عندما نعى قادة إسرائيل قبل يومين الشخصية اليهودية البارزة، دافيد قمحي، حرصوا ليس فقط على إبراز تاريخه كقائد كبير في الموساد، جهاز المخابرات الإسرائيلي الخارجي ومدير عام أسبق لوزارة الخارجية، بل حرصوا أيضا على تجاهل صفحات من تاريخه السياسي «كرجل سلام»، بل كمقاتل من أجل السلام، خصوصا في السنوات الأخيرة الكثيرة من حياته.
هو بالطبع قائد ذو وزن كبير في الموساد، بل يمكن اعتباره «قائدا مؤسسا» لهذا الجهاز، الذي ارتبط اسمه بجرائم فظيعة في التاريخ، بينها تنفيذ 45 جريمة اغتيال بحق شخصيات عربية وفلسطينية وطنية. وقد أمضى قمحي الغالبية الساحقة من حياته في خدمة السياسة الإسرائيلية، الأمنية والعسكرية والسياسية. ولكنه من أولئك القادة الذين يصلون في مرحلة معينة من تاريخهم إلى وقفة صادقة مع الذات، ويتخذون القرار الصحيح. متأخرا، وقد يكون متأخرا جدا، ولكنه وصل إلى هذه اللحظة. ولم يسكت، بل عمل كثيرا على أن يتوصل إلى النتيجة نفسها إسرائيليون آخرون من الشارع، وكذلك من السلم القيادي. وهذا بالضبط ما حاول رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، ووزير الخارجية، أفيغدور ليبرمان، تجاهله في إعلان النعي، وتبعهما كثيرون. فمن دافيد قمحي هذا؟ وما دوره في الموساد؟ ولماذا ارتبط اسمه بفضيحة «إيران - غيت»؟ وما علاقاته في لبنان؟ ثم والأغرب.. كيف أصبح رجل سلام؟ وما الذي أراده من الدعوة للحوار مع حماس؟
ولد دافيد قمحي قبل 82 سنة في بريطانيا، لعائلة يهودية صهيونية كثيرة الأولاد من أصل سويسري. وهو أصغر أشقائه. عندما بلغ الثامنة عشرة، اختار الهجرة إلى إسرائيل، على عكس أشقائه الآخرين، وانضم فورا إلى التنظيم العسكري الصهيوني «هجناة». وفي سنة 1948، شارك في الحرب على جبهة القدس، وأصيب بجراح بالغة في مقدمة رأسه. وقد بقيت هذه الجراح علامة مميزة في رأسه، غطاها طيلة عمره بباروكة اصطناعية.
بعد حرب 1948، تقدم للدراسة في الجامعة العبرية في القدس، قسم الآداب. ولم يترك الجامعة إلا بعد الحصول على شهادة الدكتوراه، وقد خصصها لموضوع «الأفرو - آسيوية» في عصرنا. وتممها في جامعة السوربون في فرنسا. ولكن دراسته الجامعية لم تكن لغرض العمل الأكاديمي، بل جاءت كخلفية ثقافية وعلمية، وحتى غطاء لنشاطه في الموساد، الذي انتسب إليه في سنة 1950. فقد مكنته هذه الخلفية العلمية من البروز كشخصية قيادية موجهة في الجهاز، لدرجة أنه تحول إلى مؤسس للكثير من مناهج الموساد وتقاليده وعاداته.
بالطبع، ليس من السهل التعرف إلى حقيقة دوره في الموساد، فمن شدة خطورة نشاط هذا الجهاز وممارساته في دول العالم المختلفة، يحرص الإسرائيليون على التكتم بشأن الغالبية الساحقة من أفعاله، والكثير منها يأخذه معه إلى القبر. ومع ذلك، فإن الصحافي المعروف يوسي ميلمان، الذي يكتب في صحيفة «هآرتس»، كتب بمناسبة وفاته أنه كان من أصحاب النظريات الأساسية التي سادت، وما زالت تسود، في عمل الموساد حتى اليوم، وأنه «كان القائد الذي غرس عملاء للجهاز في العالم العربي». وهو نفسه أمضى سنين كثيرة في دول عربية وأفريقية عدة تحت اسم مستعار. وفي سنة 1965، أدى دورا مميزا في الانقلاب الذي وقع ضد الحكم الإسلامي في زنجبار. وكان شاهدا بشكل شخصي على الانقلاب، وغادر بعد أسبوع واحد فقط من نجاح الانقلاب.
كما ارتبط اسم قمحي بفضيحة الموساد الأولى، التي وقعت في أواسط الخمسينات في مصر. ففي حينه، أرسل الموساد مجموعة من عملائه إلى القاهرة، لكي يعملوا على تخريب العلاقات الناشئة بين مصر والولايات المتحدة. وكان هؤلاء العملاء من اليهود المصريين الذين هاجروا للتو إلى إسرائيل. وطلب منهم قمحي أن ينفذوا عمليات إرهابية في العاصمة المصرية، ووضعوا عبوات ناسفة لتفجيرها ضد مؤسسات أميركية، ولكن المخابرات المصرية كشفت المؤامرة بسرعة، واعتقلت العملاء جميعهم، واعترفوا بكل شيء، ونقل المصريون اعترافاتهم إلى واشنطن، فانقلبت العملية على إسرائيل وتحولت إلى فضيحة. وقد اضطر وزير الدفاع الإسرائيلي، في ذلك الوقت، بنحاس لافون، إلى الاستقالة، بعد أن تآمر عليه رئيس الوزراء، دافيد بن غوريون، وأفراد معسكره، وألبسوه ملفا هو غير مسؤول عنه.
قمحي كلف يومها بمهمة التحقيق حول كيفية تمكن المصريين من كشف العملاء. وقد أجرى هذا التحقيق وفق نظريته «كل شيء مباح في سبيل حماية أمن إسرائيل»، فسافر إلى ألمانيا، وقام بتجنيد ضابط سابق في الجيش النازي لصالح الموساد، وأرسله إلى مصر لاستقصاء الحقائق، فعاد إليه هذا الضابط بالخبر اليقين، فتبين أن المخابرات المصرية ضبطت أحد العملاء مصادفة، ويدعى أفري العاد، وحققت معه، فكشف عن تفاصيل الخطة قبل أن يبدأ تنفيذها. وبسبب هذا التحقيق تمت محاكمة هذا العميل في إسرائيل بعد إطلاق سراحه من مصر.
في السبعينات، تولى قمحي مهمة البحث عن «منفذ لإسرائيل في لبنان»، فسافر إلى لبنان بنفسه، وأقام علاقات مع مجموعة من قيادة «الكتائب» في ذلك الوقت. واجتمع بالرئيس بشير جميل في سنة 1976. وبفضل نجاحاته هناك ارتقى في سلم القيادة، وأصبح قائما بأعمال رئيس الموساد، ومرشحا لرئاسته. إلا أنه اختلف مع رئيس الجهاز، يتسحاق حوفي، واضطر إلى ترك الجهاز.
وعام 1980، قرر وزير الخارجية آنذاك، إسحق شامير، تعيين قمحي مديرا عاما لوزارته. وقد بدا هذا التعيين غريبا بعض الشيء لمن يعرف آراء قمحي السياسية. وحسبما تقول أرملته، روتي قمحي، فإنه كان يعارض فكرة «أرض إسرائيل الكاملة»، التي تنفي وجود وحقوق الشعب الفلسطيني والتي تبناها شامير، كما رأى قمحي أن إسرائيل أخطأت باحتفاظها بالضفة الغربية وقطاع غزة، وكان عليها أن تنسحب منهما فور الانتهاء من حرب 1967.
ولكن شامير اختار قمحي. ووافق قمحي على خدمة شامير لكونهما رفيقي سلاح، ففي الموساد كانا يعملان معا، وخاضا مغامرات غير قليلة سوية. ويقول أصدقاء قمحي إن شامير لم يعامله كمدير عام فحسب، بل ائتمنه على أسرار الدولة جميعها وأشركه في أدق القضايا، ووجد فيه رجلا يستحق الثقة. وسيحتاجه شامير لاحقا، ليكلفه بمهمة خطيرة للغاية، هي التقرب إلى نظام الثورة الإسلامية في إيران.
وبعد الانتهاء من الخدمة في الخارجية الإسرائيلية سنة 1986، عين سفيرا فوق العادة للمهمات الخاصة. وتركزت مهماته في إقامة علاقات مع القوى المعارضة للشيوعية الصاعدة في بولندا ثم في دول اشتراكية أخرى. وقد تمكن قمحي من قراءة الخريطة، فأرسل التقارير التي تفيد بأن دول أوروبا الشرقية ستترك الاشتراكية في القريب، وبدأ في إقامة علاقات جيدة مع المعارضة التي تتأهب لتسلم الحكم.
وعلى الرغم من أن قمحي تقاعد من العمل الوظيفي وتوجه إلى الاقتصاد، فقد ظل على علاقة وثيقة في السياسة، واضعا نفسه في خدمة الحكومات المتعاقبة. وحتى عندما كان يعارض سياسة هذه الحكومة أو تلك، لم يتردد في خدمتها. فقد اتبع أسلوب الموساد، بأن يخدم إسرائيل بغض النظر عمن يقود وعن السياسة التي تتخذ. ثم أنشأ «مجلس السياسة الخارجية»، كمرجعية لتطوير السياسة الخارجية للدولة وتحسين أدائها. وظل رئيسا للمجلس حتى آخر يوم في حياته.
وقد ارتبط اسم دافيد قمحي بفضيحة «إيران - غيت»، التي وقعت سنة 1985، وكشفت سنة 1986. وتمثلت هذه الفضيحة بشراكة في صفقة أسلحة التقت بموجبها مصالح إيران وإسرائيل والولايات المتحدة وحزب الله اللبناني.
وجوهر هذه الفضيحة هو أن الولايات المتحدة، التي كانت في العلن، تناصب إيران العداء، قررت بيع أسلحة لها تعينها في حربها ضد العراق، مقابل وساطة إيرانية لدى حزب الله ليطلق رهائن أميركيين اختطفوا في لبنان. كما أن الرئيس الأميركي، رونالد ريغان، الذي كان يريد إطلاق سراح الرهائن الأميركيين في لبنان، كان أيضا قد وضع خطة لمحاربة الشيوعية في العالم، من أفغانستان إلى كمبوديا وأنغولا ونيكاراغوا. لكن الكونغرس الأميركي منعه من تحويل الأموال إلى المتمردين الكونترا ضد حكم السندستيين في نيكاراغوا، فوجد في الصفقة مع إيران فرصة للحصول على أموال «من مصادر أخرى»، ومنحها للمتمردين في نيكاراغوا بالالتفاف على الكونغرس.
في حينه، كان إسحق شامير وشيمعون بيريس يتبادلان رئاسة الحكومة في تحالف وطني بين حزبي الليكود والعمل، فقررا مع وزير الدفاع إسحق رابين تكليف قمحي بالمهمة، بصفته يتمتع بأسلوب ساحر في تليين الأعداء. واختار قمحي للعمل معه كل من يعقوب نمرودي، وهو رجل أعمال كبير يمتلك صحيفة «معريب»، وكان قد خدم طويلا في الموساد كمسؤول عن الساحة الإيرانية في زمن الشاه، وإيلي شويمر، وهو أيضا رجل أعمال، وكان مديرا عاما للصناعات الجوية في إسرائيل. وقد نجحوا في إقامة العلاقة مع القيادة الإيرانية، وعقدوا الصفقة، وهى: 508 صواريخ «طاو» مضادة للدبابات، مقابل إطلاق الرهائن. والأموال وصلت إلى المتمردين في نيكاراغوا، بالطبع بعد خصم العمولات الإسرائيلية.
وتطورت العلاقات بين الإسرائيليين والإيرانيين لصفقة أسلحة ثانية، وهذه المرة من دون علاقة بحزب الله.. صفقة أسلحة عادية. وكان المطلوب 500 صاروخ «هوك» مضادة للطائرات. لكن هذه الصفقة تعثرت، حيث إن الإيرانيين وجدوا أن الدفعة الأولى مغشوشة. وقد لاحقوا يعقوب نمرودي في السويد، وهددوه بالقتل إذا لم يذهب معهم إلى البنك، ويعيد النقود التي قبضها كدفعة أولى.
وضمن قمحي أن تعاد النقود فعلا. وأعلن الإيرانيون أنهم لا يريدون أن يتعاملوا مع إسرائيليين، وأنهم يريدون التعامل مباشرة مع الأميركيين. وأرسل الأميركيون 1000 صاروخ «هوك» فعلا. ولكن إسرائيل تصالحت مع القيادة الإيرانية يومها، وعينت شخصا آخر بدلا من نمرودي وشويمر، هو عميرام نير، المراسل العسكري للتلفزيون الإسرائيلي. وقد قتل نير في حادث سقوط طائرة مروحية فوق سماء أميركا سنة 1988، عندما كانت تجرى محاكمة المتورطين الأميركيين في «إيران - غيت»، ومن بينهم الكولونيل أوليفر نورث.
عندما ترك قمحي مناصبه الوظيفية، بدأ يظهر كشخصية سلام مفاجئة، فانضم إلى حركة «السلام الآن»، وفي سنة 2003، كان أحد المبادرين إلى المحادثات الإسرائيلية الفلسطينية غير الرسمية، والتي انبثقت عنها «معاهدة جنيف»، ففي هذه المعاهدة توصل الطرفان إلى اتفاق سلام متكامل، على أساس مبدأ دولتين للشعبين، لهما عاصمتان في القدس، الشرقية عاصمة فلسطين والغربية عاصمة إسرائي،ل وتظل مفتوحة. ويتضمن الاتفاق حلولا تفصيلية لقضايا الصراع الإسرائيلي الفلسطيني كلها، بما في ذلك قضية القدس واللاجئين والحدود والأمن والمياه والاقتصاد، وغيرها.
وقد وقف على رأس الوفد الإسرائيلي، يوسي بيلين، والوفد الفلسطيني، ياسر عبد ربه. والمعروف أن هذا الاتفاق، الذي صدر في سنة 2003، أثار اهتماما عالميا كبيرا ضايق رئيس الحكومة الإسرائيلية، أرئيل شارون، وأحرجه. ولكي ينزله عن الأجندة الدولية، لجأ شارون يومها إلى خطة الانسحاب من طرف واحد من قطاع غزة وإزالة المستوطنات جميعها منها، وكذلك من أربع مستوطنات أخرى في شمالي الضفة الغربية، وقال إنه يريد إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للمناطق الفلسطينية، ولكنه لا يجد في ياسر عرفات شريكا لعملية السلام.
وقد انتبه قمحي إلى خطورة خطوة شارون، ولكنه لم يحاربها بل قاد اتجاها لتشجيعها بشرط التنسيق فيها مع السلطة الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات. وكان قمحي يقول إنه يفضل اتفاق سلام كامل وشامل، ولكنه في الوقت نفسه وما دام أن هذا غير ممكن، فهناك أهمية تاريخية أن يقدم قائد تاريخي لليمين على الانسحاب الكامل من قطاع غزة ويزيل المستوطنات. ويجب على قوى السلام أن تستفيد من هذه الخطوة، فورا، وكذلك على المدى البعيد. وكان قمحي من أشد المؤيدين والمتحمسين في إسرائيل لمبادرة السلام العربية. وسعى في الأحاديث الخاصة مع رؤساء الحكومات والجنرالات والوزراء إلى تأييدها، وعندما يئس منهم قرر الخروج بمعركة علنية ضد إهمال هذه المبادرة وتجاهلها.
وفي 26 أبريل (نيسان) 2007، على أثر إقرار مبادرة السلام العربية في مؤتمر القمة العربي في الرياض، كتب قمحي مقالا مشهورا في صحيفة «هآرتس»، تحت عنوان: «هل نخشى من السلام؟»، هاجم فيه حكومة إيهود أولمرت بشدة. ومما جاء في المقال: «مبادرة السلام العربية هي النقيض لما علمونا إياه في إسرائيل عن المواقف العربية. فبدلا من اللاءات الثلاث في مؤتمر القمة العربية في الخرطوم، شاهدنا أربع «نَعَمات» (جمع نعم): نعم للاعتراف بإسرائيل، ونعم للمفاوضات مع إسرائيل، ونعم للسلام مع إسرائيل، ونعم للتطبيع مع إسرائيل في حالة صنعها السلام. فهل يعقل ألا نتجاوب معهم؟ هل يعقل أن تكون لدينا حكومة تخاف من مفاوضات السلام؟ هل بدأنا نخاف فعلا من السلام؟ هل يمكن للقدس أن ترث الخرطوم وتصبح عاصمة اللاءات: لا للعالم العربي، لا لسورية، لا لفلسطين، لا للمواطنين الإسرائيليين الشغوفين برؤية الأمل وبمستقبل أفضل».
ويقول قمحي في مقالته بشيء من الحسرة إنه في حقب ماضية من التاريخ الإسرائيلي كان هناك قادة وجدوا في أنفسهم الشجاعة لاتخاذ قرارات غير عادية، تنطوي على إحداث انعطاف في المواقف، من بينهم دافيد بن غوريون، أول رئيس حكومة في إسرائيل، مناحم بيغن، صانع السلام مع مصر، وإسحق رابين، صاحب اتفاقيات أوسلو الذي دفع حياته ثمنا. ودعا أولمرت يومها أن يظهر الشجاعة ويتوجه إلى العالم العربي بإخلاص، معلنا التجاوب مع المبادرة العربية. وفي السنة الأخيرة من حياته، دعا قمحي إلى الامتناع عن محاصرة قطاع غزة والدخول في مفاوضات غير مباشرة مع حركة حماس، بوصفها الفائزة في الانتخابات الفلسطينية، وعدم تركها خارج الساحة لقمة سائغة لسياسة الرفض والتلاعبات الإقليمية. كان قمحي بعيد النظر في الاستخبارات، أقام علاقات ووثائق مع أشد أعداء إسرائيل، فهل يثبت التاريخ أنه كان بعيد النظر في السياسة؟