمنع الحمل للشريكين، أسهل وأسلم من تلك التي عرفها الإنسان حتى اليوم، كما أنها ستتمكن من الحد بشكل كبير من انتشار الأمراض الجنسية المعدية، مما سيغير السلوك الجنسي للبشر، ويحدث انقلابا جديدا على غرار ما عرف بعد اكتشاف حبوب منع الحمل في الستينات من القرن الماضي.

ومن الأفكار الطريفة أيضا في الكتاب توقعه اختراع طائرات فردية شراعية آمنة، باستطاعتها أن تؤمن التنقلات اليومية دون إرباكات وضجيج الطائرات الموجودة حاليا. إنه زمن «النانو» الذي يعدنا فيه العلماء بأن كل شيء سيصبح ممكنا.