العراق: محاولات لتطوير نظام الصحة العقلية.. والبعض يراه مضيعة للوقت

افتتاح مركز لعلاج الصدمات النفسية.. وزواره جنود سابقون وضحايا العنف

TT

في بعض اللحظات، يسمع الجندي السابق فاضل كاظم عادل شخصا يهمس باسمه في أذنه اليمنى. يبدو الصوت الذي يحدثه صوتا ودودا يشبه صوت أمه أو أبيه، ولكنه عندما ينظر حوله لا يجد أي أحد إلى جواره.

أدار عادل، 43 عاما، رأسه لكي يظهر لنا الجزء المتبقي من أذنه؛ حيث تعرض لعملية بتر أذن من دون مخدر في عهد صدام حسين كعقاب على هروبه من الجيش عام 1987، أثناء الحرب العراقية الإيرانية. ومنذ ذلك الوقت، يسمع عادل تلك الأصوات، وأسوأ منها.

فيقول بملامح غير معبرة: «لقد ذهبت إلى الأطباء وقالوا لي: (ما مشكلتك بالضبط؟)، فقلت: (مكتئب)، فأعطوني بعض الأدوية، ولكنها أصابتني بالهلوسة. وبالتالي، كنت في حاجة إلى أن أتحدث إلى أحد».

وعلى الرغم من أن نظام الرعاية العقلية في العراق كان من أكثر الأنظمة تطورا في المنطقة، فإنه بحلول عام 2006 أصبح عدد الأطباء النفسيين يقل عن 100 طبيب، في بلد يبلغ عدد سكانه نحو 30 مليون نسمة، ولم يكن في العراق علماء نفس تقريبا. وكان يتم عزل المرضى في مؤسسات لديها عجز في فرقها الطبية، وبعيدا عن عائلاتهم ومجتمعاتهم.

ولكن الحكومة بدأت مشروعا طموحا لإعادة بناء نظامها المتداعي للرعاية الصحية العقلية في بلد يتجاوز فيه عدد من يعانون من التوترات والصدمات النفسية المعدلات المعتادة. وسيعتمد ذلك البرنامج على شبكة من العيادات المتصلة، مع الحرص على رعاية المرضى الذين لا يقيمون في تلك المستشفيات واحترام حقوق المرضى، وهو تغيير راديكالي للنظام الحالي للرعاية العقلية، الذي يعتمد على استخدام الأدوية والعلاج بالصدمات الكهربائية وهي العلاجات التي يتم استخدامها عادة من دون الحصول على موافقة المريض.

في أحد المساءات الماضية، جلس عادل مع أحد الأطباء بمركز سارة لعلاج الصدمات النفسية، وهو أول عيادة على مستوى البلاد بأكملها لعلاج الاضطرابات النفسية اللاحقة للصدمات. ويعمل في المركز، الذي تم افتتاحه في 18 ديسمبر (كانون الأول)، طبيب نفساني، وطبيب التأمين الصحي، وطبيب النساء، وإخصائي اجتماعي، وهم يعملون كفريق عمل.

ومن جهته، يقول الدكتور عقيل الصباغ، الاستشاري النفسي للمركز: «هذه أول مرة يكون لدينا فيها شيء مثل هذا. ففي العراق، يشبه الطبيب النفسي إلى حد كبير الديكتاتور، فحتى زملائي يسألونني في بعض الأحيان: (لماذا تتحدث إلى الممرضة؟)، ولكننا نرى في الولايات المتحدة الممرضة والطبيب النفسي وعالم النفس والإخصائي الاجتماعي، يتحدثون جميعا معا حول المريض».

وفي عام 2008، سافرت ست فرق من العراق لقضاء شهر داخل أحد المنشآت بالولايات المتحدة، كان يركز كل منها على مجال مختلف للرعاية. ومن المقرر أن يتم إرسال المزيد من تلك الفرق خلال العام الحالي بتمويل من وزارة الصحة العراقية وإدارة خدمات الصحة العقلية الأميركية.

ومن جهة أخرى، سوف يستغرق إعادة بناء نظام فعال للرعاية الصحية سنوات كثيرة، وبالتالي، فإنهم بدءوا في الوقت الراهن تدريب الأطباء الأساسيين على تشخيص الاضطرابات البسيطة وعلاجها.

فخلال العام الماضي، حصل 360 من الأطباء الأساسيين على أسبوعين من التدريبات المكثفة حول الاكتئاب، والتوتر، والذهان، وغيرها من الأمراض من خلال استخدام منهج دراسي تم إعداده في لندن ونيجيريا. يقول الدكتور صباح صادق، رئيس القسم الدولي الشرق - أوسطي لأطباء النفس بالجامعة الملكية والذي يتعاون مع البرنامج: «يمثل ذلك البرنامج نقطة تحول بالنسبة إلى خدمات الرعاية الصحية العقلية في العراق، نظرا إلى أهمية دمج العلاج مع أنظمة الرعاية الصحية الأساسية».

وبالنسبة إلى عادل، فكان ذلك التغيير يعني بداية جديدة. فقد هرب عادل كجندي من الحرب ضد إيران عام 1987، بعدما قتل أخوه فيها، ولكنه سرعان ما اعتقل وعوقب ببتر جزء من أذنه. يقول عادل واصفا الألم: «بدأت في البكاء والصراخ. ثم وضعونا في حجرة صغيرة، بها مئات السجناء، من دون مكان ننام فيه. وكان علينا أن نتبرز ونتبول في الحجرة نفسها، فأصابتني الهلوسة بعد تعرضي لارتفاع شديد في درجة الحرارة». وأطلق سراحه بعدما قضى عاما ونصفا في السجن، ولكنه أصبح يعاني من الاكتئاب، كما فقد توازنه عند السير. يقول عادل: «لم أكن أرغب قط في العلاج، فقد كنت أريد أن أتحدث إلى أحد»، يقصد العلاج بالأدوية المضادة للاكتئاب.

ولكن حتى اكتشف مركز سارة خلال الشهر الماضي، لم يكن عادل قد قابل إخصائيين يستطيعون تقديم العلاج النفسي إلى جانب العلاج بالأدوية. ومنذ ذلك الوقت، انضم إلى برنامج يطلق عليه العلاج السلوكي المعرفي، يتم وصفه لعلاج ضحايا الصدمة ومساعدتهم على التغلب على الذكريات الأليمة التي تطاردهم. فيقول: «لكي أكون صريحا، لم أكن رأيت ذلك سوى في الأفلام، ولم أكن أعرف ماهيته، فقد أخبروني أن أي شيء أقوله سوف يظل سرا بيننا، وبالتالي كنت أتحدث بحرية، كما أنني لم أخضع لمثل ذلك النوع من العلاج قبل ذلك في حياتي».

وأضاف عادل أن شفاءه التام لن يكون أمرا سهلا، مؤكدا أنه حتى بعد إعدام صدام حسين لم يشعر سوى بالحزن، فيقول: «ربما لأنهم لم يعذبوه، فقد كان يجب عليهم أن يقطعوا أذنه ويعذبوه، لقد كان موته رحمة به». وعلى الرغم من أن وزير الصحة العراقي، الإخصائي النفسي في الأساس، يدعم ذلك البرنامج، يقول الدكتور صباغ إنه كان يلقى معارضة من نظرائه، فقال في اجتماعات بالمجلس العقلي الصحي ببغداد: «عندما كنت أتحدث عن العلاج النفسي والتعامل مع المرضى، قال لي أحد زملائي إن ذلك مضيعة للوقت، وعندما طالبت بتمويل لتدريب فريق العمل قالوا: (ذلك مضيعة للوقت، لماذا لا نخصص تلك الأموال للأدوية؟)».

وأضاف الدكتور صباغ أن بعض الطرق العلاجية الأميركية أثبتت أنها غير ملائمة للعراق، ففي أحد المراكز العلاجية بباتل كريك بميتشيغان، أثنى المدير على فريق مركز سارة لاستعانته بالعلاج بالكلاب، والذي ينظر إليه العراقيون على اعتباره غير نظيف وخطرا.

وفي إحدى الغرف بمركز سارة، كان محمد زيارة، 11 عاما، يلعب إحدى ألعاب الفيديو العنيفة التي يطلق عليها «مقاتل الشوارع». وفي العام الماضي، كان أبوه قد دخل في مشاجرة مع الجيران وجاءت الشرطة لاعتقاله، وبالتالي افترض الولد وقوع السيناريو الأسوأ، فيقول: «عندما نشاهد التلفزيون، نجد أن الشرطة عندما تمسك بأحد الرجال يعذبونه ويقتلونه. وقد كنت أخشى أن يقتل»، ولكن حتى بعدما عاد أبوه إلى المنزل، استمر في المعاناة من الكوابيس، كما تدهور أداؤه في المدرسة. وعندما ضربه مدرسوه لارتكابه الأخطاء، أصبح يخشى الذهاب إلى المدرسة. وفي مركز سارة، قامت نضال سلطان، الإخصائية الاجتماعية بالتحدث إليه حول ليلة الاعتقال، وتحدثت إلى والديه ومعلميه بشأن استكشاف كيف أسهمت علاقاته في تعرضه لتلك الصدمة. فتقول نضال: «لقد طلبنا من المعلمين أن يعاملوه بلطف»، وبعد جلستين، قال محمد إنه يشعر بتحسن، وإنه لم يعد يخشى الذهاب إلى المدرسة.

* خدمة «نيويورك تايمز» يذكر أن ذلك المركز يخصص جزءا كبيرا من عمله لتلك المقاربات المجتمعية، حيث يقيم المركز جلسات للمدرسين، ورجال الدين، وضباط الشرطة، وغيرهم من الشخصيات العامة حول أهمية الرعاية الصحية العقلية، والتي تعد وصمة عار. فيقول دكتور الصباغ إن الكثير من مرضاه لجأ إلى المعالجين الدينيين أولا، والذين حاولوا إخراج العفاريت من أجسادهم بضربهم بالعصي، حتى أن أحد المرضى ذهب إليه ولديه كسور في عظام الترقوة.

في أحد الأيام الماضية، ذهب إلى المركز عدة مرضى يعانون من الصدمة، ولكن معظمهم كانت لديه مشكلات ليست لها علاقة بذلك: فهناك أم لديها طفل عمره أربعة سنوات فائق الحركة، ورجل يعاني من الاكتئاب بعد إخفاق علاقته الزوجية. ولكن الدكتور صباغ كان عقلانيا فيما يتعلق بالعلاج النفسي، مؤكدا أن الناس ليس لديهم مكان آخر يمكنهم الذهاب إليه.

ويتمنى العراق أن يعيد التفكير في مقاربته للصحة المهنية، بدءا من حقوق المرضى إلى أساليب العلاج، حيث إن حث الناس على الوصول إلى بداية الطريق - حتى إن لم يكن ذلك هو الطريق الأمثل - يعد بداية طيبة.