معرض الرياض الدولي للكتاب الذي يختتم فعالياته اليوم (الجمعة)، والذي حقق نجاحا لافتا، وعد من أبرز المعارض التي أقيمت حتى الآن بسبب ما شهده من ارتفاع في سقف الحرية ومرونة فسح الكتب وتهافت دور النشر التي وصل عددها إلى أكثر من 650 دارا من مختلف دول العالم على المشاركة فيه بعناوين وصلت إلى نحو ربع مليون عنوان، أعاد الوهج للكتاب وعالج «فوبيا» الخوف من الكتب والهاجس من الرقيب. كما أعاد المعرض صورا متناقضة لمؤلفات الأقدمين الذين كتبوا في كل شيء وطرقوا في ثنايا كتبهم ونثروا في بطون أسفارهم أفكارا تم إبرازها أو ملاحقتها حسب المناخ السياسي والفكري والاجتماعي السائد، حيث سجل التاريخ قصصا عن كتب منعت وصحف أحرقت ودواوين دمرت وأسفار أغرقت ومكتبات هدمت وخزائن صودرت، كما عبر عن ذلك الباحث منصور بن عبد الله المشوح، الذي نجح في رصد وقائع تاريخية بخصوص منع الكتب الذي كان موجودا منذ أقدم العصور وكان حاضرا في جميع الحضارات، طارحا الدوافع التي كانت وراء هذا المنع الذي عرفته الحضارات والدول، سواء لدى الصينيين القدماء أو لدى اليونانيين أو الفرس أو العرب.
ولفت الباحث في كتابه الذي عنونه بـ«حكاية منع الكتب.. وقائع تاريخية ودوافع دينية وسياسية واجتماعية»، إلى أن ذلك المنع كان متباينا ومتفاوتا إلى حد كبير، إذ إن بعض الحضارات كانت تكتفي بمصادرة الكتاب وإنذار مؤلفه فقط، والبعض الآخر كان يمارس التعذيب والاضطهاد، أو النفي، أو ربما القتل، أو حتى الإحراق ضد الكاتب أو الناشر أو المؤلف.
ولعل من الأمور الممنوع على الكاتب التعرض إليها، ثلاثة مواضيع هي: الدين، والسياسة، والجنس. فهذه الأشياء مقدسة لدى كل الشعوب، إذ إن الدين يمثل الاعتقاد، والسياسة تمثل الدولة، والجنس يمثل المجتمع.
لذلك فإن التعرض للدين يعني الخروج عليه أو على شيء من تعاليمه، والتعرض للسياسة يعني انتقاد الحاكم فيما يفعله أو ما يفعل به أو ما تفعله حاشيته أو ما يفعل بها، والتعرض للجنس يعني بكل بساطة الانحلال والإباحية.
ويوضح الباحث المشوح في رصده لبداية المنع الفعلي لكل ما يسيء إلى الدين أن الرقابة على الكتب بدأت فعليا في عهد العباسيين، لأن التصنيف والتأليف الفعلي كان قد بدأ في عصرهم سنة 155هـ، ولأن الترجمة الحقيقية بدأت أيضا في عصرهم، وذلك عندما تولى أبو جعفر المنصور (ت158هـ) مقاليد الحكم، حيث بدأ منذ ذلك الحين تسييس الدين، مشيرا إلى أن تاريخ المنع الفعلي في عهد العباسيين يعود إلى سنة 167 حيث «اجتهد المهدي (ت169هـ) في السعي إلى تقطيع الفلاسفة وتمزيق كتبهم، ثم عندما جاء الخليفة هارون الرشيد(ت193هـ) أمر فقط بسجن أهل علم الكلام ثم أخرجهم، ثم جاء بعد ذلك المأمون (ت218هـ) فأطلق للحرية العنان، فتمتع علماء الكلام والفلاسفة وغيرهم في أيامه بأجمل حسنات الحرية المطلقة».
إن منع الكتب الفلسفية ومن ثم تحريمها في العصور الإسلامية كلها لم يكن قرارا عاطفيا على الإطلاق بل كان له ما يبرره، أعني كونها تفضي إلى الزيغ والانحلال، فممن حرمها ابن الصلاح (ت643هـ)، فلقد سأله رجل: «هل الشارع قد أباح الاشتغال بالمنطق تعلما أو تعليما؟ وهل يجوز أن تستعمل المصطلحات المنطقية في إثبات الأحكام الشرعية؟ وماذا يجب على ولي الأمر فعله إزاء شخص من أهل الفلسفة معروف بتعليمها والتصنيف فيها وهو مدرس في مدرسة من المدارس العامة؟»، فأجاب ابن الصلاح قائلا: «الفلسفة أس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المطهرة، المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة، ومن تلبس به تعلما قارنه الخذلان والحرمان، واستحوذ عليه الشيطان، وأي فن أخزى من فن يعمي صاحبه، ويظلم قلبه عن نبوة نبينا؟! وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشرع، ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسلف الصالحين».
لكن، وبالمقابل، فإن هناك من العلماء من دعا إلى تعلم الفلسفة قائلا إنها لا تضر بالدين، ومن هؤلاء ابن زرعة الفيلسوف (ت448هـ)، فلقد ذكر البيهقي، صاحب «تاريخ حكماء الإسلام»، أن لابن زرعة هذا، رسالة في أن علم الحكمة أقوى الدواعي إلى متابعة الشرائع، ثم ذكر البيهقي مقتطفات من تلك الرسالة وكان مما قال: «من قال إن الحكمة تفسد الشريعة فهو الطاعن في الشريعة، لا المنطقي الذي يميز بين صدق الكلام وكذبه».
ويتناول الباحث موضوع منع أو إحراق الكتب الدينية لأجل غاية دينية موضحا أن منع الكتب وإتلافها لم يكن مقتصرا - في العصر الإسلامي - على الكتب الفلسفية وحسب، وإنما هناك كتب أخرى كثيرا ما تم مصادرتها، إنها كتب ليس لها علاقة بالعقيدة، أعني بذلك كتب الفقه، ففي المغرب العربي - مثلا - كان المذهب المالكي هو المسيطر، ولما تولى زمام الأمور فيها عبد الواحد بن علي، أمر بإحراق كتب الفروع المالكية كلها، وأمر بوضع أحاديث الأحكام، وكذلك فعل حفيده أبو يوسف يعقوب، وذلك في سنة 595هـ.
وأما ما كان يمنع من الكتب في ستينات القرن الماضي، فإننا نجد أنه في لبنان قد تم منع الكثير من الكتب التي تشكل خطرا على الدولة والأمن القومي، وهذا الأسلوب - أسلوب المنع - موجود في كثير من دول العالم الحديث.
وفي عام 1962م صدر قرار لبناني يمنع كتاب «ثورة دم» لمؤلفه غسان طربية، ولقد تم منع هذا الكتاب لكونه «يتضمن ما يسيء إلى الدول العربية الصديقة، ولكونه أيضا يتضمن المساس بالشعور القومي». وكذلك تم منع كتاب «السجل الأسود»، وذلك عام 1962م، ويعود سبب منع الكتاب لكونه يشتمل على تحقير الدولة اللبنانية، ولكونه مثيرا للنعرات الطائفية والعنصرية.
كما تم منع كتاب «جدد حياتك» للشيخ محمد الغزالي، عام 1962م، لكونه يدعو إلى «إثارة النعرات الطائفية وتعكير صفو السلام»، كما منعت كتب الغزالي الأخرى: «ظلام من الغرب» و«عقيدة المسلم» و«كفاح دين» و«ليس من الإسلام»، لكونها هي الأخرى «تثير النعرات الطائفية وتعكر صفو السلام»! إن عدد الكتب الممنوعة في لبنان كما جاءت في كتاب يوسف خوري هي 245 كتابا تقريبا، وهي تشكل مجموع ما تم منعه منذ تاريخ 1950م حتى 1974م، أي خلال 24 عاما فقط.
ويتناول الباحث المشوح ثالث الأمور الممنوع على الكاتب التعرض لها بعد الدين والسياسة، وهو الجنس، موضحا أنه من الطبعي أن يرفض الإنسان المؤلفات الجنسية المخلة، لأنها ضد الحياء، ونحن نعلم يقينا أن الحياء هو خلق إنساني نبيل، ومطلب حضاري، ولذلك نلاحظ بوضوح أن الحضارات القديمة كانت تقف ضد تلك المؤلفات الإباحية، لأنها كانت تقف ضد الحياء، ويعتبر الإمبراطور أغسطس (63 ق.م - 14م) «أول من حارب هذا النوع من الكتابة الأدبية التي تدعو إلى الإثارة الجنسية، لأنه كان يرى أن هذا الأدب الشبق هو أحد أسباب الانحدار الخلقي الذي كان يعاني منه مجتمعه الروماني، ولذلك أمر بسحب الكتب التي تحرك مكامن الجنس من جميع المكتبات العامة».