طنطاوي شجاع في المعارك.. واجتهد في التوفيق بين العقل والنص

قال إن الجبان هو من يخاف مواجهة عدوه.. والأزهر مؤسسة للدعوة وليس للتجارة والسمسرة

د. محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر (أ.ب)
TT

طوى الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر (82) عاما، صفحة مهمة من الجدل الديني السياسي في تاريخ مصر، برز فيها مفهوم «الإسلام دين ودولة» كمعول لبناء المجتمع والإنسان على أسس ومعايير شرعية صحيحة، بعيدا عن الدعوة بضرورة فصل الدين عن السياسة، والنظر إليه بمعزل عن مظانها وألاعيبها، وهي الدعوة التي راجت في ستينات القرن الماضي، ورأى فيها الكثير من المنظرين ورجال الدين نوعا من التعسف يصب في صالح السياسة، ويضفي عليها طابعا كهنوتيا، في مقابل إقصاء الدين، وحصره في نطاق العبادة ككينونة خاصة بين العبد وخالقه، لا علاقة لها بالمجتمع ومتغيرات الحياة.

فطن الدكتور طنطاوي إلى هذه الحقيقة، وسعى إلى تغييرها على أرض الواقع منذ تولي سدة الإفتاء في مصر في 28 أكتوبر (تشرين الأول) 1986، ثم بعد ذلك مشيخة الأزهر في 27 مارس (آذار) 1996 خلفا للشيخ جاد الحق علي جاد الحق، فاتسمت فتاواه بمساحة من اليسر، والاجتهاد، للتوفيق بين العقل والنص، وعدم إغفال عامل الخبرة كأحد مقومات التفكير، والحكم على الأشياء والظواهر.

ومن منطلق إدراكه لأهمية الدين في تشكيل الوجدان العام حافظ الشيخ طنطاوي على مسافة من التوازن بين رؤيته كعالم دين، وبين مواقفه السياسية، فخاض معاركه ومناوراته انطلاقا من النقطة الأولى، فالدين في رأيه هو رمانة الميزان، وأن الشعار السياسي مهما بلغ نبله ينبغي أن يوظف في خدمة الدين، وليس العكس، حتى لو تصارعا في لحظة ما، فينبغي أن يصب ذلك في خدمة المجتمع والناس.. وربما لذلك لم يأبه الشيخ طنطاوي كثيرا بخصومه التقليديين من السلفيين أو الإخوان المسلمين أو العلمانيين الذين دأبوا على انتقاد مواقفه وتصرفاته وفتاواه، من دون أن يلتمسوا له الحق في أن يقف على الحياد، أو أن يرى الأمور من وجهة نظر خاصة. ولقد أثبتت الكثير من مواقف الرجل وفتاواه أنه على صواب، وأنه ليس مجرد موظف يخضع لقاعدة «وجوب طاعة ولي الأمر». ظهر ذلك جليا في أزمة حظر الحجاب في فرنسا، داخل مؤسساتها الحكومية والتعليمية، فقد أجاز الشيخ طنطاوي للمرأة المسلمة في فرنسا عدم الالتزام بارتداء الحجاب تقيدا بقواعد دولتهم، وانقسمت الآراء حول موقف شيخ الأزهر، ووصل الأمر إلى حد وصفه من قبل المتشددين بالتواطؤ والتستر على «هجمة دولية على مظاهر الدين الإسلامي». الأمر نفسه مع أزمة النقاب الذي أشعلها شيخ الأزهر من جديد في أثناء مروره في أكتوبر الماضي بأحد المعاهد الأزهرية وطلب من طالبة في الصف الثاني الإعدادي كانت ترتدي النقاب أن تخلعه، مبينا لها أنه ليس بفريضة ولا سنّة، أجابته الطالبة بأنه يستر وجهها، فقال لها: «أنا أعلم منك ومن الذين خلفوك بأمور الدين»، وصمم شيخ الأزهر على ضرورة خلعها النقاب، وحين نفذت ما طلب عقب عليها قائلا: «يعني لو كنت حلوة شوية كنت عملتِ إيه؟».. ورغم الهجوم الضاري الذي تعرض له شيخ الأزهر في غبار هذه المعركة التي وصلت إلى ساحات القضاء، ووصفه من قبل البعض بأنه «فظ غليظ القلب»، فإنه لم يغير رأيه من النقاب. ولم يتوقف عن خوض معاركه في سبيل إعلاء وجه الدين الحق.. وكان أقسى ما يؤلمه أن يرى البعض في مواقفه مجرد مداهنة سياسية، متجاهلين جوهرها الديني، وأبعادها الإنسانية والاجتماعية، وهو ما تكرر كثيرا في فتواه بخصوص فوائد البنوك والختان، وقانون زراعة الأعضاء البشرية، وموافقته على التبرع هو شخصيا بأعضائه بعد مماته.

ومن بين كل فتاوى الشيخ طنطاوي تظل الفتاوى ذات الطابع أو المنحى السياسي هي الأكثر توترا وإرباكا، فرغم علمه الواسع بالتراث التوراتي والإسرائيلي فإن حديثه عن الجهاد ضد الاحتلال الإسرائيلي باعتباره فرض كفاية وليس فرض عين، وأنه من ثم لا يجوز لأي شخص أن يعبر الحدود بمبادة شخصية ليقاتلها، فتح النار عليه باعتباره ينطوي على «تمييع» لفكرة الجهاد ضد العدو، وتمييع لقضية تشكل الآيديولوجيا العقائدية ركنا أساسيا فيها. وزاد من فرص هذا التوتر مطالبة شيخ الأزهر الدعاة بعدم الدعاء على اليهود والأميركان والاكتفاء فقط بالدعوة لهم بالهداية، وإن لزم الأمر - على حد قوله - ممكن أن نقول «اللهم انصرنا على القوم الكافرين» دون تسميتهم. كما أثار استقباله حاخامات يهود في مكتبه بمشيخة الأزهر جدلا حادا بينه وبين بعض المفكرين ورجال الدين، لكن شيخ الأزهر رد عليهم بقوة بقوله: «إن الأزهر مؤسسة للدعوة وليس مؤسسة للتجارة أو السمسرة، وإلى أن يشاء الله سيبقى حاملا للواء الدعوة بالحسنى، فاتحا ذراعيه لكل من يطرق بابه، ولقائي بالحاخام اليهودي كان عاديا جدا في هذا الإطار، لكن البعض يصعب عليهم الفصل بين الأزهر كمؤسسة للدعوة ومؤسسات الحكم، وما يجب أن يتعلمه هؤلاء أن قفل الأبواب لم يعد يجدي». كما أصر شيخ الأزهر على المشاركة في كل مؤتمرات حوار الأديان التي يُدعى إليها، وإن كان بها يهود، ما جعل بعض مؤيديه يصفون هذا الإصرار بأنه «شجاعة» يحسد عليها، وفسر شيخ الأزهر ذلك بقوله: «الإسرائيليون يتهموننا بالخوف من مواجهتهم والانسحاب أمامهم في أي لقاء يجمعنا، فلماذا لا نثبت لهم أننا أيضا دعاة سلام ولا نرفض اليد التي تمد إلينا به؟». ورغم كل ما عاناه شيخ الأزهر بسبب مصافحته لرئيس إسرائيل شيمعون بيريس على هامش مشاركته في مؤتمر حوار الأديان في نيويورك عاد ليتصدر المشهد أيضا بصورته جالسا معه على منصة واحدة في كازاخستان، وبنفس الشجاعة أراح الباحثين بتبرير منطقي لمواقفه وتصرفاته المتباينة والصادمة، قائلا: «الجبان فقط هو من يخشى مواجهة عدوه».

طيلة حياته لم تفتُر همة الشيخ طنطاوي في الدفاع عن الحق والجهر به مهما كانت العواقب الوخيمة، وكان يسخر من مواقف بعض المثقفين والعلمانيين والسياسيين الذين يضعونه في خانة «شيوخ السلطة»، مشيرا إلى أن المفارقة أنهم «يريدون منه تسييس الدين وانتقاد أوضاع سياسية معينة ليست من اختصاصه». ورغم الظروف الشائكة التي تعرض لها لم يتخلَّ شيخ الأزهر عن سعة الصدر والتسامح، وكان زاهدا يمقت استغلال النفوذ والسلطة، فبعد دعوته لجلد الصحافيين الذين لا يلتزمون بأمانة الكلمة، وكسبه مواجهة قضائية مع صحيفة «الفجر» المستقلة لنشرها موضوعا أساء إلى شخصه، عاد وتقبل اعتذارهم. ومن مظاهر هذا التسامح تشديده على أهمية التقارب بين السنّة والشيعة لعدم وجود خلاف جوهري بينهما، كذلك دوره الكبير في التقريب بين المسلمين والمسيحيين في مصر ومحاولته الدائمة للوقوف ضد الفتنة الطائفية، خصوصا في ظل علاقته الوطيدة بالبابا شنودة الثالث بابا الأقباط الأرثوذكس.

ولد الدكتور طنطاوي في 28 أكتوبر 1928، في قرية سليم الشرقية بمحافظة سوهاج في صعيد مصر. وتلقى تعليمه الأساسي بقريته وحفظ القرآن الكريم ثم التحق بمعهد الإسكندرية الديني عام 1944، وبعد انتهاء دراسته الثانوية التحق بكلية أصول الدين وتخرج فيها سنة 1958، وحصل على الدكتوراه في التفسير والحديث بتقدير ممتاز في 5 سبتمبر (أيلول) 1966. ثم عُين مدرسا بكلية أصول الدين عام 1968، ثم عميدا لكلية أصول الدين بأسيوط عام 1976، ثم عميدا لكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين عام 1985، ثم مفتيا لجمهورية مصر العربية في 28 أكتوبر 1986، ثم عُين شيخا للأزهر الشريف في 27 مارس 1996 خلفا للشيخ جاد الحق علي جاد الحق. وانتدب للتدريس في ليبيا لمدة أربع سنوات، وعمل في المدينة المنورة عميدا لكلية الدراسات الإسلامية العليا بالجامعة الإسلامية.

تميز شيخ الأزهر بسعة العلم والمعرفة، وكان موسوعيا في علوم الفقه والحديث، بإجماع غالبية علماء الدين في مصر، وقد أثرى المكتبة الإسلامية بعدد من المؤلفات المهمة منها: «بنو إسرائيل في القرآن والسنة» عام 1969، و«التفسير الوسيط للقرآن الكريم» عام 1972، و«القصة في القرآن الكريم» عام 1990، «معاملات البنوك وأحكامها الشرعية» عام 1991. وكان شيخ الأزهر محدثا سلسا، يتمتع بأسلوب يجمع بين البساطة والعمق، وكان برنامجه «حديث الروح» بالتلفزيون المصري نافذة شيقة وخصبة لتبصير الناس بأمور الدين والحياة.

ومنذ بواكير حياته العلمية تزوج شيخ الأزهر بابنة عمه، وأنجب منها ولدين، أحدهما يعمل بالقضاء، والآخر بالجهاز المركزي للمحاسبات، أما ابنته الوحيدة فتعمل طبيبة أطفال.