وجوه شاردة، بلا أجسام، ممحوة العيون والأفواه، تتحسس ملامحها تحت طبقات الألوان الداكنة الثقيلة، وأخرى فاغرة، مسكونة بالخوف والقلق، تنظر بخبل لأجسامها المرتخية والمنتفخة، ووجوه فقدت الصلة بواقعها البشرى، فارتدت جسم طائر أو حيوان، أو التمست نوعا من الدفء العابر تحت سقف الماضي.
في ظلال كل هذه المرايا وبمنطق صانع الحكايات يواصل عادل السيوي غرامه بالوجه الإنساني، في معرضه الجديد بقاعة «أفق» في «متحف محمود خليل» بالقاهرة، ملتقطا ملامحه وتفاصيله من ركام الحياة، وقسوة الزمن. وبحماس لا يخلو من محبة وشفقة يتعامل السيوي مع وجوهه بشكل حميمي، كأنها أحد تجليات حلمه وخبرته في التعامل مع الخامة والعناصر والأشياء، ينتشلها من فضائها المادي الرخو الضيق، لتتحول في فضاء اللوحة إلى طاقة خصبة للتعبير والتأمل وإثارة الدهشة والأسئلة.
وعلى الرغم مما تحمله الوجوه من دلالات مكانية واجتماعية ورموز تاريخية وفنية وشعبية فإن نقطة الولع المركزية في الحكاية تظل مسكونة بهواجس الحلم والذاكرة، فالوجه لم يعد مجرد قناع، أو حامل لفكرة أو موضوع، وغيرها من الدلالات التي قطعها السيوي في أشواط فنية سابقة، بل صار أشبه بسبيكة تنصهر فيها كل هذه المقومات، حتى يكاد يكون تلخيصا لجذرية الحياة، وتقاطعات الروح والجسد.
وفي كل هذا، يولي السيوي عناية فائقة بأسلوبه الفني، فهو يحنو عليه ويهدهده كالطفل، حتى يستجيب بتلقائية لنزواته الفنية، ولانبثاقات الشكل المباغتة فوق السطح. فيما تشف مركزية الوجه عن حالة من التوحد بين ذاكرة اللوحة وذاكرة الوجه نفسه، حتى ليبدو أن كليهما يبحث في طبقات الآخر عن لحظة نور وتوهج شاردة ومتخفية، تتراءى أحيانا كالحلم، وأحيانا أخرى كذاكرة منسية ومهمشة في دهاليز الحياة.
ليس لدى وجوه السيوي رغبة في البوح، فهي معلقة في سرة الزمن كتميمة ضد الموت والزمن نفسه. تكبر أو تتضاءل، تنكمش ملامحها، أو تنفرج أساريرها، تنأى أو تدنو، أو تتخفّي تحت قشرة الألوان والخطوط، لكنها مع ذلك تتعايش بحب وعفوية في فضاء اللوحة، كأنه رحم حريتها وشهوتها الأولى، تنطلق منه وتعود إليه حاملة هواجسها ونداءاتها ورغباتها في الحياة التي كانت والتي ستكون. ومن ثم، لا يشف الوجه عن ظله، ولا يطمح أن يكون صورة طبق الأصل منه، بل يقترح عليه صورته الجديدة، كما يراها في مرآة اللوحة.
يرفد السيوي هذا المنحى بالمحافظة على إيقاع وجوهه المميز الأثير، فنشوة الارتجال تظل محكومة بنقطة ما من التوازن بين غريزته البصرية والفكرية، مما يمنح الشكل قدرا من الثبات والحيوية ويجعل الوجوه الغائمة بإيقاعها البيضاوي المستطيل، تبدو كمفتاح أو عتبة أولى للولوج إلى الداخل، بكل تراكماته الوجدانية والصورية، تاركة الخلفية وراءها كصدى، ورنين لحركة الوجه على السطح والداخل معا. وفي بعض اللوحات تبدو الخلفية بألوانها المنبثقة من اللون الأساسي في التكوين، وكأنها مرآة، يسبح على حوافها الشكل، ويصطدم بملامحه، ويحاول أحيانا تهشيمها أو الهروب منها.
وبمنطق الكتلة النحتية يشتغل السيوي على الوجه، وكأنه حفرية من حفريات المعرفة، إنه ينصت إلى نبض الخامة، بعجائنها وطبقاتها المركبة، وبعين ممسوسة بلذة الفن يطرح عليها هواجسه ورؤاه، ويمعن في إعادة الطرح والتأمل حتى تتحول هذه الهواجس إلى مادة، تشف عن قوام وتضاريس خاصة للجسم أو الوجه.. هذه الولادة المركبة تنعكس على تفاصيل وهوامش الوجه وخصائصه الفنية، من حيث الاختزال والتبسيط، والاستقلالية في اختيار الألوان بسحنتها البنية والرمادية المزرورقة والمصفرة أحيانا، أو في تنويع مظاهر التجريد بالخط واللون والفراغ، فالخط تارة رفيع بحواف ناعمة مسننة، لإبراز استدارت الشكل وبيضاويته وماهيته الخارجية، وتارة غليظ صارم، يتلوى بحنكة طفولية في تضاعيف اللون ويتماهى مع حركة الفرشاة العريضة، موحيا بكثافة التوتر في مسام الخامة، كما يضفي قوة تعبيرية وملمحا من المهابة على التكوين. ويلجأ السيوي أحيانا إلى تطعيم الشكل، ببعض المتويفات الاجتماعية والتاريخية المستوحاة من إرث الشكل، فيقوم بالرسم على الرسم نفسه، ما يوحي بتنوع وتعدد المنظور، وتحول الوجه إلى جغرافيا، له تضاريسه، ومقوماته الطبيعية الخاصة المطمورة في تراكمات فضائه السردي الشفهي.
يتضافر مع كل هذا إيقاع كتوم، يكتفي بالإشارات والتلميحات، منطويا على قدر من التوتر، والهدوء النسبي.. فلحظات الفرح تختلط بلحظات الحزن والشجن، لكن في استدارات الكتلة والفراغ، تلتقط عينك رائحة لأنشودة قديمة، معروقة بخطى البشر، وتراكمات الخبرة والحنين، لذلك يراوغ هذا الإيقاع على السطح، مغريا في الوقت نفسه، بمحاولة الغوص والنفاذ إلى الأعماق.
في لوحة تجمع نجمي الكوميديا الشهيرين في مصر «بيجو وأبو لمعة»، يطعِّم السيوي الشكلين من الأسفل، بأيقونتين: الأولى على شكل شيخ، والثانية على شكل قديس، في دلالة على أن الضحك لغة تسمو فوق أي عقيدة أو أيدلوجيا. وفي لوحتي «حيوانات تتسكع» و«حيوان في الرأس»، يطعم الوجه، خصوصا في الأعلى، برسوم لحيوانات وحشية، تطل، وتتجول بحرية، وكأن الوجه نفسه، يمكن أن يتخلى عن وداعته الإنسانية ويتحول في لحظة ما إلى غابة، أو وحش مخيف. ولم لا! فالإنسان بطبعه حيوان ناطق.
بيد أن السمة الأبرز في المعرض هي هذا الولع بجماليات التجاور، فالوجوه تتقاطع وتتباين في تيمات فنية متعددة، فهي أحيانا مسكونة بروح شعبية حارة، نلمحها في لوحات: «علي بابا» و«وبنات وأمهات من مصر» و«طبال وراقصة» و«الطرطور» و«وجيه القرية» و«ومحروس وقارئ الطالع». وأحيانا مسكونة بروح التاريخ والأسطورة الخاصة، كما في لوحة «السماء فوق إمبابة»، التي تستدعي شخصية نابليون بونابرت و«موقعة إمبابة» الشهيرة بينه وبين المماليك، أثناء حملته على مصر، وكذلك متوالية اللوحات ذات الطابع الفرعوني، ومنها «نفرتيتي» و«أخناتون» و«العائلة المقدسة».. وأحيانا أخرى تعبر اللوحات عن حدوسات معرفية، واللعب على أوتار رؤى وأفكار ذات طابع أدبي وحلمي، من قبيل لوحات: «رحالة ومواطنة»، و«جورج البهجوري في ثياب رامبراندت»، و«العناية بالقدم»، و«أناقة صينية»، و«خميس والبكري وسراب المصنع»، و«معجزة الشرق»، و«وسط البلد»، و«ما هو الفن» و«أفريقيا 1و2» و«سمرة» و«فلاح إيطالي» و«فينسيا».. وغيرها من اللوحات التي ينوع السيوي فيها مظاهر أسلوبه بمستويات لافتة من الثقل إلى الخفة، ومن الليونة إلى الرصانة، فالأعمال كلها تقع على تخوم التجريد، لكنها تثريه بتغير نشط في حركة الخطوط واندفاعاتها على مسطح الشكل، وتنويع الكتل اللونية التي تميل صبغاتها إلى النعومة والغنائية في اللوحات التي تستوحي المكان، وتصبح ذات رنين وذبذبة خاصة في اللوحات، التي تحتفي بالوجه الأنثوي، بكل تجلياته الإنسانية. لكن تظل كل حالة من هذه الحالات، هي التي تقترح شكلها، وطرق المعالجة والتعامل معها بوصفها حلما ممتدا في الزمان والمكان.
يبقى من الملامح اللافتة في معرض السيوي حلوله لمشكلات الضوء، فهو يتحاشى نمطية التضاد بين النور والعتمة، متعمدا أن ينفذ الضوء بشكل خاطف من حواجز وكتل داكنة، إلى مناطق لينة، مشكلا حزما وغلالات بصرية تبدو وكأنها محفورة في تفاصيل الوجه والجسم.. إنه ضوء خافت له وخز مشمس، يتواءم مع طبيعة الألوان الزاهدة ويشع منها، كما يكسب الشكل ثقلا في التعبير، ويشدنا غالبا لما وراء الوجه أو الجسم، فنتخيلهما طائرين يحلقان في فضاء لا ينتهي.