التاسع عشر من فبراير (شباط) الماضي، كان موعدا مهما بالنسبة للطهاة والمطاعم في بريطانيا وأيرلندا، إنه موعد نشر دليل «ميشلين» للتميز لهذا العام، إلا أن هناك من سرب النتيجة قبل طرح الدليل في الأسواق، مما أجبر المسؤولين العاملين في الدليل على طرحه قبل موعده المتفق عليه، تخوفا من تسريب المعلومات كلها، وضرب عمليات البيع والتسويق.
جميع الطهاة على أهبة الاستعداد للنتائج، على الرغم من أنهم لا يملكون أي إشارة تدل على حصولهم على نجمة، وذلك لأن العاملين لدى دليل «ميشلين» يأتون إلى المطاعم من دون إعلام المسؤولين أو الطاهي، وتتم معاملتهم كأي زبون يأكل في المطعم، فلا يعرف الطاهي أن مندوبين عن دليل «ميشلين» موجودون في المكان، ولكن كل طاه طموح يأمل في أن يكون اسمه ضمن لائحة الطهاة الناجحين والفائزين بنجمة من نجوم «ميشلين»، ذلك الدليل الذي يعرف عالميا بأنه السيف القاطع، الذي من شأنه أن يجعل من المطعم أو الطاهي نجما، أو يحطم سمعة الطاهي والمطعم معا.
ومن بين الطهاة الذين كانوا على أعصابهم قبيل إعلان النتائج، الطاهي البريطاني أندريه غاريت، رئيس الطهاة في مطعم «غالفن أت ويندوز»، الواقع في فندق الهيلتون، في شارع بارك لاين في لندن.
زارت «الشرق الأوسط» الطاهي غاريت (32 عاما) في مطعمه الواقع في الطابق الثامن والعشرين، وكان في انتظارها بطلته الخجولة، وبعينيه اللتين ما زالتا تحتفلان بالفوز بالنجمة الأولى، التي ميزت ذلك الطاهي الشاب الطموح، والتي كانت بمثابة حلم حياته.
جلس غاريت على طاولة في إحدى زوايا المطعم الدائري المميز بواجهاته الزجاجية من جميع الجوانب، والمطل على كل معالم لندن المعمارية والسياحية، واستقبلنا بابتسامة رقيقة، وعبر في مستهل حديثنا عن فرحه وسعادته بالفوز، وروى لنا كيف سمع الخبر، فقال: «عندما تغير موعد إعلان النتائج وطرح دليل (ميشلين) في الأسواق، كنت في المطبخ أحضر وجبات الغداء، وأذكر أنه كان في المطعم حينها أكثر من 50 زبونا، وجاءني مدير المطعم، فريد سيرييكس، ليطلب مني الذهاب برفقته إلى مكتبه لسماع النتائج، فحاولت التهرب من المسألة، متحججا بانشغالي في المطبخ، إلا أن إصراره جعلني أرافقه إلى المكتب، وعند إطلاق النتائج أغلقت أذني وأغمضت عيني، لأنني لم أستطع أن أتغلب على أعصابي، وعندما صرخ سيرييكس قائلا: (لقد ربحنا)، لم أصدق، فهذه اللحظة كانت فعلا لحظة من العمر لن أنساها في حياتي، وعندما رجع إلى المطعم أعلم الحاضرين النبأ السار، واحتفل الجميع بالنجمة، وتم تقديم الشراب للزبائن مجانا احتفالا بالإنجاز».
وأضاف غاريت أنه تفاجأ، على الرغم من عمله المركز في المطعم منذ أن تولى رئاسة مطبخه، منذ إطلاق «غالفن أت ويندوز» في عام 2006، وكان دائما يحلم بالفوز بنجمة «ميشلين» لتكون نجاحا إضافيا إلى سجل عمله الدؤوب، فأندريه غاريت، وهو بريطاني من مدينة باث، ولد في عائلة متواضعة جدا، كان يزور جدته التي كانت تعمل طاهية في أحد مطاعم المدينة، وكان يعشق مشاهدتها وهي تطبخ في المطبخ الصغير، وكان يحرص على مساعدتها من وقت إلى آخر. وفي البيت، كان يراقب والدته وهي تحضر الأطباق البريطانية التقليدية، وفي كثير من الأوقات كان يساعدها ويغير في الوصفات من دون علمها، وفي سن الـ15 قرر غاريت أن يحترف مهنة الطهي، فالتحق بمعهد لتعليم الطهي في المنطقة، وعمل في الوقت ذاته في مطعم 90 لدى الطاهي نيكو لادينيس، وبعدها عمل في مطعم نيكو سنترال، وانتقل إلى مطعم برونو لوبيه قبل أن ينتقل إلى العيش في لندن في عام 2000، عندما التحق بمعهد أوريري، الذي يديره الطاهي اللامع كريس غالفن، وفي عام 2002 فاز بمنحة دراسية في معهد عائلة «رو» العريقة، وعين كرئيس للطهاة في معهد أوريري، وبعدها عينه كريس غالفن رئيسا للطهاة في مطعمه «غالفن أت ويندوز» في الهيلتون.
وعن النجمة الأولى التي حصل عليها، يقول غاريت إنها البداية، وإنها المحفز على متابعة العمل الراقي على المستوى المطلوب، والاهتمام بالزبائن أكثر وأكثر، وأضاف أنه لم يعلم بحضور نقاد دليل «ميشلين»، وهذا يعني أن الطاهي المحترف، الذي يحترم عمله، يجب عليه أن يقدم الأفضل كل يوم في حياته، ويجب أن يتعامل مع طهي كل طبق وكأنه يطبخ لناقد طعام.
ويقول غاريت إنه لم يتوقع الفوز، ليس لأنه لا يستحقه، وإنما لأنه من المعروف أن نجوم «ميشلين» غالبا ما تعطى للمطاعم الصغيرة التي لا تتسع لأكثر من 50 شخصا، في حين أن «غالفن أت ويندوز» يتسع لـ100 شخص، وهذا ما يجعل الحصول على نجمة من الأمور الصعبة، كما أن المطعم تابع لسلسلة فنادق عالمية، وهذا أمر آخر يعيق عادة الحصول على نجمة.
وردا على سؤال «الشرق الأوسط» عما إذا كانت النجمة الوحيدة كافية، أجاب غاريت بأن النجمة جيدة، لكنّ نجمتين بالطبع أفضل، إلا أننا يجب أن نكون واقعيين، فللحصول على نجمتين لا بد أن يخصص استثمار إضافي فيما يخص الأكل والإدارة. وعلق بأنه طموح ولكنه لا يزال يعيش نشوة النجاح الذي حققه بمساعدة فريقه المؤلف من 24 طاهيا ومساعدا، ولم ينس غاريت فضل المدير العام للمطعم الفرنسي فريد سيرييكس، الذي قام بجهد جبار لإنجاح المطعم وجعله من أهم عناوين الأكل الفرنسي الراقي في لندن.
ويقول غاريت إنه لم يتسن له معرفة هوية الطبق الذي ساعده على الفوز بالنجمة، لأنه، كما ذكر، لم يعرف بوجود النقاد، ولكنه يعتقد أن كل طبق يقوم بتحضيره ناجح، فهو يملك المهارة والمهنية في تحضير كل أطباقه، واختار المطبخ الفرنسي لأنه مطبخ واسع ومرن، يمكن الطاهي من أن يبرز مهاراته وابتكاراته، فالمأكولات الفرنسية قابلة للتعديل، ويضيف غاريت أنه يحب استعمال البهارات والنكهات القوية. والمطبخ الفرنسي ساعده على ابتكار أطباق فرنسية تقليدية مع إضافة نكهات جديدة من دون التأثير على المذاق المعروف في المطبخ الفرنسي، ومن الأطباق التي يحب التحوير والابتكار فيها الأسماك، لأنها تساعده على الإبداع، فنكهتها معتدلة وغير قوية ويمكن التحكم فيها، من خلال إضافة نكهات وبهارات ومكونات أخرى، ويستشهد هنا بطبق سمك «جونن دوري» الذي يناسب المغامرين في الأكل، فهذا الطبق يشبه ألوان الطيف من حيث المذاق المتعدد، ويحرص غاريت أيضا على تقديم الأطباق بأشكال شهية جدا، لأنه يرى أن الصفة الأهم في الأطباق الفرنسية هي المظهر وطريقة التقديم.
وبالنسبة للمكونات، يقول غاريت إن «الكوزموبوليتانية الطعامية» أصبحت تسهل الحصول على أي مكون في أي مكان كنت فيه في العالم، ولكنه يحبذ السفر إلى الموطن الأصلي لكل مكون كلما سنحت له الفرصة لذلك، مشيرا إلى زياراته الكثيرة إلى عدد كبير من المقاطعات والمناطق الفرنسية التي تختلف فيها المطابخ باختلاف توافر المكونات.
ويشدد غاريت في مطبخه على الأطباق الصحية، وهذا ما تعلمه خلال أسفاره إلى كامبوديا وتايلاند وهونغ كونغ.
يشار إلى أن دليل «ميشلين» الخاص ببريطانيا بدئ العمل به منذ عام 1911، في حين نشر أول دليل لـ«ميشلين» في العالم عام 1926، وأصبح يخصص نسخة خاصة بلندن منذ عام 1974، ويعتمد الدليل على تقييم المطاعم والطهاة من خلال إرسال نقاد مجهولين متخصصين في تقييم الطعام، يزورون المطاعم من دون إعلام أي جهة بذلك، ومن حق الدليل منح نجمة أو أكثر لأي مطعم، كما يحتفظ الدليل أيضا بحق سحب أو إلغاء النجمة في العام التالي، كما حدث مع الطاهي البريطاني المثير للجدل، غوردن رامسي، الذي خسر نجمته التي كان يمتلكها مطعمه الواقع في فندق كلاريدجز، في منطقة مايفير اللندنية.