المصرفيون الأميركيون نفد صبرهم إزاء اللوائح البريطانية الجديدة

المصارف تعيد النظر في تمسكها بلندن كمركز مالي

بريطانيا أول دولة تتخذ إجراءات لكبح جماح إجراءات صرف المكافآت في القطاع المصرفي (أ.ب)
TT

كان من شأن متطلبات جديدة فرضتها الجهة التنظيمية البريطانية المعنية بالأوراق المالية تقضي بضرورة إرجاء كبار المسؤولين التنفيذيين المصرفيين تسلم 60 في المائة من إجمالي مكافآتهم لمدة ثلاث سنوات، زيادة مشاعر السخط داخل بعض المصارف الأميركية ذات النشاطات المكثفة في لندن، مما دفعها لإعلان نفاد صبرها حيال التنظيمات البريطانية. حاليا، تتزايد الضرائب المفروضة على هؤلاء المسؤولين، في الوقت الذي تحولوا فيه إلى ألعوبة في أيدي السياسيين. وبينما تشهد الصناعة المصرفية واحدا من أغنى المواسم من حيث العلاوات والمكافآت في السنوات الأخيرة، يملي عليهم المشرعون كيفية صرف مكافآت - أو بمعنى أدق، عدم صرف مكافآت - لموظفيهم.

منذ قرابة شهر مضى، أخطرت «هيئة الخدمات المالية»، التي أصبحت العام الماضي أول جهة تنظيمية في العالم تعلن خططا محددة لكبح جماح إجراءات صرف المكافآت في القطاع المصرفي، المصارف الـ26 الخاضعة لسلطتها بأن أي مسؤول تنظيمي أو مضارب أو مصرفي يحصل على علاوات، بقيمة مليون جنيه إسترليني أو ما يزيد، لن يتمكن من الاستفادة فعليا في الحال إلا بـ40 في المائة فقط منها. أما باقي المبلغ، فسيرجأ تسلمه ثلاث سنوات، مع فرض مزيد من القيود على متى يمكن للمصرفيين صرف مكافآتهم وكيف.

من الناحية الظاهرية، لا تبدو الخطوط الإرشادية الجديدة متعارضة تماما مع توجه متنام داخل القطاع المصرفي لتمديد فترة الاستحقاق بالنسبة للمكافآت التي تقدم في صورة أسهم في محاولة لتثبيط الموظفين عن الإقدام على مراهنات فيما يخص رأسمال الشركة تنطوي على مخاطرة بالغة، سعيا لجني أرباح قصيرة الأجل.

وتأتي الخطوة الأخيرة من قبل «هيئة الخدمات المالية» في أعقاب أخرى أثارت سخطا عاما شديدا من جانب الحكومة البريطانية لفرض ضريبة قيمتها 50 في المائة على علاوات المصرفيين. وعليه، ينظر البعض إلى قرار الهيئة الأخير باعتباره «القشة التي قصمت ظهر البعير». على الجانب الآخر، شرعت بعض المصارف الأجنبية العاملة هنا - «جيه بي مورغان تشيس» و«غولدمان ساكس» على وجه التحديد - في إعادة النظر في ما أبدته في يوم من الأيام من تمسك قوي باستغلال لندن كمركز مالي حيوي ومركز للعمليات.

في هذا السياق، أعرب ستيوارت فريزر، رئيس شؤون السياسات لدى حي المال والأعمال في لندن، عن اعتقاده بأنه «من الخطير للغاية الاضطلاع بدور الريادة على صعيد سن تشريعات من هذه العينة، فهذا لن يجدي سوى دفع الناس للفرار». جدير بالذكر أنه في وقت سابق من العام الماضي، أجرى جيمي ديمون، الرئيس التنفيذي لـ«جيه بي مورغان تشيس» اتصالا هاتفيا مع ألستر دارلينغ، وزير الخزانة البريطاني، للإعراب عن عدم رضاه عن الضريبة الجديدة؛ وكان بذلك الرئيس الوحيد لمصرف أميركي يجري مثل هذا الاتصال، حسبما أفادت مصادر بوزارة الخزانة البريطانية. أثناء المحادثة، قال ديمون إن «جيه بي مورغان تشيس»، الذي يوظف 15000 شخص داخل بريطانيا، ليس جهة مهمة بين دافعي الضرائب فحسب، وإنما أيضا يسهم في استثمارات تبلغ 2.4 مليار دولار في «كناري وارف» ولم يحصل على أي إعانات حكومية. كانت صحيفة «ديلي تلغراف» أول من أشار إلى هذه المحادثة التي أثارت اهتماما بالغا في لندن، حيث رأى فيها البعض مؤشرا أوليا على أن التنظيمات المتزايدة ستدفع المصارف لنقل نشاطاتها إلى مراكز أخرى؛ ربما جنيف أو نيويورك أو فرانكفورت أو سنغافورة.

بيد أن الموقف أشد تعقيدا من ذلك، حيث أشار أحد المصادر التي اطلعت على المحادثة إلى أنه في الوقت الذي ينتاب فيه «جيه بي مورغان تشيس»، مثلما هو الحال مع معظم المصارف الأخرى، غضب بالغ حيال الضريبة الجديدة، فإن المحادثة التي دارت بين ديمون ودارلينغ سادتها الكياسة ولم تنطو على تهديد بإمكانية سحب المصرف استثماراته من مشروع «كناري وارف». في الواقع، كانت هناك أسباب أخرى قبل الإعلان عن الضريبة قلصت جاذبية المشروع من وجهة نظر المصرف؛ خاصة تسريح المصرف الآلاف من موظفيه منذ بدء المشروع عام 2008، وبالتالي لم يعد المصرف في حاجة لمثل هذه المساحة الضخمة. ومع ذلك، تبقى الرسالة وراء المحادثة، حتى وإن لم يعلن عنها صراحة، واضحة: هناك حدود لما يمكن للمصارف قبوله كثمن للاضطلاع بنشاطات تجارية داخل المركز المالي الأوروبي الأول. في الواقع، يشتهر المصرفيون بوجه عام بأنهم من أكثر الفئات التي تطلق تهديدات ووعيدا. المؤكد أن إقدام لجنة معنية بالشؤون الاستراتيجية على دراسة إمكانية نقل جزء من نشاطات المصرف إلى مكان بديل، مثلما فعل «غولدمان ساكس»، شيء، ونقل ألفي مصرفي وموظفين آخرين، على سبيل المثال، إلى دولة أوروبية أخرى شيء مختلف تماما من الزاويتين اللوجستية والمالية، بغض النظر عن حجم الإغراءات وراء هذه الخطوة فيما يخص العلاوات والمكافآت. في هذا الصدد، أوضح أندرو هيلتون، الذي يتولى إدارة «سي إس إف آي»، وهو مركز بحثي مقره لندن يعنى بالقضايا المالية، أن «هناك عقود استئجار لمدة 25 عاما، وكل موظف لديه أطفال بالمدارس. من الصعب إقدام مصرف على إعادة النظر في مجمل شؤونه». على ما يبدو، يشكل المصرفيون في كل مكان الآن هدفا مغريا للهجوم، خاصة في ظل وجود توقعات بوفرة العلاوات وتنامي التوقعات بأن معاودة المصارف تحقيق أرباح يشجعها على العودة إلى خوض مخاطر تجارية على النحو الذي سبق وأسفر عن الأزمة المالية العالمية. إلا أن بريطانيا، رغم اعتمادها الشديد على القطاع المالي لدفع عجلة اقتصادها وجني عائدات ضريبية، تعد واحدة من الدول القليلة التي أقدمت على إجراءات ملموسة ضد التجاوزات المصرفية. ومع تزايد احتمالات أن يحذو المشرعون في العواصم الأوروبية المجاورة، ناهيك عن نيويورك ذاتها، حذو لندن، ربما لا تتوافر أمام المصارف أماكن للاحتماء بها. في هذا الإطار، قال لوسيان إيه. بيبتشوك، بروفسور التمويل في جامعة هارفارد ومستشار وزارة الخزانة الأميركية حول شؤون الرواتب والأجور: «ربما تكون المملكة المتحدة في المقدمة، لكنها ليست الدولة الوحيدة التي تسير في هذا الاتجاه، وإنما تعد تلك وجهة نظر تحظى بالإجماع في مختلف أرجاء العالم».

*خدمة «نيويورك تايمز»